«المنيا».. بين المساجد والمنازل
العمران هو المؤشر الأكثر حيوية وتعبيرا عن المدن، يشهد على سلوك الناس في ثباته وتغيراته، ويعبر عن توجهاتهم باختلاف طرائقهم، ويرتبط كذلك بمعيشتهم الاقتصادية والاجتماعية بشكل لا انفصام فيه.
مجتمع المساجد
على شاطئ النيل في مدينة المنيا، تقع مجموعة من المساجد التي ارتبط ذكرها بالناس عبر العصور المختلفة لتاريخ الإسلام. ينفرد كل مسجد كما عناصره المعمارية تماما بحالة خاصة معهم تستمد روحها من رواية نسجتها ألسن الناس وحكاياتهم حول جدرانها وأعمدتها. هنا مسجد ارتبط بحياة الناس وشؤون دنياهم ودينهم وعلاقتهم بالسلطان بعيد المنال. وهناك مسجد كذلك ارتبط بحياتهم الأخرى وقبورهم وتوديع أحبابهم، وفي كل واحد منهم نمط عمراني مختلف.
ففي مدينة المنيا عاصمة المحافظة، يقع مسجد اللمطي كما يحب أن يطلق عليه الناس. نسبة إلى الشيخ سعد بن محرم اللمطي الذي أتم بنائه لذلك نسب إليه. لكنه في الأصل مسجد فاطمي بناه الصالح طلائع بن رزيك الوزير الفاطمي القوي، صاحب المسجد الذي يقع قبالة باب زويلة في القاهرة. والمسجد هنا يتخذ من النيل موقعا حيويا، يصل الناس إليه بسهولة كما حال المساجد الجامعة الرئيسية في المدن والقرى.
يتشابه المسجد في بعض عناصره المعمارية مع بعض المساجد التي أنشئت في القاهرة عاصمة الدولة، لكنها يختلف كذلك في بعضها الآخر الذي تميزت به المساجد في الصعيد. خاصة في المآذن والقباب والمداخل. إلا أن اللافت للانتباه على العادة الأعمدة الرومانية التي تسكن غالبية مساجد الصعيد. لكثرة المعابد المهدمة وإعادة استخدام العناصر المعمارية مرة أخرى في المنشآت.
مسجد العمراوي الذي لا يبتعد كثيرا عن مسجد اللمطي يحمل معنى عميقا في نفوس الناس تاريخيا في المنيا. حيث يعرف تاريخيا وحتى يومنا هذا باسم مسجد الوداع، وهناك دلالة لهذا، حيث يأتي الناس إليه أثناء تشييع الجنازات قبل عبورهم النيل إلى الناحية الشرقية لدفن الموتى في المثوى الأخر. لذلك أطلق عليه اسم الوداع لأنهم يودعون موتاهم فيه.
الشيخ زياد
في مغاغة التي تعتبر أقصى نقطة في شمال المحافظة مترامية الأطراف، يوجد مسجد يطلق عليه اسم الشيخ زياد. ينسب إلى زياد بن المغيرة بن عمرة العتكي. بني هذا المسجد في أصله في العصر الفاطمي، وهو عصر شهد فيه الصعيد ثورة عمرانية في المساجد والدعوة كبيرة جدا. إلا أنه أعيد بنائه مرة أخرى في عصر السلطان الأشرف أبوالنصر قايتباي، أحد أشهر وأهم السلاطين المماليك الذين حكموا مصر والشام. دون إعادة التشييد على تلك اللوحة المثبتة داخل ضريح زياد بن المغيرة. في قرية أطلق عليها قرية الشيخ زيادة بعد أن تغير اسمها الأصلي القديم إلى دروط بلهاسة. ويبدو أن لزياد بن المغيرة نفسه حظوة عند الناس فضريحه الذي لا زال قائما حتى الآن يزار ويتبرك الناس به. ولا دلالة أكثر من تغيير اسم القرية نسبة إليه ملحقاً به لفظ الشيخ.
سمالوط هي الأخرى تحمل بين تلالها الرملية مسجدا يعود تاريخه إلى الفترة المملوكية كذلك. وهو ما يطلق عليه المسجد العتيق الواقع على تل الجنيدي. لم يتبق من المسجد سوى مئذنة مائلة فقط، لكنه أيضا يعبر عن نفس الفكرة الرئيسية التي بنيت بها المساجد في المنيا.
رسائل من السلطان
لم يكن التعامل مع المساجد مقتصرا على أداء العبادات الدينية فقط، بل يتصل الأمر لأن تكون منابر سياسية يوجه من خلالها سلطان مصر القائم في القاهرة رسائل تتعلق بالضرائب والقرارات السياسية والاقتصادية المختلفة. وهو ما يمكن ملاحظته أثناء زيارة تلك المواقع التاريخية ورؤية لوحات رخامية وضعت على الأعمدة في المسجد. فمسجد اللمطي ذاته يحمل مرسوما باسم الملك الظاهر أبي سعيد جقمق السلطان المملوكي الشهير.
