قاهرة القرن العشرين في عيون أبوغازي: مدينة متنازع عليها
من صاحب الحق في تمثيل القاهرة؟ وما هي الجهة التي يحق لها أن تفرض تصورها للمدينة على الجميع؟ كيف دار الصراع بين مختلف القوى الفاعلة على صفحات القرن العشرين الطويل حول احتكار هوية المدينة الألفية؟ كل هذه الأسئلة سعى الدكتور عماد أبوغازي، المؤرخ ووزير الثقافة الأسبق، إلى الإجابة عنها في ندوة بعنوان (قاهرة القرن العشرين: قراءة في تحولات المدينة)، التي نظمتها مبادرة (سيرة القاهرة) بالتعاون مع (بيت المعمار المصري) و(صندوق التنمية الثقافية) في قبة الغوري الجمعة الماضي.
تبدو قاهرة القرن العشرين كما عرضها أبوغازي مدينة متنازع عليها، تعكس حجم الصراعات بين القوى الفاعلة في فترات متلاحقة في تاريخ مصر خلال هذا القرن الذي شهد الكثير من الانعطافات التاريخية، والتحولات الاجتماعية والسياسية المتطرفة في بعض الأحيان. وصعود تيارات وطنية حملت رؤية للمدينة ودافعت عنها. لتدخل النخب المصرية في صراع مع كل ممثلي السلطة للدفاع عن المدينة وتراثها على مدار القرن العشرين، ويسجل لها الانتصار في بعض المعارك وتخسر البعض الآخر.
فالقاهرة منذ بداية العصر الحديث مع تولي محمد علي باشا حكم البلاد (1805- 1848)، تخضع لعمليات تحديث من أعلى. تجلت بوضوح في نموذج “باريس على النيل” الذي تبناه الخديو إسماعيل (حكم 1863- 1879م)، في بناء ما نعرفه الآن باسم القاهرة الخديوية، وصولا إلى تدخل الاحتلال البريطاني في عمران المدينة (1882- 1953م). ثم حصل التحول مع صعود التيار الوطني حامل هموم الأمة المصرية بوضوح بعد ثورة 1919، الذي قدم أصوات المصريين وممثليهم في تطوير المدينة. في مواجهة رؤية النظام الملكي مع فؤاد الأول (حكم 1917- 1936) للمدينة شبه المستقلة. وصولا إلى العصر الجمهوري الذي بدأ في 1953، لتدخل المدينة مرحلة مختلفة.
***
كل هذه المعطيات التاريخية التي ذكرها أبوغازي شكلت الخلفية التاريخية التي انطلق منها في قراءة تحولات القاهرة في القرن العشرين. وهي فترة ثرية وغنية بالتفاصيل والمعارك التي دارت حول هوية المدينة والسيطرة على فضائها العام. وهو يستخدم هنا الأرشيف العائلي الغني الذي يغطي تقريبا القرن العشرين كله. بداية من شقيق جدته لوالده المثال المؤسس محمود مختار، أو والده الدكتور بدر الدين أبوغازي، الذي شغل منصب وزير الثقافة في مطلع حكم الرئيس السادات. ليقدم لنا عماد أبوغازي تجربة شيقة في ذاتها في تطويع الأرشيف العائلي لخدمة فكرة الدراسة التاريخية. خصوصا أن العائلة كانت منخرطة في تحولات القاهرة والصراع على هويتها بشكل أو بآخر على مدار ثلاثة أجيال، فهنا نرى المدينة مرة من خلال الباحث التاريخي المعاصر، ومرة ثانية من خلال وثائق أجيال عائلة واحدة عاشت وانخرطت في القاهرة على مدار قرن كامل.
ويتوقف المؤرخ المصري أمام حدث حريق القاهرة 26 يناير 1952، باعتباره ضربة لم تعد القاهرة كما كانت. إذ تراكمت تغيرات تالية أدت إلى تراجع النشاط الثقافي لمنطقة وسط القاهرة، وهو ما ظهر بوضوح في فترة السبعينيات من القرن الماضي، مع تولي السادات حكم البلاد وبداية الانفتاح الاقتصادي وغزو الأنشطة الاقتصادية للمنافذ الثقافية في وسط البلد. إذ تحولت العديد من المقاهي والمكتبات إلى محال لبيع الملابس والأحذية، بالتوازي مع تراجع نشاط دور السينما في المنطقة ذاتها، مع تحول في شكل ومعمار المدينة، وهو ما يرى أبوغازي أنه أصاب مختلف أنحاء القاهرة أيضا.
ورصد أبوغازي في الندوة المواجهات التي دارت على مدار القرن العشرين لتشكيل هوية القاهرة العمرانية. وكيف أن هذه الصراعات عكست طبيعة المواجهة بين الفاعلين الرئيسيين في المدينة. إذ ركز على المواجهة التي خاضها التيار الوطني لنصب تمثال نهضة مصر للمثال محمود مختار، والذي عبر عن تغير الفكر بنصب أول تمثال خارج إطار أسرة محمد علي أو العاملين معها.
وهو الأمر الذي أثار استياء الملك فؤاد الذي عطل عملية نصب التمثل إلى أن وضع أمام محطة مصر في العام 1928 إعلانا بانتصار الإرادة الوطنية. لكن عاد التمثال ليكون محل معركة أخرى عندما قرر نظام الضباط الأحرار نقله إلى مكانه الحالي بالقرب من جامعة القاهرة. وهنا دخلت شقيقات محمود مختار على خط الأزمة بمكاتبات للضباط الأحرار لمنع نقله من مكانه دون جدوى.
