«المنيا».. الزراعة وطعام الناس
الزراعة هنا تنبئك بكل شيء، ما يأكله الناس وما يعملون فيه، عن ماضيهم كذلك وحاضرهم ومستقبل معيشتهم.
مباني بيضاء تتوسط تلك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية التي زينتها أعواد القصب الطويلة، تلفت تلك المباني الانتباه بشكل لافت. تسمى تلك المباني معاصر خُصصت لصناعة العسل الأسود المستخرج من أعواد قصب السكر. وهي صناعة تنتشر في جنوب المحافظة أكثر ما تنتشر في شمالها خاصة في مراكز أبوقرقاص وملوي وذلك بسبب درجة الحرارة المرتفعة جنوبا أكثر مما هي عليه شمالا وهو أمر ضروري في زراعة قصب السكر. تحمل الجرارات الزراعية القصب من الحقول نحو تلك المعاصر لاستخراج العسل الأسود. وهي أحد أهم الصناعات في المنيا بجانب صناعة السكر بطبيعة الحال من نفس المصدر.
تنتشر تلك المعاصر التي يملكها مواطنون لا الدولة، في شتى قرى ومدن جنوب المنيا. ويتم عصر القصب لتنزل العصارة إلى حوض رخامي به مصفاة لإزالة الشوائب. ثم بعد ذلك يأتي دور الأحواض التي يغلي فيها عصير القصب بدرجة حرارة مرتفعة ليتحول إلى اللون الأسود وهو العسل. بهذه العملية يستخرج الناس أحد أفضل وأنقى أنواع العسل الأسود في مصر كلها. وتتنافس كل معصرة مع الأخرى في استخراج العسل الأكثر نقاءً من خلال اعتمادهم على خامات مختلفة في الأحواض المخصصة للغلي سواء كانت نُحاسية أو من الألمونيوم أو طرق تصفية العسل بعد عصره.
القمح أصل كل شيء!
لا تقف زراعة قصب السكر وحدها في المنيا خصيصا والصعيد عموما، بل تنتشر كذلك زراعة القمح والذرة. القمح بشكل رئيسي يمثل عصب الاقتصاد الغذائي في الصعيد، فهو يدخل في أهم عنصر غذائي لدى الناس هنا. ألا وهو الخبز أو “العيش” الخبز بكل أنواعه الصعيدية التي برعوا في التفريق بينها بطرق مختلفة في الصناعة. عيش البتاو وعيش الدرة والعيش المرحرح والعيش الشمسي. كلها أنواع للخبز في الصعيد تختلف كل واحدة منها في المكونات وبطبيعة الحال في الشكل النهائي، إلا أن أفخم أنواعها هو عيش الدرة فيما ينتشر عيش البتاو بشكل أكثر في قرى المنيا وما حولها. أما العيش المرحرح والشمسي فكلامها عمودان رئيسيان على المائدة الصعيدية.
العيش أو الخبز هو المقوم الرئيسي للغذاء في الصعيد، لا يعتمد الناس هنا كثيرا على الأرز أو المكرونة مثلا. بل يعتمدون بشكل رئيسي على الخبر في الطعام. يرجع هذا لسببين، الأول منطقي لأنهم لم يعرفوا الأرز سوى في منتصف القرن العشرين، والثاني أن الخبز “يلكم” أكثر من أي نشويات أخرى. فهم يعتمدون على الكم لا الكيف في الطعام، فالخبز يجعلهم يشبعون أكثر وبسرعة خلاف أي عنصر طعام آخر. وهو ما يحتاجونه خاصة مع أوقات العمل الطويلة في الحقول أو الورش مما يجعل يلجئون إلى أكثر العناصر الغذائية إشباعا للتوافق مع تلك الأوقات الطويلة.
صناعة الفريك
لا يدخل القمح في صناعة الخبز فقط في الصعيد، بل في صنع الفريك الذي يستعملونه بديلا عن الأرز في حشو الطيور عند طبخها. وهو ما يؤكد عليه درويش الأسيوطي في كتابه الأهم “طبيخ الصعايدة” الذي صدر عن قصور الثقافة سنة 2021. وهو كما يوضح يصنع بتلك الطريقة، “يتم قطع السنابل قبل أن تتحول إلى اللون الذهبي ثم يتم تجفيفها أو تحميصها بعد ذلك على بلاط الفرن ثم يجرش قبل استخدامه. يستخدم كإضافة لبعض الخضروات أو منفردا باسم “دشيشة” أو في طواجن السمك واللحوم”. فضلا عن الفريك، فيطبخ من دقيق القمح أو طحينة المخروطة أحد أهم الأكلات في المنيا وأسيوط أيضا.
