الدرس انتهى لموا الكراريس
«من منا لم يشاهد فيلم أجنبي عن نهاية العالم.. وبراعة المخرجين في تجسيد معاناة اللحظات الأخيرة للبشر على الشاشة، لا ماء، أو طعام، أو كهرباء، أو إنترنت، يهرب البشر من رائحة الموت في كل مكان». هذا السيناريو نقلته حكومة الاحتلال الإسرائيلي ونفذته على أرض الواقع عبر التفنن في أبشع الطرق لقتل الأطفال والنساء في قطاع غزة الفلسطيني.
تختلف الأرقام. لكن تشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 500 مدني فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، قتلوا في الغارة الإسرائيلية المدمرة، أمس. وكان الوصف الذي اجتمع عليه العرب والغرب بأنها “مجزرة كبيرة”.
وبحسب تصريحات المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية، فإن هذه المجزرة لا تستطيع المستشفيات الأهلية ولا غيرها التعامل مع تبعاتها. إذ قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية المستشفى الأهلي، المعروف أيضًا باسم المعمداني. وأصابت حشدًا كبيرًا من المدنيين الفلسطينيين الذين كانوا يحتمون به. تحول محيط المستشفى إلى بركة كبيرة من الدماء، بينما تسير تجد أشلاء البشر مُلقاة كالحصى على الأرض. وبحسب مقاطع الفيديو المتداولة، يقف الرجال لانتشال جثث الموتى وجمع الأشلاء، وفي مقطع لأب فلسطيني يتحدث صارخا: “يا عالم حامل عيالي أشلاء بكيس”.
وصف العاملون في مجال الصحة والصحفيون مشاهد مرعبة لأشلاء الجثث المتناثرة في جميع أنحاء المنطقة. قائلين إن مئات الجثث لم يتم انتشالها بعد، وتظهر مقاطع الفيديو كراسي متحركة للمرضى الفلسطينيين مع بقايا جثث مبتورة.
فلسطين.. حصار حتى الموت
رغم تعدد الإحصائيات، لكن حتى الآن غير واضح عدد الأشخاص الذين قتلوا. إذ يُقدر أن المئات أصيبوا أيضًا خارج المستشفى، كما يتضح من برك الدماء في المنطقة بأكملها. وقالت وزارة الصحة الفلسطينية في بيان إن المستشفى الأهلي المعمداني كان يأوي آلاف النازحين عندما تعرض للقصف يوم الثلاثاء. وأضافت أن العديد من الضحايا ما زالوا تحت الأنقاض.
وكان المستشفى الأهلي المعمداني وسط مدينة غزة يأوي آلاف النازحين الذين أخرجهم الاحتلال قسرا من منازلهم. بحسب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، ووصفت وزارة الخارجية الفلسطينية التفجير بأنه “مجزرة بدم بارد”.
ووصفت الهجوم على المستشفى بأنه سيبقى إلى الأبد وصمة عار في ضمير الإنسانية التي شهدت الفظائع المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني دون اتخاذ إجراءات لوقفها. وقال مسؤولون فلسطينيون إن الغارات الإسرائيلية يوم الثلاثاء على مخيمين مكتظين بالسكان ومدرسة تابعة للأونروا تأوي نازحين في وسط غزة أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 18 شخصا وإصابة العشرات.
استشهد 61 شخصا على الأقل في الضفة الغربية المحتلة. وقالت الأمم المتحدة إن ما لا يقل عن 20 من العاملين في المجال الإنساني من الأمم المتحدة والصليب الأحمر والهلال الأحمر قتلوا في غزة.
وفي الوقت نفسه، فإن الخدمات الصحية داخل غزة على حافة الهاوية. كما أن إمدادات الغذاء والمياه تتضاءل. وحذرت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أن 20 مستشفى من أصل 23 تقدم خدمات جزئية لأن احتياطيات الوقود أوشكت على النفاذ بالكامل.
مستشفى المعمداني الأثري
تاريخ عريق لمستشفى المعمداني الذي دمره قوات الاحتلال. إذ يعد المستشفى الأهلي، الذي تأسس منذ أكثر من قرن، ثاني أقدم مستشفى في قطاع غزة. وتقول المصادر أن المستشفى تم إنشاؤه عام 1882.
