«الدرب الأحمر».. أكاذيب منشورة وأصل مملوكي منسي
دماء مسفوكة منهمرة تندفع كالشلال من تحت أعتاب قلعة الجبل، فتملأ الطرقات وتلون الدرب الشهير الواصل بين إيوان الحكم وباب زويلة فيعرف بالاسم الشهير “الدرب الأحمر”. ذكرى مذبحة دبرها ولي النعم محمد علي باشا الذي أذهب فيها دولة المماليك والأيام دول. هكذا نسج الخيال الشعبي لأهالي الدرب الأحمر قصة حاولوا فيها تفسير اسم الدرب الشهير. ربطوا اللون بالدم والأخير بالقتل فوقع الاختيار على المذبحة لتكون محور القصة. لكن للتاريخ أحكامه وأدلته ومستنداته، التي تنكر على الرواية الشعبية إسنادها وتتهمها بالضعف والخلط. فالمسمى قديم مذكور في دواوين المؤرخين، ولا علاقة بينه وبين مذبحة المماليك.
ذاكرة المنطقة الشعبية لم تنس واقعة بحجم مذبحة القلعة 1811، التي دشن بها محمد علي -للمفارقة- عصر مصر الحديث. فالواقعة أثرت ولاشك على تركيبة المنطقة السكنية المكتظة التي غادرتها بقية طبقة المماليك بفعل المجزرة. وتركت بيوتها ثكلى وبقايا أسرها ولا مفر أمامها من الاندماج مع الطبقات الشعبية. فطبيعي أن تلقي الواقعة التاريخية الدموية والتي جرت غير بعيد عن شارع الدرب بذكرى مشوهة في حكاوي أهالي الحي الذين أسطروا الحقيقة في صورة رواية شعبية لا أساس لها. تقول إن مسمى الدرب الأحمر يعود إلى تلك اللحظة التي سفك فيها الباشا دماء بكوات المماليك فسالت إلى الشارع الذي عرف لذلك بالدرب الأحمر نسبة إلى الدم المسال.
المحاولة الشعبية هنا للربط بين المتشابهات لا تصمد أمام أدلة مادية عديدة. نستطيع من خلالها تتبع الوقت الذي ظهرت فيه تسمية (الدرب الأحمر)، وهو العصر المملوكي البحري. وذلك واضح من خلال استقراء المصادر المملوكية المعاصرة وما قبلها. فنحن نعرف جيدا أن المنطقة خارج باب زويلة من جامع الصالح طلائع حتى جامع المارداني كانت عبارة عن منطقة مقابر مخصصة لدفن موتى مدينة القاهرة في العصر الفاطمي. منذ أيام الخليفة الحاكم بأمر الله (حكم 386- 411هـ/ 996- 1021م). ومع انتقال مقر الحكم من القصور الزاهرة بالقاهرة إلى قلعة الجبل مع الأيوبيين. ثم المماليك بدأت المنطقة الواقعة بين القلعة والقاهرة الفاطمية صفحة جديدة من تاريخها العمراني.
**
شهدت المنطقة حركة عمرانية كبيرة في العصر المملوكي بعدما تحولت إلى المساحة التي ركز فيها أمراء المماليك منشآتهم السكانية والدينية والخدمية. فظهر مصطلح الباب الأحمر والدرب الأحمر بوضوح للمرة الأولى في السلطنة الثالثة للسلطان الناصر محمد بن قلاوون (709- 741هـ/ 1309- 1341م). وهي الفترة الذهبية لحركة العمران في العصر المملوكي كله، والمتمركزة في المنطقة الواقعة بين باب زويلة حتى القلعة. ثم من القلعة إلى الصليبية ومن الأخيرة إلى باب زويلة، هذا المثلث أحد أضلاعه شارع الدرب.
والدليل الأول الذي يقابلنا هو أن المؤرخ الخططي ابن عبدالظاهر (توفي سنة 692هـ/ 1293م)، أول من ألف في خطط القاهرة كتابا وصل إلينا. لم يذكر الدرب في كتابه لأن المسمى لم يكن ظهر بعد في عصره، وسيظهر في الجيل التالي على وفاته.
