«خُطُّ الصعيد» والخضر عليه السلام
لا تبدو ظاهرة “المطاريد” مجرد تجمع للمجرمين الهاربين في الجبال من الأحكام القضائية، بل هم ظاهرة معقدة، لها جذورٌ تمتد في الاجتماعي والسياسي والديني وهو الأغرب، لأن الدين يعد أكثر الأشكال تحريما للسلوك الإجرامي، وأكثرها قدرة على ضبط الإنسان، ويكفي أن المجرم يمكن أن يفعل فعلته في السر فلا يشعر به المجتمع، كما يمكن أن يهرب من قوة تنفيذ القانون، لكن ماذا يفعل أمام الخالق المطلع على كل شيء، وأين يهرب من لقائه وعقابه؟! ومن هنا تأتي غرابة علاقة المطاريد بالمقدس.
1ـ الخطُّ والمُقدَّس
يظهر المقدس كثيرا في حكايات المطاريد، لا بوجهه المنتقم الجبار بل بوجهه الرحيم الحارس لخطواتهم، وتلك المفارقة جديرة بالدرس.
في حكاية خط الصعيد محمد منصور الدُرنكي يظهر المقدس عند مصرعه، لقد عثروا في جلبابه على مصحف وثلاثة أحجبة تحتوي على آيات قرآنية وإمساكية شهر رمضان، وكان ذلك شديد الغرابة حتى أن جريدة الأهرام في تناولها لخبر مصرع الخط، تضع مقتنياته الدينية في المانشيت بجوار خبر مصرعه الذي انتظرته ثلاث حكومات متعاقبة. لكن أحدا لم يبحث في علاقته بالدين بشكل مناسب، وصارت تلك الأشياء مجرد علامة غريبة لا تفسير لها.
أما في حكاية “التشغرجوي”، خط تركيا الشهير، الذي تتشابه حكايته مع حكاية محمد منصور تشابها مذهلا، فيتسع نطاق المقدس حتى يبلغ الأمر حد اعتبار الخُطِّ وليا من أولياء الله الصالحين. كما يُعتبر قبره مزارا يقصده القرويون باعتباره مقام ولي، ويرون في تراب قبره دواء لكثير من الأوجاع، ويقال إنه علاج ناجع لآلام الاكتئاب والملاريا. وحتى بعد مرور سنوات طويلة جدا على مصرعه، فإن القرويين الذين يمرون من ذلك الطريق، وقبل وصولهم إلى القبر بنصف ساعة، يصرخون ملء أفواههم وكأنه حارس المكان: “أيها الفتوة التشغرجوي! أيها الفتوة التشغرجوي! افسح لنا كي نمر، لسنا غرباء”.
2ـ الخضر حارس المطاريد
يا لها من مفارقة تلك التي تجعل الخضر حارسا للأشقياء الخطرين، لكن هذا ما يحدث، هذا معتقد المطاريد. لكن كيف يحرس المطاريد؟
لا يظهر الخضر في أي حدث من أحداث حكاية “التشغرجوي”. لكن اسم الخضر عليه السلام يتردد كثيرا، في صيغة محددة هي صيغة الدعاء للفتوة بالحصول على حماية الخضر. وهو ما يعني ضمنيا الإيمان بالخضر، واهتمامه بحمايتهم، وقدرته عليها. وفي أغلب المرات يظهر اسم الخضر فقط وأحيانا تلحق به صفة فيصبح “الخضر ذو الحصان الأغبر”. لماذا الأغبر، لا توجد في الحكاية أي إشارة توضح السبب. ويبدو أن الأمر يتعلق بموروث شعبي سكتت عنه الحكاية، ربما لأنه شائع.
