مغادرة البيت

فصول من كتاب عبلة الرويني الجديد «لا سمع ولا طاعة » (1)

لسنوات طويلة، دربت نفسي أن أحذر الاقتراب، لا اقترب كثيرا.. اقترب بقدر، حتى يمكنني احتمال الغياب.. احتمال البعاد.. واحتمال الخذلان. لم يعد في القلب مساحات ليحزن أكثر أو يتكدر، لم يعد في القلب مساحات لموت أو خسران. تقدير المسافة هو بداية النضوج والحكمة. الأهم هو شرط السلامة واعتدال القلب، لا يفرح كثيرا.. لا يحزن كثيرا!

صحيح أني نارية البرج، نارية الانفعال، سريعة الغضب، مثال دال لمواليد برج الحمل. لكن مرور السنوات.. ومرور الخيبات، كانت دائما بردا (دون أن تكون سلاما)!

لا شيء يهم، كانت تجربة، أو كانت الحياة..

كثيرة هي الأبواب التي أغلقت، وكثيرة هي الأماكن التي غادرتها في هدوء وبساطة، دون ضيق ولا غضب. إغلاق الباب والمغادرة هذه المرة، ليست بسيطة ولا هادئة. لعلها تراكم غصة ثقيلة من مغادرة البيت، مغادرة «جريدة الأخبار».. بيتي الذي لم أسكنه.. أو سكني الطويل الذي لم يكن بيتي!!

كان جلال دويدار رئيس تحرير الأخبار سنوات التسعينيات يردد دائما، حين يتدخل العقلاء لديه في محاولة لإنصافي من ظلم واقع (ليس لديها انتماء للجريدة.. اسمها بالبنط العريض مسؤولة القسم الثقافي بجريدة الأهالي)! وكان ذلك صحيحا. بمعني أني لم اندرج يوما في منظومة القيم والمفردات والسياسات داخل المؤسسة. بعيدة دائما على أطراف الهامش، متناقضة في كثير من الأحيان. لكن 45 عاما منذ بداية دخولي جريدة الأخبار.. 45 عاما من المعافرة.. من الشد والجذب والبحث عن نافذة صغيرة تسمح بدخول الهواء.. 45 عاما من النجاح والفشل. في ذاتها معنى وقيمة وسيرة وتجربة غنية وعميقة لمشواري المهني.

45 عاما تركت غصة ثقيلة وأنا أغادر الجريدة، مغلقة الباب ورائي للمرة الأخيرة. 45 عاما هي عمر التجربة.. خطوط محددة.. ضوابط محددة، ومقاييس محددة.. أتحرك ضدها في الأغلب.. لا أحقق تماما ما أريد. لكني لم أفعل أبدا ما تحدده الضوابط والمقاييس، دون صدام ولا معارك.. والأهم دون سمع ولا طاعة.

***

في بداية تدريبي بالجريدة (1978/1977) قبل 45 عاما.. قال لي الناقد الفني عبدالفتاح البارودي، معلقا على بلوزتي الحمراء (ترتدين الأحمر الشيوعي)!!.. ولم أكن شيوعية (ولم أصبح).. لم أكن شيئا. مجرد فتاة تخرجت قبل أسابيع، قليلة الخبرة، كثيرة الدهشة.. ترتدي الأحمر دون وعي بدلالاته الخطيرة!!

كان الناقد الكبير يمزح.. لكنه يتكلم جادا، هو من يزين مقاله اليومي. مهما اختلفت الموضوعات التي يتناولها، بعبارات (الشللية والشيوعية التي تعمل على تخريب الثقافة)!!

مجرد بداية مازحة، تكررت مع أول حوار صحفي قمت بإجرائه للقسم الثقافي (بداية تدريبي في الجريدة) مع الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي. قامت المسؤولة الثقافية (حسن شاة) بحذف نصف الحوار. المقدمة وبعض الأسئلة.. قامت أيضا بتعديل بعض إجابات البياتي نفسه!! وعندما قمت بتصويب الحوار (فقط تصويب إجابات البياتي.. إعادتها إلى نفس ما قاله) خلال بروفة الصفحة. أقامت المسؤولة الثقافية الجريدة على رأسي، وإتهامي بمحاولة تخريب الجريدة (بدءا من الحوار مع مصدر شيوعي! إلى التسلل لقسم المونتاج وتغيير عبارات الحوار)!