مع المقريزي (توفي سنة 845هـ/ 1442م)، نقابل الباب الأحمر والدرب الأحمر، عنده وعند غيره من المؤرخين المعاصرين. فهو يقول في (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار)، عندما تخرج من باب زويلة: “وأما ما جازه من شمالك، حيث الجامع المعروف بجامع الصالح والدرب الأحمر إلى قطائع ابن طولون التي هي الآن الرميلة والميدان تحت القلعة. فإن ذلك كان مقابر أهل القاهرة”. وهو يذكر الدرب عند حديثه عن خوخة أيدغمش الناصري. وسوق السراجين الذي انتقل من داخل القاهرة إلى الدرب الأحمر. كما يذكر مسمى الباب الأحمر مرة في الإشارة إلى التسمية المعتمدة أي الدرب الأحمر، بما يوحي بوجود باب ما على مدخل الدرب.
**
لكن الأهم والحاسم هنا أن وثائق الأوقاف المملوكية تذكر هذه المسميات بكل وضوح. فبحسب الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل في كتابه (منطقة الدرب الأحمر: دراسة أثرية وثائقية) تذكر وقفية الأمير سيف الدين قجماس الإسحاقي على مدرسته الشهيرة التي بناها في 885هـ/ 1480م. أنها تقع بخط الدرب الأحمر، الذي يرد ذكره بكل وضوح كذلك في وثائق الفترة العثمانية. فعلى سبيل المثال يرد مسمى الدرب في حجة وقف جعفر أغا ابن الأمير فرهاد بتاريخ 1028هـ/ 1619م. كما تذكر خريطة الحملة الفرنسية للقاهرة مسمى الدرب الأحمر بكل وضوح. أما علي مبارك باشا في (الخطط التوفيقية) فيذكر الدرب ويحدد بدايته من عند باب زويلة حتى أول شارع التبانة.
من كل الشواهد التاريخية التي عرضناها سريعا نتأكد أن مسمى الدرب الأحمر كان مستخدما لوصف المنطقة من خارج باب زويلة جهة اليسار حتى شارع التبانة. منذ النصف الأول من القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي. أي قبل نحو 500 عام من مذبحة القلعة الشهيرة في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي. الأمر الذي يثبت أن الأمر لا علاقة له من قريب أو بعيد لأسطورة دماء المماليك. فضلا عن أن تصور انهمار الدماء من القلعة إلى الشوارع في شكل أنهار جارية تصور ساذج وخيالي جدا. لا يمكن تحققه على أرض الواقع بالنظر لملابسات الحادث وعدد المماليك القتلى وبعد القلعة عن الدرب الأحمر. ومن الأسف أن هذه الأسطورة غير المعقولة أصبحت الآن منتشرة في الكثير من التقارير والمواقع الصحافية. فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي ويرددها بعض من يدعي الانتساب زورا لعلم التاريخ.
وحاول البعض اختراع رواية أخرى حول أصل التسمية بالقول إن سبب التسمية تعود إلى سكنى بعض حمر الوجوه في المنطقة في العصر الفاطمي. وهي محاولة لا أدلة تاريخية عليها، بل كما هو واضح لم تعرف هذه المنطقة باسم الدرب الأحمر أبدا طوال العصرين الفاطمي والأيوبي. فهي محاولة جديدة خيالية لمحاولة الإجابة عن السؤال الصعب بتحديد ما يحمله اسم الدرب من معنى وسبب التسمية.
**
في الحقيقة يبدو أن لا إجابة تاريخية شافية هنا. فالمصادر التي تحت أيدينا لا تجيب عن هذا السؤال. ولا توفر حتى المادة التي يمكن من خلالها بناء افتراض متماسك يستند إلى بعض المعقولية التاريخية. وكل ما نستطيع قوله هنا. إن التسمية ظهرت في عصر الناصر محمد بن قلاوون مع الثورة العمرانية التي شهدتها المنطقة ببناء عمائر مملوكية رائقة. مثل جوامع الطنبغا المارداني وآق سنقر والمهمندار. وأن الأمر يحتاج إلى البحث في وثائق هذه الفترة بدقة وتمحيص بحثا عن أنصاف معلومات تمكننا من حل لغز مسمى الدرب الأحمر!
اقرأ أيضا:
«الجمالية».. ذكرى سارق الأوقاف