مآذن فاطمية في الصعيد.. تنتظر إعادة الاكتشاف
كثيرة هي الآثار في مصر التي تعبر عن الثراء الحضاري الذي عرفته على مختلف حقبها، لكن بعض هذه الآثار لا نعرف عنها الكثير، وتعاني من الإهمال. ربما تكون من أهم هذه المجموعات المآذن الفاطمية المنتشرة في صعيد مصر ولا يعرف عنها البعض شيئا. فالمدهش أن الصعيد يحتفظ بآثار فاطمية يعود معظمها لنحو ألف عام خلت، تكاد توازي في قيمتها الأثرية ما هو موجود من آثار فاطمية داخل القاهرة ذاتها. لكن معظم الآثار الفاطمية التي تتركز في المآذن أساسا تعاني من الإهمال والتجاهل وقلة العناية. رغم أنها تشكل محطة مهمة في تاريخ تطور بناء المآذن في مصر، كما يمكن أن تشكل نقطة جذب سياحي للعديد من مدن الجنوب.
تعود معظم المآذن الفاطمية في الصعيد إلى فترة حكم الوزير القوي بدر الجمالي (466-487هـ/ 1073-1094م)، الذي شهدته فترة حكمه للبلاد باعتباره الوزير القوي ومطلق الصلاحيات للخليفة الفاطمي الضعيف المستنصر بالله (حكم 427-487هـ/1036-1094م). إذ عرف بدر الجمالي بمنشآته الضخمة داخل القاهرة الفاطمية وخارجها. فترك خلفه الكثير من الجوامع في أنحاء مختلفة من البلاد المصرية، والتي لم يبق معظمها بسبب عمليات الترميم والتجديد التي مرت عليها. فمثلا جامع العطارين بمدينة الإسكندرية تعرض لتجديد شامل وإعادة بناء على يد بدر الجمالي. وهو ما تجلى في لوح تأسيسي محفوظ لنا حتى الآن داخل الجامع الذي فقد كل معالمه الفاطمية على مدار قرون عدة.
**
اللافت أن هناك عدة مآذن تعود إلى بدر الجمالي، في مقدمتها مئذنة جامع إسنا، تلك المدينة الواقعة جنوب الأقصر. ويعرف الجامع بين أهالي المدينة باسم الجامع العمري، ورغم تجديد الجامع بشكل كامل وحديث. فإن المئذنة المنفصلة لا تزال تحافظ على طرازها الفاطمي بحسب محمد محيي الدين سلام، الباحث الأثري، في كتابه (مدينة إسنا: حضارات لا تنسى في الجنوب). وللجامع لوحة تأسيسية تنسب إنشائه هو ومئذنته إلى بدر الجمالي.
أما المئذنة فيقول سلام إنها تشبه “مآذن الصعيد القديمة ذات الطراز الفاطمي، ومنها: مئذنة قوص، ومئذنة أبي الحجاج بالأقصر، ومئذنة الجامع العمري بإدفو، ومئذنة مسجد الجيوشي بالقاهرة. وبرغم التغيير ومرور الزمن، فإن المئذنة التي يبلغ ارتفاعها حوالي 23.69 مترا، حافظت على جمالها بعد الترميمات التي حدثت للمسجد عام 1295هـ. وكذلك زلزال عام 1992، الذي أحدث بها ميلا واضحا ناحية الجنوب الشرقي. وتم استدراكه بعمل صلبات حديدية، تفاديا لزيادة الميل. واستمر وضع المئذنة على تلك الحال على تلك الحال لمدة عشر سنوات، قبل أن تتم إزالة الصلبات الحديدية من على بدنها لتحتفظ بميولها. ولكن في ثبات لا يتزحزح، ولتصبح واحدة من المباني النادرة في مصر، فهي في حالة ميل ثابت”.
ومن إسنا ننتقل شمالا إلى قرية أصفون المطاعنة، وفيها نجد مئذنة كأنها توأم لشقيقتها في إسنا. فهما معنا من إنشاء الوزير الفاطمي بدر الجمالي. وبحسب محمد محيي الدين سلام، فإن ارتفاع مئذنة أصفون تصل إلى 22.92م، وأنها تتكون “من قاعدة مشيدة من الطوب الآجر، ويبلغ طول القاعدة 3.5م، وارتفاعها 12.1م. ويعلو هذه القاعدة المربعة مربع آخر به نوافذ وبأركانه الأربعة مقرنصات ممتدة تتخللها روابط خشبية يعلوها بدن أسطواني، فبدن مثمن، فشرفة خشبية تساقط معظم أخشابها فالجوسق العلوي، وبداخلها سلم صاعد معظمه متهالك، ويدعم قاعدة المئذنة أكتاف ساندة… وتحتوي هذه المئذنة على مجموعة من الزخارف المعمارية… ويتشابه طراز مئذنة أصفون مع طراز مئذنة الجامع العمري بإسنا. وهو الطراز الشائع في مآذن الصعيد في ذلك الوقت”.
