كتب القاهرة «الجديدة».. حماية الذاكرة في مواجهة الطمس!
المدينة في خطر.. هاجس يسيطر على جميع المهتمين بتاريخ القاهرة في اللحظة الراهنة
في ظل حراك عمراني تشهده مدينة القاهرة ويثير حالة من الانقسام والاستياء بين صفوف المهتمين بتاريخ العاصمة المصرية. رشحت على السطح مجموعة من الكتب التي تشكل موجة جديدة في الكتابة عن مدينة القاهرة من زوايا مختلفة ومبتكرة. ظهرت تباعًا خلال الأشهر القليلة الماضية، وتعكس كلها حجم الصراع الدائر على هوية المدينة بين السلطة، وبين جمهور المثقفين من المؤرخين والمعماريين والجغرافيين والموثقين لمعالم المدينة. إذ يرفع الفريق الأخير شعار حماية الذاكرة وإبقاء ذكرى معالم المدينة في مواجهة معاول الهدم التي تهدد أركان المدينة بالمحو والنسيان.
هاجس أن المدينة في خطر، مسيطر على جميع المهتمين بتاريخ القاهرة في اللحظة الراهنة. فهناك تحولات تقودها الدولة رسميا في المدينة بحجة تطويرها. لكن بعض مشروعات التطوير -المقبولة من حيث المبدأ- تتعارض مع مفهوم الحفاظ على تراث المدينة. لذا تعددت فصول المواجهة بين الفريقين في عدد من الملفات المعنية. منها عمليات التطوير الجارية في قلب القاهرة الفاطمية داخل الأسوار، وتلك المتعلقة بإزالة عدد من المقابر الأحواش في القرافة. فكانت النتيجة الإيجابية هي ميلاد روح تسعى للحفاظ على ذاكرة المدينة إن لم يكن فعليا فعبر صفحات الكتب. لذا جاءت عناوين الكتب الصادرة مؤخرا معبرة عن روح مقاتلة تعكس الخوف على المدينة من أن يسقط تراثها التليد في بحر النسيان بعد أن أنهكته عقود من الإهمال.
***
ربما تكون نقطة البداية من كتاب (القاهرة مؤرخة)، تحرير الدكتور نزار الصياد، أستاذ العمارة والتخطيط وتاريخ العمران المتميز بجامعة بيركلي كاليفورنيا الأمريكية. والصادر نهاية العام الماضي، والذي شارك فيه نحو 21 باحثا من تخصصات مختلفة وقدم مداخل متنوعة يغلب عليها الابتكار، للتعاطي مع المدينة على مدار أربعة عشر قرنا. ما فتح الباب واسعا أما المزيد من التعاطي النقدي من جهة. واستخدام الكتابة كحارس للذاكرة من ناحية أخرى، وهو ما نجده في عدد من العناوين التي صدرت بعد (القاهرة مؤرخة).
حماية ذاكرة المدينة هو الشغل الشاغل لكتب (الفسطاط وأبوابها) لعبد الرحمن الطويل. و(أحاديث الجوى في اقتفاء أثر القاهرة) لحامد محمد حامد. و(كنوز مقابر القاهرة: عجائب الأمور في شواهد القبور) لمصطفى محمد الصادق. فالكتب الثلاثة تشترك في هاجس الخوف على أجزاء من المدينة ضائعة، أو في حكم الضائعة، أو تحت خطر الضياع. فالطويل في كتبه الصادر عن (دار العين للنشر) يستعيد مدينة الفسطاط أول عاصمة لمصر تحت الحكم العربي الإسلامي. في المنطقة التي تشهد عمليات بناء وتطوير تجري حاليا دون إجراء حفائر أثرية في المنطقة الغنية ببقايا العاصمة المصرية لأكثر من ثلاثة قرون. لذا يحافظ الطويل في كتابه على سيرة المدينة المندثرة ويوثق معالمها كتابة. والتي نشهد الآن ضياع الباقي من أطلالها.
***
أما حامد محمد حامد فينطلق في كتابه الصادر عن (دار الرواق للنشر). من البحث عن المفقود بالفعل في المدينة بفعل الزمن والبشر، ويقدم مرثية للضائع والمندثر في المدينة. لكن الرسالة الأهم هي تحذيرية ومضمنة في طيات الكتاب بأن تبديد تراث المدينة سيجعلها كلها في يوم من الأيام أثر بعد عين. إذا ما لم ننتبه له ونحافظ عليه. لذلك لم يكن غريبا أن ينطلق الكتاب من قصيدة الأطلال بنسختها الكلثومية التي يوظفها صاحب (أحاديث الجوى). في بناء عمله الذي يستعيد الأطلال الضائعة في بحر النسيان. ويمنحها شرعية بقاء بعد أن خلدها على الورق وفي ذاكرة البشر من جديد.
الأمر ذاته ينطلق منه مصطفى الصادق في كتابه عن شواهد القبور والصادر عن (ديوان للنشر). والذي يسعى من خلاله إلى لفت أنظار الجميع إلى ما تحتويه جبانات القاهرة من تراث هائل غير مكتشف. وهي رسالة صريحة لجميع الجهات المسؤولة للحفاظ على تراث الجبانات لا تبديده. يقول في مقدمة الكتاب مخاطبا القارئ: “سوف ترى كنوزًا وتراثًا قد اندثر بعضه مع الأسف، لذا فإنني قد سعيت لنشر هذا الكتاب لكيلا تبقى هذه الكنوز مخفية عن كثير من أبناء وطني”. أنه تحريض للقارئ ليعرف تاريخ وتراث بلده ويسعى بدوره لحمايته ومنع تبديده.