لا نجد في الحكاية أية إشارة عن سبب اختيار الخضر حارسا للمطاريد. وأعتقد أن المسألة تتعلق بمحل إقامتهم في الجبال النائية التي تخلو من مقامات الأولياء ولا يوجد من يسد ذلك الفراغ الروحي سوى الخضر عليه السلام. لأن لكل ولي دائرته المكانية التي يسبغ عليها حمايته، وربما يكون هناك موروث شعبي لم يرد في الحكاية يربط الخضر بالمطاريد. وربما يكون هناك موروث شعبي لم يرد في الحكاية. لكن بالتمعن في التفاصيل، ومحاولة اقتناص ما يختبئ بين السطور، يمكن أن يقدم لنا مفتاحا. خاصة مع العودة إلى حكايته مع موسى عليه السلام كما وردت في القرآن الكريم باعتبارها مصدر صورة المسلمين الأساسية عنه. وإن كانت هناك حكايات عن ظهوره في هيئة فقير أو ضعيف ومساعدة الذين يظهر لهم.
نلاحظ أن الخضر يرتبط بالبدايات، وقد ظهر لأول مرة، عندما صعد “الخط” إلى الجبل، في أول عهده بالفتونة. حيث قام أستاذه وصديق والده الفتوة الحاج بتوزيع السلاح والذخيرة عليه ومن معه من الرجال، وخصه بمنظار، وقال:
” ليكن طريقكم مفتوحا، وسيفكم حادا، ورزقكم وافرا، الخضر عونكم”.
وعندما قرر الحاج تنصيب “التشغرجوي” رئيسا للعصابة، حدث ما يمكن اعتباره طقسا للتكريس. حيث وقف الحاج أمامه وهو الأكبر سنا والأكثر خبرة، وداعب بندقيته الخاصة وكأنه يودعها. ثم وضعها بجانب “الفتوة”، بعد ذلك أخذ يده، قبلها، ووضعها على رأسه، وقال له: “أنت فتوتنا، ليكن الخضر بعونك، وليكن عدوك أعمى وصديقك شديد البأس”.
**
المطاريد نظام متجذر، وليسوا تجمعا عشوائيا للخارجين على السلطات، ويظهر النظام في الترتيبات التي يقوم بها أفراد العصابة عند اختيار الرئيس. وهي الوقوف أمامه بخشوع، وتسليم السلاح للفتوة، ثم تقبيل يده ورأسه، والدعاء له، ودائما ما يرد الخضر في الدعاء بوصفه المعاون أو الحارس. ثم يسمح رئيس العصابة لرجاله بأخذ السلاح، فيطلق كل منهم خمس رصاصات في الجبال، لماذا خمس رصاصات تحديدا؟ لا نعرف، ولكن هكذا يتم الإعلان عن ميلاد “الفتوة” الجديد.
بعد قيام الحاج صديق والده بتنصيبه رئيسا يتخلى عن النصح، ويصبح مجرد رجل من رجاله. وبحسب تقاليد الفتوة، فالرجل التابع لا يسأل الفتوة أي سؤال، ولا يمكن قول: ماذا نفعل، إلى أين نذهب؟ هذا صار، وهذا لم يصر، ولا يتكلم حتى يسأله الفتوة على أن يجاوب فقط. ويحظر على أحد الأتباع الخروج على كلام الفتوة، أو الاعتراض على أي حركة. وأي رجل تابع يخرج خارج التقاليد، أو يعترض أدنى اعتراض ينال رصاصة حتى ولو كان على حق. إلا إذا اعتذر اعتذارا معينا يعبر عن الخضوع الكامل، حيث يلقي بندقيته عند قدميه، وهذا السلوك بالنسبة للمطاريد يعني الموت، فالتخلي عن السلاح يعني التخلي عن الحياة.
الحاكم الوحيد في العصابة هو الفتوة. لا يمكن أن يكون ثمة كلام إثر كلامه، أو أمنية إثر أمنيته، أو حتى تقديم اقتراح. يجب أن يكون هناك تسليم كامل له، وهنا تحديدا يمكن أن نجد مفتاحا يقودنا لفك غموض العلاقة بين الخُطُّ والخضر وعليه السلام. هنا نتذكر موسى عليه والسلام وهو صاحب المكانة الدينية الكبيرة عندما يصبح تابعا للعبد الصالح. ولا يجوز له السؤال أو الاعتراض أو حتى الاقتراح وعندما يفعل ذلك يعاقب بالطرد. وهكذا يمكننا أن نفهم خط الصعيد باعتباره يمشي على خطى الخضر، أو أحد تجلياته الواقعية.
