«الأقصر».. حاضرة إسنا
الطريق من الأقصر إلى إسنا مثير بالقدر نفسه الذي تمثله المدينة في التاريخ. فالمشهد المسيطر على الطريق هو النيل الذي يعانق الجبل. هذا المشهد عمره آلاف السنين لم يتأثر كثيرا بعوامل الزمن أو تأثير البشر عليه. وعبر هذا الطريق تصل إلى مدينة إسنا، المدينة الأسطورية التي تأخذ حيزا لا يستهان به في تاريخ المصريين القدماء. علاقة الطبيعة مع تلك المدينة علاقة فريدة من نوعها، فلقد أضافت لها الكثير من المعالم وشكلت وجهها الرئيسي وصورتها الأولى في التاريخ. فالمدينة عرفت بخصوبة الأرض ونضرة الزراعة، وأنت الآن يمكنك أن تلاحظ أن اللون الأخضر هو الغالب على المدينة، الكثير من الأشجار والنباتات التي تعكس خصوبة الأرض فيها وكرم النيل عليها، ومن أجل هذا ارتبطت المدينة بخنوم الذي كان يشكل الإنسان من طمي النيل المتوفر كثيرا في إسنا.
معبد خنوم
يقع معبد خنوم في منتصف المدينة كأنه الجوهرة التي تزين منتصف العقد. يقف قويا وشاهدا على تاريخ المدينة الطويل والغارق في القدم. معبد خنوم يعد أحد أجمل المعابد المصرية القديمة، لا بتاريخه فقط ولكن بزخارفه ونقوشه البينة والأنيقة التي لا تزال تنبض بالحياة حتى الآن. خصص هذا المعبد للإله خنوم الإله الذي يتم تصويره على هيئة إنسان برأس كبش يشكل إنسانا على عجلة الفخار. يشكله من طمي النيل للدلالة على خيرية النيل وفيض كرمه على المصريين. وهنا دلالة كذلك على علاقة الطمي بتلك المدينة تحديدا دون المدن المصرية القديمة الأخرى. يعود تاريخ هذا المعبد إلى العصر البطلمي، لكن امتداده التاريخي والحضري كان أبعد من هذا التاريخ بطبيعة الحال وهو ما يرجح وفقاً للمصادر التاريخية والدلالات الأثرية على أنه بني على أنقاض معبد أقدم منه في نفس الموقع.
تنزل إلى هذا المعبد باستثنائية مسافة لا بأس بها تحت مستوى الأرض الحالية لمدينة إسنا. لتشاهد أحد أروع الأعمدة المصرية بتيجانها المبهرة وألوانها النابضة، وتفاصيل فنونها العالية. هنا تجد الإنسان يتشكل وهنا كذلك تجد القمر ومنازله من اللحظة التي ولد فيها حتى اللحظة التي أصبح فيها بدرا مكتملا اكتمالا نهائيا. المعبد كفيل بأن يأخذك بجولة في مخيلة الفنان المصري القديم. المخيلة العميقة التي جسدتها يده البارعة في التمثيل والنحت. هذا المعبد دون المعابد الأخرى تشعر وكأنه حي بين أيدينا يحدثك وتحدثه من دقة ما نقشت على جدرانه التصاوير.
رخاء تاريخها
لا تنفرد إسنا كعادة تاريخها بهذا المعبد، بل هناك شواهد متعددة على رخاء تاريخها وجوده، فالمئذنة الفاطمية التي تقف بالقرب من المعبد. والتي كانت ملحقة بالجامع العمري أو العتيق بالمدينة. لا زالت صامدة حتى الآن، تؤرخ لفترة زمنية هامة في تاريخ المدينة، وتدلل على ازدهارها في الفترة الفاطمية قبل نحو 900 عام تقريبا. كانت المئذنة ضمن الآثار التي شيدها بدر الجمالي في الصعيد وهي واحدة من ضمن مآذن مشابهة لها جرى الحديث عنها في أصفون وقوص.
أما أكثر الآثار المنتشرة هنا والتي تبرز أهمية المدينة الاقتصادية في التاريخ فهي الوكالات، مثل وكالة حسن بك الجداوي والتي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر. حيث كانت جزءا من طريق الأربعين التجار الموصل إلى إفريقيا، لقد كتب على مدخل الوكالة عبارة جميلة تقول: “دار السرور ودار الخير والنعم حقا ورونقها غاية العظم.. فالسعد لها والبشر لازمها.. طوبى لساكنها.. الله يحرسها من كيد حاسدها بجاه طه التهامي”.
بيوت إسنا.. عالم من الجمال
كحال إسنا في جمل آثارها، تتميز إسنا في الأمور العادية، تتميز إسنا حتى في منازلها. فالمنازل هنا تحاكي فنا من نوع آخر، وهو فن تزيين العتبات والمداخل. العتبات التي تعبر عن ما يجول في خاطر صاحب المنزل. فصاحب المنزل يعبر عن حياته هنا بنقش أو صورة، فتارة يكتب آية من القرآن. وفي أوقات أخر يكتب تاريخ بناء المنزل أو تجديده، وبيتا من الشعر، وتارة يكتب بالقبطية إذا كان مسيحيا. لكن العبارة الأشهر على كل البيوت تقريبا هي كلمة “الخلاق الباقي”. التي تعبر حتما عن فلسفة المصريين في الحياة وعلاقتهم بالله صاحب النعمة التي يتقلبون فيها.
مدخل المنزل في إسنا يحمل الكثير من الدلالات والفنون، فالعتبات ليست وحدها. بل مقابض المنازل النحاسية هي الأخرى تحمل فنا آخر. المتعلقات التي تزين باب المنزل مثل القرون والحيوانات المحنطة. المشربيات الكثيفة التي تزين المنازل، كل هذا يبرز عمق تاريخ هذه المدينة واختلاط الناس به.
الأقصر
كانت تلك المقالة هي الأخيرة عن الأقصر، التي وعلى الرغم من مساحتها الصغيرة نسبيا مقارنة بمحافظات أخرى إلا أنها أكثر المحافظات ثراءً وأكثرها تنوعا وعمقا. ولا دليل على ذلك أكثر من كل تلك الآثار المصرية القائمة فيها والتي تنعكس ذلك على عمق الشخصيات في الأقصر في لباسهم ولهجتهم وطريقة تعاملهم. كانت زيارة الأقصر ذات تأثير عميق على النفس والروح. ففيها يستمتع الإنسان بالماضي والحاضر على حد سواء، ليلا ونهارا، بكل ما فيها من تنوع وثراء. فزيارة الأقصر واجبة على كل من يبحث عن الجمال.
اقرأ أيضا:
«الأقصر».. الطريق إلى معبد المدينة