أدهشني التعامل مع البياتي كشيوعي لا كشاعر. أدهشني أن يكون نشر الحوار مرهونا أو مصحوبا بتعديل إجابات المصدر! وأدهشني أكثر أن تكون مراجعة العمل وتصويبه فعل تخريب. وغادرت القسم الثقافي مبكرا، لكن لافتة «التخريب» لم تغادر منظومة العمل داخل الجريدة أو داخل المؤسسة.

قالها سعيد إسماعيل سكرتير تحرير جريدة الأخبار، وكان يقوم برسم صفحات جريدة أخبار الأدب في أعدادها الأولى فور صدورها. قام برفع مقالي «ثقافة الصحراء» من الجريدة، ورفض نشرة ضمن صفحة «من المحيط إلى الخليج» المخصصة للثقافة العربية، وكنت أقوم بتحريرها. لم يكن المقال نقدا ولا رأيا. مجرد تقرير خبري حول كتاب «ثقافة الصحراء» للناقد السعودي د. سعد البازعي الأستاذ بجامعة الملك عبدالعزيز، الصادر عن دار نشر سعودية في الرياض. صرخ سكرتير التحرير (تخريب.. تريدون منع الجريدة من دخول السعودية، وتكبيد المؤسسة الخسارة)!

***

وكان أن غادرت «أخبار الأدب» في مراحلها الأولى (1993). لكن أخبار الأدب وعلى امتداد مسيرتها، وامتداد عملي بها عبر مراحل مختلفة، كانت هي مساحة الحرية الكبرى داخل المؤسسة طوال رئاسة تحرير جمال الغيطاني، الذي كان يردد دائما «عبلة تكتب في الجريدة لحسابها الخاص». ويقصد أنها تكتب ماتريده وليس ما يريده رئيس التحرير، وكان ذلك صحيحا، دون أن يكون ثمة تناقض ولا خلاف.

عبلة الرويني بصحبة الروائي جمال الغيطاني والناقد والمفكر نصر أبوزيد
عبلة الرويني بصحبة الروائي جمال الغيطاني والناقد والمفكر نصر أبوزيد
***

تضاعفت مساحة الحرية في «أخبار الأدب» خلال رئاستي لتحريرها (2012/2011). كانت مصر بأكملها تطلع من جديد، تتوهج في ميدان التحرير مع ثورة يناير وإنتزاع المصريين لحريتهم. نفس مساحة الحرية تنفستها صفحات جريدة الأخبار خلال ثورة يناير. وافق ياسر رزق رئيس التحرير تلك الفترة، على نشر قصيدة أمل دنقل «أغنية الكعكة الحجرية» على صفحة كاملة بالجريدة. واختار أن تطبع الصفحة بالألوان، دون بقية صفحات الجريدة.. لتعلق منشورة في اليوم التالي على منصات ميدان التحرير، مستعيدة مجد القصيدة في اعتصام الطلبة 1972. عندما اعتصم الطلاب حول قاعدة التمثال الحجرية في ميدان التحرير “شمعدان غضب”. بينما أمل دنقل يجلس أمامهم في مقهى”ايزافيتش” يكتب «أغنية الكعكة الحجرية»:

أيها الواقفون على حافة المذبحة

أشهروا الأسلحة

توهج وجرأة وحرية شهدتها الأخبار طوال عام بعد يناير، حتى مجيء الإخوان إلى الحكم وتغيير رؤساء تحرير الصحف القومية. ليغادر ياسر رزق رئاسة تحرير الأخبار إلى جريدة المصري اليوم. وأغادر رئاسة تحرير أخبار الأدب، وأغادر جريدة الأخبار، وأغادر مؤسسة أخبار اليوم بكاملها إلى البيت، عاطلة عن العمل، عاطلة عن الكتابة!!

مغادرة حادة بحاجة إلى تفاصيل وشهادة أدق وأعمق. لكن عام الإخوان الأسود، رغم الإطاحة بي خارج الجريدة، لم يكن عاما معتما تماما تماما. كان الإخوان أشبه بالفئران المذعورة وسط إعلام وصحافة وشعب يناهضهم صباح مساء. فكان ثمة مساحات مفتوحة لانتقادهم في كثير من الصحف والمجلات والمؤسسات الثقافية. وهو ما عبرت عنه كثيرا في مقالات جريدة «الوطن» التي استضافتني بعد عزلي من الأخبار. المؤسف أن تأتي سنوات المنع والمصادرة بعد رحيل الإخوان!!