أما الكشك، فهو سيد الطعام في المنيا وهو من مستخرجات القمح أيضا، تشتهر المنيا بالكشك شهرة واسعة، تجعلهم يجزمون دائما أن أصل الكشك منياوي. يعتمد الناس عليه في رمضان كوجبة رئيسية في الإفطار عن طريق تطريته باللبن ووضع السكر عليه أو العسل أو البلح. أو يصنع مع البيض مثلا كوجبة يأكلها الناس في العشاء. يصنع الكشك بطريقة طويلة نسبيا، تتقنها الأمهات أكثر من الفتيات. إلا أنها تنتقل من جيل إلى آخر بشكل حتمي، وتبدأ صناعته في موسم نهاية الصيف مع بداية الخريف، ويتم تخزينه طوال أيام السنة.
ما تزعلوش على فخاركم
كان من بين الأمثال التي وقفت عندها كثيرا، هو “ما تزعلوش على فخاركم .. ليه أعمار زي أعماركم”. المثل الذي يستهدف الناس كنصيحة بألا يحزنوا على انكسار الفخار المستعمل في المنزل فله عمر كما عمر الإنسان تماما، يأتي له يوم ويبلى أو ينتهي.
لكن التأمل في هذا المثل ليس في معناه الظاهري وإنما في الباطن وهو ارتباط الناس بالفخار الذي يدخل في صناعة أدوات المطبخ .وهو ارتباط وثيق يبرز صلة الناس بالفخار المستخرج من أرضهم التي يرتبطون بها هي الأخرى. الفخار أحد أهم الصناعات في المنيا، لا تكاد تجد قرية أو مكانا منطويا في مدينة إلا وتلمح فيه ورشة فخار، صغيرة كانت أو كبيرة المهم أنها موجودة.
يعتمد الناس على استخراج الطين من الترع والمصارف ثم يخلطونها بالماء والتراب. ثم يضعون هذا الخليط على الدولاب المخصص لصنع الفخار بشكل أشكاله، وفي النهاية يتم وضع تلك التركيبة النهائية في الفرن لتخرج في صورتها النهائية.
القلل والأزيار
في قرية منشية الحواصلية استضافنا أحد الكرام عظيمي الشأن، كان اسمها عوض، له من الأبناء ثلاثة وزوجة ترعاه. يعمل اثنان من أبنائه معه في تلك المهنة التي ورثها عن والده. فيما يترك الأخير الأصغر سنا مرتاحا طيلة الوقت لأفضليته بين إخوته. كانت ضيافتنا هناك على سرعتها عظيمة الأثر في النفس. تناولنا أطراف الحديث عن الفوارق الظاهرية بين الفخار في المنيا وقنا وأسيوط والدلتا. واختلاف الخامات ونوع التربة بين هنا وهنالك والمشاكل العويصة التي تواجههم في صناعة الفخار إثر مشروع تبطين الترع الذي حال بينهم وبين الحصول على الطين منها. المشروع الذي توقف مؤخرًا بسبب عدم دراسة الجدوى، الأمر الذي كلف الدولة مليارات الجنيهات. لكن القدر خدم الرجل كما خدم مصر بتوقف مشروع غير مدروس كهذا. على كل حال كان الحديث شيقا ماتعا معه.
لا يتوقف الناس في القرى تحديدا عن شراء الفخار والاعتماد عليه في الأكل والشرب. الأزيار والقلل التي تملأ الشوارع وأمام المساجد كفيلة بأن تنبئك عن أهمية هذا العنصر في حياة الناس هنا. وأهمية صناعة الفخار هنا في الصعيد تكمن في أنها تلبي احتياجات الناس الوظيفية في المأكل والمشرب. كعنصر صحي أكثر من العناصر الأخرى. فضلا عن زهد ثمنه مقارنة أيضا بأثمان الصيني والأطباق الأخرى، لا كمشروع دعائي يقصد به تعليب التراث في شكل فخاري.
اقرأ أيضا:
«المنيا».. بين المساجد والمنازل