تترسخ هذه الحالة في ثلاثة كتب مترجمة وصادرة عن المركز القومي للترجمة. وتدور كلها حول المدينة ويسكنها البحث في ذاكرتها وتحدي النسيان. بداية من (قصور مصر المنسية) لكارولين كورخان، وترجمة نانيس حسن عبد الوهاب. مرورا بـ(القاهرة محاولات لإنقاذ التاريخ) لمحمود إسماعيل. وترجمة عاصم عبد ربه، وانتهاء بـ(مدن تثير العاطفة: أفكار حول التغير الحضري في برلين والقاهرة)، لجوزيف بن بريستيل، وترجمة ريهام أبو دنيا. هنا نجد مصطلحات “النسيان” و”الإنقاذ” و”العاطفة” و”التغير”. وهي معا تبدو معبرة جدا عما يعتمل في عقول ومحبي القاهرة في اللحظة الحالية التي تنفتح فيها المدينة أمام مستقبل يحمل كل الاحتمالات.
***
وإذا عدنا بالذاكرة لنحو عام مضى سنجد كتابي عادل سيف (أماكن منسية في القاهرة الخديوية)، و(أماكن وذكريات في القاهرة الخديوية)، وكتاب ميشيل حنا (كنوز وسط البلد). لنقف أمام حالة من الدفاع المستميت عن ذاكرة المدينة بوصفها المكان الذي عاش فيه كل هؤلاء ونسجوا ذكرياتهم، وعقدوا علاقاتهم الاجتماعية الحميمية التي تشكل الرابط الأساسي بالمكان. لا يحتمل أي منهم أن تتعرض هذه النقاط الاستدلالية على ذكرياتهم للمحو. كما هو حال كل واحد عاش في المدينة وتعلق بها، فالمدينة هنا لأهلها الذين تمثلوا في مجموعة من المهتمين بتراثها. والذين يعملون على توثيق تراثها من زوايا مختلفة ومتنوعة، بما يكشف عن عمق تراث القاهرة وحساسيته في الآن نفسه، ما يجعل عملية المساس به بشكل غير مدروس عبث لا يليق.
ترتد تلك الكتب كلها إلى نقطة مركزية تهيمن عليها جميعا. وهي الخوف على المدينة من الخراب وتبدل مصيرها وتبدد معالمها، وهي روح تعود بنا إلى السلف العظيم لكل هؤلاء. وأقصد هنا العلامة تقي الدين المقريزي، مؤرخ القاهرة الأبرز عبر العصور. فالأخير نعى الخراب الذي طاف بالقاهرة في النصف الأول من القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي. فحاول حماية الذاكرة الجمعية من عوامل الخراب التي تفضي إلى النسيان وهي أقصى عقوبة تقع على معالم المدينة. ومن حسن الحظ أن الدكتور ناصر الرباط، أستاذ كرسي العمارة الإسلامية ومدير برنامج الأغاخان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. أصدر كتابه عن (تقي الدين المقريزي: وجدان التاريخ المصري)، حديثًا والذي سنخصص له عرضا شاملا قريبا.
***
ما يهمنا هنا هو تركيز الرباط على حالة الشجن والحزن التي تملكت المقريزي عندما شاهد مدينة القاهرة وهي تتفسخ في العصر المملوكي الجركسي. مع عموم الخراب وتراجع العمران بسبب فساد الحكام من طبقة المماليك. الأمر الذي جعل المقريزي صاحب نغمة حزينة كللت كتابه العظيم (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) بروح فريدة تنعي المدينة وتراثها. يقول الرباط عن الحالة التي تملكت مؤرخ مصر الأعظم: إن الخراب “هو الذي يدفع المقريزي في سباق محموم مع الزمن. لأن يسجل بولع زائد جميع التفاصيل العمرانية والمعمارية والتاريخية المهمة من وجهة نظره. خشية اندثارها وبالتالي نسيانها ونسيان ما نشأ عنها من العز والبحبوحة والاستقرار في البداية. فهو من خلال كتابه يتمسك بذكريات قاهرته التي ولت مع التدهور الحاصل”.
هذه الروح التي سكنت المقريزي هي نفسها التي سربها إلى أحفاده الذين يكتبون عن القاهرة المعاصرة. وإذا كان عامل الخراب مستبعدا في يومنا هذا لاستحكام عمران القاهرة واستبحاره بصورة عصية على السيطرة أحيانا. فإن ما يصيب أحفاد المقريزي بالخوف في يوم الناس هذا. هو تدهور المدينة القديمة، أن تدهسها الحداثة وعمليات التطوير الجارية، أن تضيع معالم المدينة في زمن التحولات المتلاحقة. ففي النهاية كما رأى المقريزي في الماضي، ومن يكتب عن القاهرة في الحاضر، فالقاهرة ليست ملكا للسلطة أو الحكومة. بل هي في الأساس ملكا لأصحابها الحقيقيين، أي القاهريين جميعا.
اقرأ أيضا:
«ابن الطويل».. واستعادة الفسطاط الضائعة