زادت الحسابات وتضاعفت المصالح والمخاوف، رقابة صارمة، قبضة حديدية عشوائية في كثير من الأحيان. بلغ حذف عمودي اليومي «نهار» حد العنف، ينشر يوما ويمنع أياما. أكثر من 86 نهار تم منعه خلال عام واحد (2017) ليتوالى العنف والانهيار.

***

باستثناء مساحات وحرية النشر في جريدة «أخبار الأدب» الأسبوعية المتخصصة. كانت مساحات النشر الصغيرة في الأخبار اليومية، في صفحة المسرح الأسبوعية المتخصصة، لا تسمح بحرية الحركة وإطلاق الخيال.وهو ما انعكس على شكل الكتابة. أكسبتني المساحات الصغيرة مهارة التكثيف والإيقاع السريع والقدرة على الإيجاز، حتى الكلام العادي. اكتشفت أني لا أطيل الحديث. لا طاقة لدي على الإسهاب والاستطراد والإطالة.

الرقابة أيضا والمنع المتواصل والمصادرة تركت تأثيرها على لغتي، نالت من الشغف والاهتمام. في البداية كنت أقيم الدنيا، أغضب واحتج على حذف المفردة، احتد من ملاحقة العبارة وحذف الجملة. بتكرار المنع وتصاعده من المفردة إلى العبارة إلى المقال بأكمله أصابني الضيق والكدر، مرتضيه بالمعادلة. أنا اكتب ما أريد.. وهم ينشرون مايريدون!

الكتابة اليومية وملاحقة الأحداث والاشتباك مع الواقع أحدثت تأثيرها أيضا على شكل الكتابة واللغة. صارت أكثر جرأة، أكثر حدة وخشونة ومباشرة. لا وقت لاختبار جمالها والعناية بمفرداتها، منتمية لعبارة بريخت (لا أستطيع الحديث عن الزهور الجميلة، حين يكون هناك بشر يقتلون). الكتابة اليومية هي علاقة أكثر وأعمق مع القارىء. مساحة من الثقة والمسؤولية تتضاعف كل يوم، وتمنحني كثيرا من القوة والوضوح.

***

كان اختيار محمد بركات رئيس تحرير الأخبار (2005) لي لكتابة مقال أسبوعي مرحلة هامة في مشواري الصحفي. المقال الأسبوعي سمح لي بمساحة من التأمل والاجتهاد والحضور. كما أن أصابع الرقيب لم تعرف الطريق إلى مقالي. لم اصطدم طوال مقالي الأسبوعي لأكثر من 4 سنوات، بوجه الرقيب الغليظ إلا قليلا.

وفي 2011 دعاني ياسر رزق رئيس تحرير الأخبار لكتابة عمود يومي. قلت فزعة: لا أستطيع الالتزام بالكتابة اليومية، فعل خطر، طاقة ومسؤولية أخشاها. قال: تستطيعين..

وكان «نهار» الذي اخترته عنوانا لزاويتي اليومية، هو أول عمود يومي لكاتبة في الصحافة المصرية. وكان ذلك مصدر زهو وتباهي. لم يحدث طوال سنوات «نهار» الأولى (2013/2011) حتى توقف العمود خلال عام الإخوان. لم يحدث أن تعرض «نهار» للمصادر والمنع. ربما حذف مقال أو اثنين عبارة أو مفردة على سبيل اختلاف وجهات النظر.. لا الحصار والرقابة.

***

بعض من تاريخ، بعض من سيرة، ومشوار من المعافرة وصفق الأبواب ومغادرة أخيرة. بعد 45 عاما قال لي رئيس التحرير الجديد حين تساءلت عن أسباب رفع مقالي «مزحة طه حسين» انتقادا لتصريح د.يوسف زيدان ود.فراس السواح أعضاء جماعة (تكوين) خلال مؤتمرهم العام (أنا وأنت أهم من طه حسين)!؟

قال لي رئيس التحرير: «المقال كان مجازا للنشر، لكنه رفع في اللحظة الأخيرة، قبل طباعة الجريدة». لم أعلق، ولم أسأل عن تلك الأشباح المنزعجة من طه حسين!!

فصل من كتاب «لا سمع ولا طاعة» للكاتبة والناقدة عبلة الرويني. تحكي صاحبة «الجنوبي» في كتابها الذي يصدر قريبا مشوارها في عالم الصحافة، وكواليس هذا العالم منذ السبعينيات وحتى مغادرتها-مؤخرا- جريدة الأخبار.

اقرأ أيضا:

قاهرة القرن العشرين في عيون أبوغازي: مدينة متنازع عليها

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر