معرض «السكندري».. تأملات محايدة في شكل الإسكندرية للفنان محمد جوهر
تتواصل باستوديو «جناكليس» للفنون البصرية بمدينة الإسكندرية، فعاليات معرض «السكندري» للفنان التشكيلي محمد جوهر، والذي يستعرض خلاله الجزء البصري من دراسته الأكاديمية المستمرة عن تأثير المجتمع المعاصر على التحول الجغرافي للإسكندرية.
مشاهد من الإسكندرية
ترام أزرق، واجهة عمارة، لافتة محل بحروف أجنبية على عمارة ذات طراز شعبي، عقارات مائلة، بيت هُدم أحد جدرانه وألوان الشقق بداخلها تظهر مثل مكعبات البازل. هذه هي المشاهد الأولى عند زيارة المعرض، تعرف منها المدينة دون الحاجة لقراءة الوصف. إذ تعمد الفنان وضع رموز ودلالات المدينة في كل لوحة، ولا تعد تمثيلا لمشهد واحد في الإسكندرية، بقدر جمع عناصر مختلفة منها في صورة واحدة.
المعرض تستمر فعالياته حتى 15 إبريل المقبل. حيث يقدم فيه جوهر 12 لوحة تجمع كل منها عناصر مختلفة. رغم اختلافها إلا أنها تشترك في تمثيل المدينة كأنها جزءا من فيلم مضغوط متمثل في صورة واحدة يضم كل العناصر الواقعية.
يتحدث المعماري محمد جوهر لـ«باب مصر» عن المعرض ودراسته الأكاديمية، واختياره لأشكال وعناصر يستطيع أن يجسد من خلالها عروس البحر الأبيض المتوسط المعاصرة. ويقول إن هذه الأعمال الفنية تعد جزءا من بحثه الحضري، الذي استخدم فيه اللغة البصرية الفنية لدراسة ديناميكيات المجتمع السكندري المعاصر وتأثير على البيئة العمرانية للمدينة.
اختار جوهر الألوان المائية لأنها تعبر عن الألوان المبهجة والمتنوعة في الإسكندرية. ويقول عن اختيار الرموز في لوحاته: “ارسم أشكال من المدينة نراها كل يوم، ليست بالضرورة أن تكون مكان مميز، لكنها تعبر عن المدينة الحقيقية”. ويستكمل: “الهدف منها رصد تأثير وسلوك المجتمع ومستخدمين المدينة على البيئة المبنية”، واختار العناصر بدون تمييز. إذ تنقسم المدينة إلى مباني وشوارع تربطها بعضها البعض. وهذه المباني إما عامة أو سكنية لا يستطيع أحد التعامل معها لكنها حدود الشارع.
مشاهدة المدينة كسائح
استخلص الخبير الاستراتيجي في مجال التراث العمراني تجربته البصرية بين المباني والفراغات في المدينة. إذ يركز عمله في المقام الأول على البحث في الأصول التاريخية للتحضر والتطور المعماري للمدن في سياق المجتمع المعاصر والتاريخ الاجتماعي.
ويوضح: “هذه هي التجربة التي يتعامل معها الإنسان سواء مبنى عام أو خاص وفي الشارع كل شخص يعبر عن احتياجاته من المدينة باستخدامات مختلفة”. كما يوضح الفكرة بأن الفرد على سبيل المثال قد يعدل في واجهة ما بصورة فردية بشكل يخدم احتياجاته. أو يضع لافتة أكبر من المعتاد وهو استخدام سلبي. لكن في النهاية هذه التغييرات ينتج عنها صورة غير مترابطة والتعبير أصبح أنها نمطية تتكرر في كل منطقة بالإسكندرية.
ولكي نستخلص هذه الأشكال لتصبح محل الدراسة، يرى جوهر المدينة كسائح، ويفسر اختياره للتوثيق بالرسم وليس التصوير الفوتوغرافي، لأنه من خلال الرسم يستطيع جمع عناصر عديدة من أماكن متفرقة في لوحة واحدة. أما التصوير يكون محكوم بنطاق العدسة المحدودة.
المدينة بطريقة محايدة
تجسيد الإسكندرية في السابق بطريقتين إما مدينة جميلة كوزموبوليتانية تجذب الجميع بشكل عاطفي، أو بشكل سلبي يبرز العشوائيات والهدم. كان دافعا لتقديم جوهر الشكل الحقيقي للإسكندرية بطريقة محايدة. وعلى حد وصفه، يحاول جوهر من خلال هذه الدراسة عرض المدينة بدون تضليل، باستخدام عناصر محايدة تضمن رسائل عن الواقع بدون حلول لرصد وتحليل التأثير الجماعي على المدينة. وتقديم نقد بناء عن المجتمع وتأثيره.
ويعمل أيضا على رصد تأثير علم الاجتماع على العمارة والتخطيط الحضري، مع تقديم هذه المعلومات بصورة مرئية ومكتوبة لنقل الرسالة إلى جميع الأشخاص. بهدف تعريض المعلومات للأفراد العاديين قبل المتخصصين. حيث يمكنهم رؤية المدينة بمنظور مختلف، نظرًا لأن الحياة اليومية قد تحرم الفرد من القدرة على الملاحظة.
استغرق جوهر لتحقيق هذه الفكرة أعوامًا طويلة بدءًا من بلورة الفكرة حتى التنفيذ بشقيه الأكاديمي والفني. ولكن كان الدافع الوحيد في هذه الرحلة حبه وشغفه بالإسكندرية موطنه.
وصف الإسكندرية
ويستكمل المعماري من خلال هذا المعرض مشروع “وصف الإسكندرية” الذي بدءه في عام 2013 بهدف توثيق التراث الثقافي المادي وغير المادي للإسكندرية. كانت فكرة المشروع في البداية إنشاء منصة رقمية لحماية وتوثيق التراث الثقافي المادي وغير المادي للإسكندرية. من خلال الرسومات التخطيطية والتاريخ الاجتماعي لنقل صورة حقيقية للمدينة عبر جمع أبحاث وكتابات الأشخاص الذين يشتركون في نفس حب الإسكندرية.
ويقول لـ«باب مصر»: “مع مرور الوقت، أدركنا أن دورنا في تسجيل هذا التراث بطيء، ورغم أهميته، إلا أنه ليس الأهم. فالمدينة كائن حي يتغير، وتتغير الناس في محيطها بما يخدم احتياجاتها. لذا، قررت تغيير اتجاه بحثي ودراساتي لدراسة تأثير المجتمع على المدينة وتراثها”.
فيما يرى أنه بفهمه ودراسته لهذا التأثير يستطيع الحفاظ على التراث على المدى البعيد. ففي رأيه التوثيق مهم ولكن الأهم فهم كيفية تعامل الناس مع التراث وكيف يرونه وما يرغبون فيه، “بناءً على ذلك، سأكون قادرا على تزويد المتخصصين بالمعلومات التي يحتاجونها لتطوير طرق حفظ المناطق المعينة بهذه الطريقة” كما قال.
التوثيق والتخطيط
يتركز اهتمام جوهر على الصورة العامة للمدينة التي تحتضن كل شيء، وهي الصورة التي تتجسد فيها. ويضيف: “التوثيق والتخطيط هما جزءٌ لا يتوقف من عملي. حيث أقوم بمراحل التخطيط والرسم لفهم المدينة بشكل أفضل. وأقوم دائمًا بتسليط الضوء على مناطق متعددة، وليس فقط وسط المدينة. ألاحظ السلبيات والإيجابيات والتفاصيل المميزة وغير المميزة في كل شارع”.
يكتب جوهر الأبحاث المتعلقة بالمنطقة ويضم إليها الملاحظات حول تأثير البشر على المكان. ساعيًا لتحسين الدور العمراني والأساليب المعمارية الموجودة، مع تحليل تأثير الحالة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية على المنطقة. ومتابعة المحادثات غير المتاحة في المخططات الرسمية. ورصد كيفية تفاعل الناس وتصرفهم في المنطقة.
ويعمل الفنان السكندري على تقديم هذه المعلومات في صورة بحثٍ مكتوبة. مع إيجاد طرق فنية لتجسيد هذه الصورة في خياله. حتى تكتمل الصورة من خلال البحث وتقديمها بشكل فني باستخدام الدراسة وتجميع المعلومات. لا يعتبر جوهر تعدد مراحل البحث بين الجانب الميداني، والفني والأكاديمي، أمرا مُرهقا بالنسبة له. بل يشعر أنه يتعلم ويكتسب خبرات جديدة أثناء تجواله في المدينة كسائح وليس فقط كمستخدم.
الأماكن الثالثة
دراسته الملهمة كانت سببا للتعاون والتبادل الثقافي. إذ قامت كلية الهندسة قسم العمارة في الإسكندرية وقسم العمارة والفنون الجميلة في مرسيليا بتبادل الطلاب في العام الماضي. وعمل جوهر مع هؤلاء الطلاب لفهم كيفية قراءة المدينة من خلال هذا التبادل واستغلال هذا النهج في العمل الجماعي. ويقول: “قد يكون هناك في المستقبل تعاون آخر أو تبادل مماثل”.
على الرغم من أن معظم التفاعل مع المدينة يكون على نحو فردي، إلا أنه كمعماري يعرف نظريًا ما هو الصحيح وبناءً على خبرته الأكاديمية والعلمية، يقدم للناس نظرة عن الوضع الحالي وكيف يمكن أن تتطور في المستقبل.
بجانب توثيق الدراسة المستمرة بشكل أكاديمي، يعمل جوهر على إظهار النتائج في كتاب غير أكاديمي بالتعاون مع مكتبة الإسكندرية سينشر قريبا ويتناول تفاصيل مبانٍ في وسط المدينة، ويقول: “أعمل أيضًا على كتاب آخر يحمل عنوان – الأماكن الثالثة – عن الأماكن العامة وهو كتاب للقارئ العام وليس فقط للمتخصصين في المجال. ويعرض في هذا الكتاب كل رسم وتحليلًا معماريًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا”.
اقرأ أيضا:
حوار| الفنان التشكيلي محمد جوهر: المشي في الإسكندرية كأنها المرة الأولى