**
ويرى الأثري الشهير كريزويل أن مئذنة جامع أبي الحجاج الأقصري هي في حقيقتها مئذنة فاطمية الطراز بل وتعود إلى عصر بدر الجمالي. ما يعني أن الجامع بني في الأساس خلال الفترة الفاطمية كمركز من المراكز الدينية للدولة الفاطمية الشيعية. ثم في العصر الأيوبي ومع التحول إلى مذهب أهل السنة، تحول الجامع إلى السنية، وأصبح مقرا لأحد أقطاب الصوفية. ويخلص كريزويل إلى أن كل تلك المآذن وكذلك مئذنة بلال بأسوان. إذ يذهب في كتابه (العمارة الإسلامية في مصر)، إلى أن هذه المآذن كلها جاءت تخليدا لذكرى حملة بدر الجمالي على الصعيد والنوبة لإعادة الاستقرار لهما بعد فوضى الشدة المستنصرية.
وإذا تركنا الأقصر وتوجهنا إلى أسوان، سنجد مئذنة بلال الشهيرة، وهي تعود إلى عهد بدر الجمالي أيضا. واللافت في هذه المئذنة هو التشابه المدهش في الجزء الأعلى منها مع مآذن إسنا وأصفون وكذلك المقابر الفاطمية الشهيرة بمدينة أسوان. وكلها آثار فاطمية تعود إلى فترة زمنية قريبة. وهو دليل أثري مهم يخدم فرضية تحديد الفترة التاريخية التي تعود لها كل هذه الآثار الفاطمية التي تستحق اهتماما خاصا.
أما مئذنة قرية دلاص ببني سويف، فتكاد أن تكون غير معروفة، على الرغم من طرازها المميز، وتقف شامخة وسط القرية وبجوارها جامع حديث البناء. ما يدل على أن المئذنة كانت تابعة لجامع كبير في العصر الفاطمي، وبنيت المئذنة بنظام المآذن المستقلة. إذ يوجد لها قاعدة منفصلة عن جسم الجامع. وربما يكون هذا السر في أن حفظها لنا الزمن رغم اختفاء الجامع الفاطمي الأصلي. ويعبر حجم المئذنة الضخم عن واقع تاريخي، عندما كانت دلاص كورة مستقلة بذاتها في العصر الفاطمي يتبعها العديد من القرى، وهو ما يفسر وجود الجامع الكبير بها.
**
ويصف الدكتور أحمد عبدالقوي في كتابه (العمارة الإسلامية والقبطية ببني سويف في العصر الإسلامي) مئذنة دلاص بقوله: “بنيت المئذنة من الآجر مع وجود بعض أحجار قليلة بالقاعدة المصمتة، أو كرسي المئذنة. واستخدم المعماري أيضا براطيم خشبية كبيرة تسبح في مادة الآجر على ارتفاعات محددة، ولذلك للسمك الكبير للجدران. إذ يبلغ اتساع الجدار 1.2 متر، ومن شأن هذه الأخشاب تخفيف حمل البناء نتيجة الضغط الرأسي على القاعدة”.
ويضيف: “يعلو القاعدة المربعة بدن مثمن… ويزيد البدن المثمن- بأربعة أضلاع منه- أربع دخلات مستطيلة تنتهي كل منها بعقد مشع ذو خمسة مراكز يعلوه دائرة مشعة. وهذا ما يميز العمارة الفاطمية… وحسب الطراز الفاطمي للمآذن فإنه كان يعلو تلك الشرفة نهاية المئذنة على هيئة المبخرة”.
كل هذه الآثار الفاطمية النادرة في صعيد مصر، تحتاج إلى عناية خاصة. ورغم عمليات الترميم التي تجرى لتلك المآذن الفاطمية، فإن الاهتمام بها على الجانب السياحي يكاد يكون شبه منعدم. فلا اهتمام بتنظيم زيارات لها، ولا اهتمام بوضعها على خريطة السياحة المصرية. ولا تلقي وسائل الإعلام الضوء الكافي على هذه الآثار النادرة التي لا تقل في أهميتها عن الآثار الفاطمية في القاهرة. فتوالي الزيارات على هذه الآثار التي تعود لنحو ألف عام، هو الضمانة الوحيدة للحفاظ عليها. خصوصا أن بعض هذه الآثار تقع بجوار آثار من مصر القديمة. بما يكشف عن التناغم بين آثار من فترات وحقب مختلفة.
اقرأ أيضا:
فلسطين.. قضية تفضح بشاعة النظام الدولي وإفلاسه