علاء الديب يختار أفراد قبيلته
لنصف قرنٍ أو يزيد، واصل الكاتب الكبير علاء الديب (1939 – 2016) عمله في الصحافة بمهمَّة أساسية هي تقديم الإصدارات الحديثة في المكتبة العربية للقارئ. حتى كادت صورة الناقد تطغي على صورة القاص والروائي المتفرّد. كانت مهمة “عروض الكتب” ملجأ للأديب من الصراعات الداخلية والتقلبّات في أروقة المؤسسات الصحفية. كما صارت إلزامًا أسبوعيًا بمواصلة القراءة تحت أي ظرف. وهي كما نعرف زاد الكاتب الحقيقي. فوق هذا. وفَّرت صنعة “الريڤيو” للأستاذ علاء أرضًا لممارسة المهارة الأساسية التي ميّزته، مع أكثر من واحد من أبناء جيله النبهاء، وهي مهارة “التكثيف”.
***
استطاع علاء الديب، في أضيق حيز، أن يكشف لك النقاط الجوهرية في كتاب ما. وأن يضع النص وكاتبه في السياق الأدبي والفكري الذي أنتجهما. ومن محمود أمين العالم، الناقد والمفكر الماركسي ابن جيل الأربعينات وحتى زهرة يسري شاعرة التسعينات الرقيقة وشريف عبدالمجيد الكاتب والمصور الموهوب. وليس انتهاء بالشاعر الشاب مصطفى إبراهيم. كان يتقمّص ذلك الكاتب أو تلك الكاتبة بقدرة فريدة على تجاوز فروق الأجيال. ليقطّر رؤيته، ويقدم صوته الداخلي الذي يبوح لك بسرِّ عمله.
في العصر الذهبي للمجلّات الأسبوعية. بدأ علاء الديب باب عصير الكتب للنقد والمراجعات في مجلة “صباح الخير” التي تصدر عن مؤسسة روز اليوسف. وفي أيام الفيوض الإبداعية، كان ليستغل نفس المساحة المُتاحة له في المجلة ليجرّب في مغامرات سردية قصيرة جدًا يسميها حكايات. وعلى مدار السنين صارت تلك الأقاصيص كتابه الذي يحمل عنوان “المسافر الأبدي“. وفي رأيي لم تنل تلك القصص الطليعية حظّها من القراءة والاهتمام النقدي كرواياته الأشهر: “القاهرة” و”زهر الليمون” أو ثلاثية أطفال بلا دموع”، أو خصوصًا كتابه الذاتي “وقفة قبل المنحدر”. وفي الأيام العادية، وفترات الاستراحة الطويلة بين الأعمال الروائية، يواصل عمله الدؤوب في عروض الكتب، بنفس روح الفنان. وبعد تقاعده من العمل في مؤسسة روز اليوسف واصل نفس المهمَّة في جريدة القاهرة. على عهد رئاسة الأستاذ صلاح عيسى لتحريرها. ثم انتقل بعدها إلى جريدة المصري اليوم، مواصلًا رسالته حتى الأسابيع الأخيرة من حياته.
يحتوي هذا المجلد، بشكلٍ أساسي، على مقالاته من فترة جريدة القاهرة. وفيه يغطي علاء الديب إصدارات خرجت من المطابع قبل بداية الألفية بقليل وحتى عام 2012. مع زيارات من وقت لآخر لأعمال قديمة، يطيب له أن يتذكَّرها ويسلِّط عليها ضوءًا جديدًا، لتراها أجيالٌ لم تعاصر صدورها. وتشمل الأعمال التي تناولها خلال تلك الفترة المائجة حقولًا معرفية متعددة بتركيز على الأعمال الأدبية بطبيعة الحال. دون إغفال لجوانب معرفية أخرى، بل وعلمية أيضًا. تصبَّ بدورها في نهر وعيه الفني والإنساني.