تحتوي اللوحة الرخامية قرارا ومرسوما بإبطال ما أصدر بحق قرى الهالا بمنية بني خصيب التابعة للأشمونين. وهو ما سرى كذلك على مسجد الوداع حيث يحتوي على مرسوم للظاهر أبي سعيد جقمق أيضا يقر فيه بإبطال الضرائب والمكوس التي كانت مقررة على بيع الغزل والخضروات بمنية بني خصيب.
تأتي تلك العادة التي انفردت بها قرى ومدن الأقاليم لتعبر عن طبيعة العلاقة بين سلطان القاهرة وبين الناس في تلك المدن المنعزلة عن صراع السلطة في العاصمة. حيث يتم وضع المرسوم في الجوامع الرئيسية التي يأتي إليها الناس من شتى اتجاهات الإقليم أو المحافظة ليشاهدوا ما أقر به السلطان من رسوم أو إبطال للضرائب.
قصور النخبة وبيوت العوام
تحتوي المنيا على كم هائل من القصور القديمة، التي يرجع تاريخها إلى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. حيث عبرت تلك القصور عن مفهوم الإقطاع الذي انتشر في تلك الآونة، وهو عادة ما تكون لباشاوات ضموا في حوزتهم عددا ضخما من الأفدنة في المناطق الزراعية في المحافظة. حيث عرفت ملوي ببلد الباشوات. إذ تحمل المدينة بين شوارعها عددا كبيرا من القصور الأنيقة، من بينها قصر عبد المجيد باشا سيف النصر، يعبر عن هذا المفهوم بشكل واضح. كذلك قصر شلبي باشا صاروفيم أحد أقدم القصور في مدينة المنيا نفسها، بطراز فني مميز.
اللافت في الأمر أن تلك القصور خلت تماما من أي سكان بطبيعة الحال ومن أي زائر فهي مهجورة تماما، تركت لعوامل الزمن تقسوا عليها بين حين وآخر، كأنها تنتظر نهايتها في أي لحظة في الأيام. فبين سجلات الحكومة المعقدة ومشاكل الورثة الكثر تضيع تلك القصور والعمائر لتضيع معها صفحة هامة في تاريخ مصر.
المنازل القديمة في المنيا أنيقة جدا، خاصة تلك المنازل التي حافظت على سماتها القديمة بأبوابها الخشبية الطويلة. وهي لا تكاد تختلف بين قرية وأخرى، بل تتشابه كلها في نمط معماري واحد. يلفت الانتباه فيها أبواب طويلة في المدخل وشبابيك طويلة أخرى تنقسم عادة إلى جزأين جزء صغير وجزء أكبر. يتم فتح كل واحد منهم لهدف مختلف عن الآخر، فالصغير يفتح بغرض التهوية البسيطة. أما الآخر فعادة ما يفتح بهدف إدخال ضوء شمس. المنازل القديمة عادة ما تتميز بارتفاع أسقفها، وهو ما يتيح للهواء الدخول بأريحية لترطيب الجو. على عكس البيوت الحديثة التي أنشئت في المحافظة وهي السمة الغالبة بطبيعة الحال بسبب عدم ركون الناس إلى القديم.
بين الجبل والقرية
تبني معظم الطبقة المتوسطة والأقل من ذلك خاصة في قرى المنيا منازلها بالطوب الأبيض الذي يقتطع بطريقة مأساوية من الجبال. ومأساوية هنا لا يقصد بها انعكاسه السلبي على الجبل، بل بالطريقة السلبية التي تنعكس على العمال في هذا العمل شديد القسوة. حيث يؤثر على الجهاز التنفسي بشكل كارثي وعميق، بسبب تراكم الأتربة إثر عمليات اقتطاع الأحجار. لكن الشباب يفضلون اللجوء إلى هذا العمل -مجبرين- لعوائده المادية المرتفعة فضلا عن قلة فرص العمل. حتى مع كوارثه الصحية تلك والتي تسبب عادة الوفاة في سن مبكرة.
يمكنك بإطلالة واحدة من أعلى الجبل الكائن ناحية الشرق أن ترى غالبية المنازل وقد بنيت بالطوب الأبيض. كأنه وشاح من جليد، وهو على عكس العادة فإن تلك المادة غير متوافقة مع البيئة وضارة كذلك. فضلا عن أنها لا تناسب طبيعة العمارة والبنيان، إذ يصعب البناء بها أكثر من ثلاثة أدوار على الأكثر بسبب عدم فعاليته من ناحية الإنشاء وصعوبة تغطيته. إلا أن الناس يلجئون إليه -مجبرين كذلك- بسبب قلة ثمنه على عكس النوع الآخر من الطوب أو الحجارة باهظ الثمن. وعلى كل حال فالعمارة هي انعكاس المجتمع بمآسيه قبل إنجازاته.