يمكن أن نجد إجابة عن سؤالنا عن الخضر في حاجة المطاريد للخوارق في مناسبات كثيرة، لأنهم يمرون بأوقات عصيبة أثناء متابعتهم من قبل القوات الحكومية، ومواجهاتهم الدامية معها. كما يمكننا أن نجد إجابة في حاجة القرويين إلى الخوارق في ظل ظلم الدولة متمثلة في أغواتها وطبقة الأعيان. وفي هذا الإطار يفهمون مساعدات الخط التي تهبط عليهم فجأة في صورة قطع ذهبية، أو قضاء حوائج ينقطع الأمل في قضائها بشكل واقعي، ولا يكون في وسع أحد قضائها سوى الخضر عليه السلام.
3ـ الصلاة عند جثامين القتلى
يتداخل القتل والقيام إلى الصلاة تداخلا عجيبا، ففي الوقت الذي يرتكب فيه أبشع سلوك إنساني وهو القتل، يمارس أفضل سلوك ديني وهو الصلاة. هكذا ببساطة، يتوضأ قرب الدماء ويقيم صلاته، ماء الوضوء يختلط مع دماء ضحاياه، تناقض عجيب، يصعب تفسيره بسهولة. وإن كنا نستطيع استيعابه في ظل النظام العثماني الذي يحمل تناقضا كبيرا بين وظيفة الدولة في إقامة العدل وممارساتها الظالمة على أرض الواقع.
لم يكن ما يفعله قتلا في اعتقاده، بل كان تنفيذا للقوانين والأعراف الشعبية، وكان الناس يلجؤون إليهم لتنفيذه في الكثير من المناسبات. كما هو حال الرجل الذي قابله في السجن واشتكى له زوجته التي تنام مع أخيه منذ دخوله السجن، وتعلق به طالبا منه عقابها.
وبالفعل داهم الفتوة مع رجاله بيتَ الأخ الذي أخذ زوجة شقيقه المحبوس. وألقوا القبض على المرأة والرجل، ونادوا أهل القرية كلهم. ثم مددوا الرجل على جذع شجرة، وقطعوا ذراعيه، ثم قطعوا رأسه ورأس المرأة. وبينما الجمع المتجمد ينظر ساهما، قال الفتوة “حان وقت الصلاة”. وبعد أن أقام الفتوة صلاته، جمع رجاله المسلحين من حوله، وانسحب ذاهبا من دون أن يقول كلمة واحدة للقرويين الذين ينظرون إلى الجثتين.
يظهر القيام للصلاة بعد القتل مباشرة وبجوار جثمان القتيل في مناسبات كثيرة. وقد يرتبط بسلوك ديني آخر مثل عمل جنازة مناسبة للقتيل، كما في واقعة “بوصلو أوغلو”، أحد رؤساء العصابات المشهورين. وكان “الفتوة” معجبا بقوته وشجاعته، وقد تعاونا لبعض الوقت. لكنه أدرك أن “بوصلو أوغلو” ينوي الغدر به وقتله، فما كان منه إلا أن بادر وغدر به في مزرعة يمتلكها أحد الأغوات الذين يدينون بالولاء له. وبعد أن أطلق نحوه الرصاص، جلس عند رأس القتيل وبكى رغم وجود رجاله. ثم غسل يديه ووجه، وتوضأ، ووقف للصلاة. ثم طلب صاحب المزرعة وأعطاه مائة قطعة ذهبية لكي يعد قبرا يليق بالقتيل ومكانته. ويقيم جنازة بشيوخ يقرأون القرآن. وعندما غادر المزرعة ظل في وضع الحداد، لا يتكلم ويتمنى لو أن “بوصلو أغلو” هو الذي أطلق النار عليه.
**
هكذا تتداخل علاقة “المطاريد” بالمقدس تداخلا قويا، الأمر الذي يوحي بأن نظام “المطاريد” في أصله البعيد أو غير المنظور، كان حركة دينية سرية قامت لرفع الظلم عن المظلومين. وقد شجعتها الطبقات الدنيا لأنها تلاقت مع حلمهم بقوة خارقة تخلصهم من الظلم والقهر. حتى لو كانت قوة غامضة وغير منطقية، لأن الحلول المنطقية باتت معدومة تماما بالنسبة لهم.