***
ويفتح علاء الديب دائمًا في عرضه للكتاب نافذةً صغيرة يطلعك من خلالها على ملمح من الحياة كما عرفها. تربط محتوى الكتاب بالعصر الذي نحياه، أو بالتاريخ القريب. ففي سياق تقديمه مثلا للكتاب الشهير “فخّ العولمة” والذي صدرت ترجمته العربية عام 1998. يقول عن كاتبيه: “المؤلفان بيتر مارتن وهارالد شومان، صحفيان في مجلة «دير شبيجل» الألمانية. التي تلعب بشكل أفضل دور مؤسسة روز اليوسف في الصحافة المصرية“. ويعني أن الدور الفكري والسياسي الذي تلعبه المؤسسة الألمانية هو دور نقدي من موقع على يسار الحكومة. كما كانت مؤسسة روز اليوسف التي عرفها في شبابه، لكنها لم تعد.
وهو بهذا، وفي لمحة خاطفة، يُشير إلى وضع الصحافة في مصر دون أن يحيد عن موضوع الكتاب، الذي يوجّه مؤلفاه سهامهما نحو العالم أحادي القطب. حيث يقتات البشر على غذاء تالف من نتاج “أجهزة الإعلام المدروس ومدارس الفن الجديد الموجه. وكل أنواع الثقافات الأمريكية المبتكرة. مهمة هذا الغذاء – المهندس المدروس أن يبقي الـ80% على قيد الحياة – إلى حدٍّ ما – مشغولين – إلى حدٍّ ما. ومبسوطين إلى حدٍّ ما… أساسًا يبقيهم هادئين”.
تعلّم علاء الديب خريج الحقوق في الأصل، الصحافة في مدرسة روز اليوسف. حين كان يرأس تلك الدار ويديرها أشخاص من عيار إحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين وصلاح جاهين وصلاح حافظ وفتحي غانم. وسعاد رضا الإدارية الخبيرة التي لم تتلق سوى تعليم تجاري متوسط. لكنها تدربت على يد السيدة فاطمة اليوسف مؤسسة الدار ذاتها. حتى صارت عضو مجلس الإدارة المنتدب، تُجالس كبار المثقفين. تسمع لهم وتناقشهم من موقع الندّ. وهي من رفيقات درب الأستاذ علاء المخلصين. وخلف كل هؤلاء كتائب من صحافيين أدباء وشعراء ورسامين وإداريين وعمال مطابع فنانين. كون عمال المطبعة في تلك الدار، ذاك الزمن، فرقةً موسيقية وكورالًا تخصَّص في غناء أشعار العظيم فؤاد حداد. الذي كان هو أيضًا من أبناء المؤسسة.
***
إلى جانب تلك المدرسة الصحفية انتمى علاء الديب أدبيًا إلى حركة جيل الستينات الثوري. التي قامت في مواجهة مدرسة نقدية سيطرت على الخطاب الثقافي فترتها لتسجن الأدب والفن في التفسير الإيديولوجي المباشر. كان قطبا تلك المدرسة النقدية (الواقعية الاشتراكية) في مصر الدكتور عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم. واضطلع منظرو حركة الستينات: إبراهيم فتحي، وغالب هلسا وإدوار الخراط، بمهمة توسعة المنظور الأدبي خارج التفسير الضيق للواقعية الاشتراكية. دون التخلّي عن مفهوم “الالتزام” بمعناه الفني الإنساني الأشمل.
وخلال السنوات التي يغطّيها هذا المجلد. كان قد صدر للناقد محمود أمين العالم كتاب استعادي يجمع دراساته النقدية تحت عنوان “أربعون عامًا من النقد التطبيقي”. فيشتبك معه علاء الديب. وفي سياق عرضه للكتاب يخبرنا أنّه عرف الأستاذ محمود العالم في بيتهم منذ كان يزور شقيقه الأكبر الكاتب والمفكر بدر الديب. على عهد دراستهما في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة في الأربعينيات. حين كان علاء لا يزال تلميذًا في الابتدائية.
