شجرة كويتية تزدهر في جنوب الصعيد
شعور المواطنين في قنا بالظلم قوي وعميق، فمنذ اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح والبؤس يهيمن علي المكان الذي تحيط به الجبال من الشرق والغرب، والأراضي القليلة التي تصلح للزراعة موقوفة على مكة والمدينة. حيث كانت محصولاتها تُرْسل إلى الحجاز بسبب قرب قنا من البحر الأحمر.
لقد كانت قنا مركزا تجاريا هاما من مراكز التجارة العالمية. حيث كان يتم تحميل بضائع الشرق من ميناء القصير ويتم نقلها بالطريق البري إلى قنا. ثم تأخذ طريقها إلى أوروبا عبر النيل. وكان ذلك مصدرا كبيرا للثراء لكنه تحطم فجأة مع اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح.
هكذا نزلت قنا وصارت منطقة فقيرة، تعاني من المركزية الشديدة بلا سند، سوى سواعد أبنائها الذين انطلقوا نحو الشمال لبناء المدن الجديدة دون أن يحلموا بالعيش فيها. باستثناء إنشاء مصنع الألمونيوم بنجع حمادي منذ نصف قرن، لم تعرف قنا هواء التنمية. وصارت تعاني من مركزية الدولة على كل المستويات. ثم بدأت المعاناة تزيد بزيادة السكان وقلة الخدمات، حتى ظهرت في أجوائها نسمة جميلة، أتت من الكويت واستقرت في أعماق الناس بلطف شديد، ألا وهي نسمة آل المرزوق.
***
البؤس الطبي في قنا أول ما قادني إلى آل المرزوق فعندما تحدث مشكلة طبية كبيرة، أو تحتاج إلى سرير مجاني في غرفة العناية المركزة لا تجد أمامك الآن سوى مستشفى المرزوق. وقد ذهبتُ إليها عدة مرات وأعجبني طرازها الحديث. وفي كل مرة كنت أشعر بالامتنان لصاحب المستشفى. وعندما تتبعت حكايته مستعينا بصديقي العزيز الأستاذ عبدالحكيم القاضي وجدت كمَّا كبيرا من الأعمال الخيرية التي تتم في صمت شديد ومذهلٍ في ظل عالم لا يقدم الناس فيه شيئا إلا ليربحوا من ورائه أشياء وأشياء. عالم يتاجر الناس فيه بكل شيء، وينسحق الفقراء في ظلاله بلا هوادة أو رحمة.
لقد قدم آل المرزوق بالكويت أكثر من سبعين مشروعًا خدميًا لأهالي قنا والأقصر وأسوان وسوهاج. ولم أعلم عنها أي شيء حتى بدأتُ في البحث عن حكايتهم، لا دعاية ولا مهرجان ولا إعلان ولا يافطة كبيرة. عمل مستمر بلا حنجرة تصيح أو لَقْطة تنتشر كانتشار النار في الهشيم.
بدأتْ الحكاية من الأستاذ ناجي صديق نافل ابن قرية المحروسة، الذي كان يعمل بالكويت. ثم تحدث مع أحد أفراد آل المرزوق عن معاناة أهالي قنا بسبب عدم وجود مستشفى. بعد أن توقف مستشفى قنا العام عن العمل تقريبا، أو فقد قدرته على تلبية حاجة الملايين من أبناء قنا.
هكذا ظهر مستشفى المرزوق ثم توالت المشروعات الخدمية والخيرية لآل المرزوق. واشتملت على إنشاء خمسة عشر مدرسة على أحدث طراز معماري، جاء معظمها لخدمة المناطق المحرومة. وأكثر من عشرة مستشفيات أو وحدات صحية متقدمة، ورفع كفاءة بعض المستشفيات مثل مستشفى الصدر بقنا بنحو مائة سرير ودعهما بالأجهزة والمصاعد. ودعم بعض المستشفيات بأجهزة الغسيل الكلوي وأجهزة فصل الدم وإدخال وحدة جراحة المناظير لأول مرة في قنا لخدمة قطاع الصعيد بأكمله أُطلق عليها «وحدة جراحة مناظير عائشة المرزوق» بمستشفى قنا العام. وافتتاح مستشفى مرزوق عبدالوهاب المرزوق للطوارئ والحروق بجامعة جنوب الوادي بقنا. وجاري إحلال وتجديد مستشفى الرمد بقنا بتكلفة 300 مليون جنيه مصري.
***
كما قام آل المرزوق بإنشاء نحو خمسة عشرة مسجدًا على أحدث طراز معماري. فضلا عن مكاتب البريد ومكاتب التموين ومراكز الإسعاف، ومحطات تحلية المياه للمناطق المحرومة. ومساندة مئات الأسر السودانية النازحة من السودان عقب الأحداث الأخيرة. وتجهيز عدد من العرائس، وإسعاد غير القادرين والمشتاقين لزيارة بيت الله الحرام من خلال تنظيم رحلات للعمرة سنويا. وبناء نحو 100 منزل على أرض محافظة أسوان للأهالي وكفالة 330 أرملة بنفقة شهرية، وتوزيع كراتين طعام وأغطية ولحوم أضاحي. وتحمل تكلفة مئات العمليات الجراحية لغير القادرين. وترميم العشرات من المنازل وإمدادها بوصلات مياه الشرب النقية، وتكريم حفظة القرآن الكريم.
ما يحدث من آل المرزوق في جنوب الصعيد يعتبر نموذجا مثاليا لعطاء بلا حدود، مع زهدٍ في الأضواء، وترفعٍ عن الزهو أو تمنى الشكر. الأمر الذي يقابله شعب قنا وأهالي الجنوب بشكل عام بقدر كبير من العرفان والاحترام. لأن أعمال آل المرزوق تحترم كرامتهم ولا تتاجر بهم. لقد زرع آل المرزوق في قنا شجرة تاريخية سوف تبقى وارفة في ذاكرة الأجيال، لأن الصعيدي لا ينسى شيئين ولو تحطمت ذاكرته: الثأر والمعروف.
اقرأ أيضا:
التزوير والتزوير المضاد: حكاية بناء بني هلال لجامع السلطان حسن