وبين نصب تمثالي مصطفى كامل وسعد زغلول في الميادين العامة. تقع فصول الصراع بين الحركة الوطنية والأسرة المالكة والاحتلال البريطاني، بحسب ما يوضح أبوغازي. فبعد وفاة مصطفى كامل في 1908، تم تكليف المثال الفرنسي ليوبولد سافين بعمل تمثال للزعيم الوطني الذي رحل في عنفوان شبابه. لكن التمثال وضع في فناء إحدى المدارس، ولم يتم نصبه في أحد ميادين القاهرة في العصر الملكي لرفض الملك فؤاد. لكن الأمور تغيرت بعد وفاة الأخير وموافقة الملك فاروق لوضع التمثال في الميدان الذي بات يحمل اسمه حتى الآن.
تكررت المعركة بشكل أكبر مع تمثال سعد زغلول، الذي رحل عن دنيانا في العام 1927، وتم تكليف محمود مختار بعمل تمثالين للزعيم المصري يتم نصبهما في القاهرة والإسكندرية. ورغم الاكتتاب الشعبي والحماسة الواسعة إلا أن المشروع تعطل بسبب موقف الملك فؤاد وحكومة صدقي العدائي من سعد زغلول. ورغم ذلك أنجز مختار التمثالين، وأرسى من خلالهما بحسب تحليل أبوغازي، مجموعة من القيم الفنية المرتبطة بالواقع السياسي والوطني. فلأول مرة يتحول تمثال شخصي إلى ملحمة تعبر عن ثورة الشعب المصري وطموحاته القومية، فجسد صور العدالة والدستور والاستقلال. فضلا عن تمثيل لمختلف فئات الشعب على قاعدة تمثال سعد زغلول بالقاهرة، ونصب التمثال في النهاية في موقعه الحالي 1938، بعد رفض الملك نصبه داخل القاهرة الخديوية.
***
واستعرض وزير الثقافة الأسبق، مصير بعض المباني التاريخية التي هدمت فأثر غيابها على الهوية البصرية للمدينة، مثل دار الأوبرا التي احترقت العام 1971. ورغم أن هناك محاولات واجتماعات لإعادة بنائها من جديد، إلا أن ما حدث هو بناء جراج قبيح مكانها. ثم هدم البناية الملاصقة لها من جهة الشرق والتي كانت بها قهوة متاتيا الشهيرة التي كانت مركزا للقاء النخبة المصرية. بداية من النديم والأفغاني ومحمد عبده. كما لفت إلى قصر البستان الذي كان مقرا للملك فؤاد قبل توليه الحكم. والذي أصبح مقرا للجامعة المصرية وجامعة الدول العربية ووزارة الخارجية. لكن القصر هدم في السبعينيات وأقيم مكانه مول البستان بطراز لا يتماشى مع المحيط المعماري لمنطقة وسط البلد.
كما تطرق الدكتور عماد أبوغازي إلى مصير قصر هدى شعراوي الذي كان يطل على ميدان التحرير ويقع على مدخل شارعي قصر النيل وشامبليون. ويكتسب القصر أهمية من شخصية صاحبتها التي تعد من أبرز رموز الحركة النسائية المصرية في العصر الحديث. فضلا عن أن القصر استخدم كمقر للاتحاد النسوي المصري الذي أسسته هدى شعراوي مع أخريات. لكن هذا التاريخ لم يشفع للقصر الذي هدم في عصر الجمهورية على أمل بناء فندق مكانه. لكن ظل مكان الفندق لا يستخدم لأكثر من خمسين عاما باستثناء كونه ساحة انتظار سيارات قبل بناء فندق شتيجنبرجر في مكان الفندق مؤخرا.
وأكد خلال الندوة أنه لا يعلم مصير بعض القطع التي تشكل علامات في تاريخ مدينة القاهرة الحديث. مثل القاعدة الحجرية الشهيرة بميدان التحرير التي كان يفترض أن يقام عليها تمثال الخديو إسماعيل. ثم تمثال الزعيم جمال عبدالناصر، ثم تمثال أنور السادات. لكن القاعدة الحجرية أزيلت بسبب أعمال إنشاء الخط الأول من مترو إنفاق القاهرة. ورغم الإعلان وقتها عن النية لإعادة نصب القاعدة مرة أخرى فإنه لا يُعلم مصيرها. كذلك أشار إلى كوبري أبو العلا الحديدي القديم، الذي كان من المفترض أن يتم نصبه أمام كورنيش النيل كممشى ثقافي. الأمر الذي لم ينفذ.
***
القاهرة كما يعرضها عماد أبوغازي في محاضرته المهمة تبدو مدينة متنازع عليها حول من يحمل حق تمثيلها والتحكم في فضاءاتها. ورغم تعدد اللاعبين على ملعب القرن العشرين إلا أن الملمح الأبرز الذي يلفت أبوغازي إليه الأنظار هو أن صوت الناس أصبح مسموعا في القرن العشرين نسبيا. مع صعود الحركة الوطنية وتكون جماعات النخب المصرية التي شاركت في كل المعارك على المدينة. ونجحت في إثبات موقف في بعض الوقائع وفشلت في معارك أخرى. وعملت على الدوام على صياغة قوانين ودراسات وتوصيات والتقدم للحفاظ على القاهرة وتراثها وتحسين شروط الحياة فيها.
اقرأ أيضا:
قاهرة أمين معلوف: ذكريات عائلية عن «الفردوس»