ويتذكر أن محمود العالم كان شاعرًا مجددًا في بدايته قبل أن تجرفه السياسة ، ويقول معلقًا على الكتاب: “ احترت في خضم النقد التطبيقي، افتقدت البحث عن معنى الأدب، عن حدسه، وجنونه، وتهت في حساب الأرباح والخسائر وتعاملت مع أحكام مسبقة. حلم خروج التعبير الأدبي عن دوائر الطبقة المتوسطة، لم أجد عنه إجابة أو إشارة إلى إجابة (هل هي الأمية أم الجمود الفكري). أسأل نفسي – وأسأل الأستاذ أولًا – هل اخترنا جميعًا قنوات خطأ لنصل بأفكارنا وأعمالنا لمن يحتاجون إلى فن وفكر جديد؟ هل القنوات مسدودة أم أنها غير موجودة أصلًا؟” ويختتم بتذكر أبيات للشاعر القديم محمود العالم الذي نشأ على سماع صوته في غرفة شقيقه “تعرّيت – يا فتنتي – بشط الحياة ولم أستحم”.
***
وفي مواجهة النقد التطبيقي الجامد. نجد الاستاذ علاء يستعيد في مقال آخر نصًّا تأسيسيًا هامًا من فلسفة الفن لعب دورًا مباشرًا أو غير مباشر في تشكيل حساسية جيله الأدبية وأجيال أخرى لاحقة. وهو كتاب “جماليات المكان” للفيلسوف الفرنسي جاستون بشلار، الذي ترجمه صديقه الذي يصفه بـ”الكاتب الأردني – المصري” غالب هلسا. والكتاب كما يقول: “واحد من الكتب النادرة الهامة في فلسفة الفن الحديث. وهو دراسة للصورة الفنية – الشعرية وما تملكه من طاقات وقوى لا يعرفها الإنسان خارج الفن. (…) لتفسير سر هذه القوة، يكرّس بشلار بحثه هذا عن معنى وسر المكان. المكان في الواقع وفي الخيال كواحد من أهم عناصر تكون الصورة الفنية. الصورة الفنية الطازجة التي تكشف مكانًا في الواقع أو في الخيال هي «روح العمل الفني»”.
بالطبع ثمة حضور واحتفاء برفاق الدرب كغالب هلسا وأسماء أخرى من جيل الستينات. فهنا مراجعة لرواية “الخالدية” وقت صدورها عام 2002 وهي الكتاب التاسع عشر في سجل محمد البساطي الأدبي. ويقول الأستاذ علاء عن كاتبها: “محمد البساطي كاتب بالضرورة، لا شيء آخر يعيش من أجله رغم أنّه محاسب قانوني، وموظف قديم ورب أسرة، وصديق، وراعٍ لكل الأصدقاء… كاتب مدقق في الجملة، وفي البناء، وفي المقصد من الكتابة ووظيفتها”.
أعرف الأستاذ البساطي منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي. وقد لمست فيه مطلق الإخلاص للكتابة، كأنّه يتنفسها ويعيش بما تمده من سبب للوجود. يريد هذا البناء الذي يتكون من حروف يتقنه ويدقق فيه ولا يريد شيئًا آخر. إننا أمام كاتب يأخذ الكتابة بأكبر قدر ممكن من الجدية. وأنه يبحث من خلال العمل الأدبي الإبداعي عن معنى لحياته وحياتنا. الخالدية إذن تقف فوق هرم من التجربة ومعاناة التعبير الروائي لكنها ليست مجرد إضافة. فهي مغامرة جدية مع «الفانتازيا» الروائية التي تنطبق على ما حدث في واقعنا الإنساني والاجتماعي. من تفتت وتناقض وما يحدث للشخصية الإنسانية من سحق وقهر وامتهان.
***
وفي خلال تلك السنوات التي يغطيها هذا المجلد، كان عقد ذلك الجيل آخذًا في الانفراط، لتتناقص حباته بعبور أفراد منه إلى الجهة الأخرى. رحل إبراهيم منصور، وفاروق عبدالقادر، والبساطي نفسه، ثم خيري شلبي وإبراهيم أصلان. وعند رحيل أصلان رحمه الله يخصص علاء الديب مقاله ذاك الأسبوع لإبراز المكانة التي تبوأها “أبو خليل” في قلب جيله وفي الأدب المصري والعربي ككل. “هناك فترة صمت بين جمل إبراهيم أصلان، الجملة تبدأ ثم تنتهي. تليها فترة صمت قبل أن تبدأ جملة أخرى قصيرة ومختلفة. يخلق هذا الصمت المتكرر إيقاعًا داخليًّا يميز كتاباته…. بسيطة أعماله غاية البساطة. ككل الأعمال العظيمة، جسور لا يحب الخوف. ويكتب ببراعة عن المهزومين والهامشيين والأشياء القديمة. يحب الكتابة ولكن دينه الإيجاز، يقدِّر الفصاحة العربية لكنه يشعر بثقلها على الروح والمعنى ويقول «إن الإيجاز نزعة روحية قبل أن يكون مهارة»”.
ومن علاء الديب إلى البساطي وأصلان. فنحن بصدد أساتذة الكثافة والاختزال والسهل الممتنع، تيار بلاغي وجمالي يجافي التكلّف ويسعى لإخفاء الصنعة تحت البساطة الظاهرية.
***
وتتوالى أسماءٌ كنصر حامد أبو زيد وفتحية العسال ومصطفى سويف وتيري إيجلتون وسعدي يوسف وهنري ميلر تطلّ علينا من هذه بين هذه السطور. تعبر بنا منعطف القرن الحادي والعشرين ومدخل الألفية الجديدة؛ لتعكس. ككل أسبوعيات علاء الديب من المقالات النقدية. الحركة الفكرية والأدبية في مصر والعالم العربي بمدها وجزرها. على خلفية ما يدور حولنا في العالم. ولا يكتفي الأستاذ علاء بالتوقف عند مثل تلك الأسماء اللامعة في عالم الأدب والفكر. بل يعمد إلى إنصاف الموهوبين من ساكني الظلال كالقاص الراحل وفيق الفرماوي، الذي يقول عنه: “صعد رحلة حياة شاقة وحده، وأنتج قليلًا.. ولكن في صمت وإتقان.. ولم يجد – ولم يسعَ – إلى أضواء شهرة أو ضجيج إعلان، عليه رحمة الله، وعلينا نحن أيضًا”. وعن كتاب الفرماوي الأخير “روح الروح”. يقول: “نادرة هي تلك الكتب الصغيرة التي تستطيع أن تصنع عالمًا له هذا الوضوح والحسية. بينما يسوِّد كتاب آخرون مئات الصحف…”.
لا أحبذ استخدام مصطلحات الأخلاق عندما يتطرَّق الموضوع إلى الكتابة. ولكن لو طالعنا قائمة دور النشر المنتجة للكتب المعروضة هنا، بتنوعها المصري والعربي، وبصغيرتها قبل كبيرتها. لعرفنا لماذا ارتبطت صفة “النزاهة” بقلم علاء الديب الناقد ومُراجع الكتب. خاصة في عصر صار نقاده وصحافيوه يكرسون أقلامهم لمراجعة إصدارات دور نشر بعينها. يلمّعون كتَّابها نظير أجور معلومة. لم يكن اختياره للكِتاب الذي سيقدمه من بين الإصدارات التي تصله بالعشرات أسبوعيًا إلا انعكاسًا لذوقه وانحيازاته الفنية والفكرية. كأنه يختار أفرادًا لقبيلة يطمح في الانتماء إليها، ليتكلموا من خلاله، وينطق هو بلسانهم ويكتب باسمهم. كان علاء الديب واحدًا، وكان كلّ هؤلاء.
كتاب في كلمة وكلمة في كتاب
(المجلد الثالث من أعمال علاء الديب النقدية)
الهيئة العامة لقصور الثقافة
سلسلة كتابات نقدية، القاهرة 2023
اقرأ أيضا:
عندما قال صلاح جاهين لمجدي نجيب: مبروك هجوم السعدني!