تم تأسيس المستشفى من قبل جمعية إرسالية الكنيسة التابعة لكنيسة إنجلترا. وفي وقت لاحق تمت إدارتها من قبل البعثة الطبية للكنيسة المعمدانية الجنوبية. وكان ذلك بين الأعوام 1954-1982.
منذ أوائل الثمانينيات، تولت الكنيسة الإنجيلية الأسقفية في القدس إدارة المستشفى. ويقع المستشفى الأهلي، والذي كان يسمى بالمعمداني، في حي الزيتون جنوب مدينة غزة. وهو أحد المراكز الطبية الكبرى في قطاع غزة بأكمله. حيث يقدم الدعم الطبي لآلاف الفلسطينيين، وخاصة الأسر الفقيرة والطبقة العاملة.
في الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على غزة، حذرت إسرائيل المستشفيات المختلفة. بما في ذلك المستشفى الأهلي، بضرورة إخلاء المستشفيات، وأنه سيتم قصف المستشفيات. وهذا يتنافى مع ادعاءها الآن بأن تفجير المستشفى جراء صاروخ فاشل من قوات حماس.
لكن إدارة مستشفيات القطاع المختلفة رفضت إخلاء القطاع، بسبب الأوضاع الحرجة التي يعيشها آلاف المدنيين الفلسطينيين الذين تستهدفهم القنابل الإسرائيلية منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر. وفي السبت الماضي قصفت إسرائيل مركز علاج السرطان التشخيصي بالمستشفى.
بحر البقر
هذه المشاهد أعادت إلى الأذهان حادثة مذبحة بحر البقر، ففي صباح الثامن من إبريل 1970، ارتكبت واقعة مشابهة في مصر لكن هذه المرة عبر قصف مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة التي تقع بقرية بحر البقر في مركز الحسينية بالشرقية.
تتكون المدرسة من طابق واحد به ثلاثة فصول وغرفة المدير، وعدد الطلبة كان 130 طفلا لا تتجاوز أعمارهم اثني عشر عاما. حضر في هذا اليوم ستة وثمانين فقط منهم. وأدى الهجوم الذي شنته القوات الجوية الإسرائيلية بطائرات من طراز “فانتوم”، إلى مقتل 30 طفلاً وإصابة 50 آخرين.
“الدرس انتهى لموا الكراريس بالدم اللي على ورقهم سال.. في قصر الأمم المتحدة مسابقة لرسوم الأطفال.. إيه رأيك في البقع الحمرا يا ضمير العالم يا عزيزي.. دي لطفلة مصرية سمرا كانت من أشطر تلاميذي.. دمها راسم زهرة، راسم راية ثورة، راسم وجه مؤامرة، راسم خلق جبابرة.. راسم نار راسم عار ع الصهيونية والاستعمار.. والدنيا عليهم صابرة وساكتة على فعل الأباليس.. الدرس انتهى لموا الكراريس”.. صلاح جاهين.
كالعادة حاولت إسرائيل تبرير جريمتها التي تتنافى مع كل الأعراف والقوانين. وقالت حينها إن المدرسة كانت منشأة عسكرية مخفية، وقالت عن الأطفال أنهم يرتدون الزى الكاكي لتلقي التدريب العسكري.
وهذا الادعاء نفسه لتبرئة نفسها من المجازر، تكرر بعد قصف مستشفى المعمدانية بغزة. إذ أصدر جيش الاحتلال بيانا ينفي فيه علاقته بصرب المستشفى وأن قوات حماس هي من وراء هذه المجزرة.
مجزرة صبرا وشاتيلا
هي واحدة من أكثر المجازر الوحشية في التاريخ الحديث. حيث تم تنفيذها في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان في سبتمبر عام 1982. استمرت المجزرة لمدة ثلاثة أيام على يد مجموعات لبنانية متعاونة مع الجيش الإسرائيلي.
تشير التقديرات إلى أن عدد القتلى في المذبحة يتراوح بين 750 و3500 قتيل، بينهم رجال ونساء وأطفال وشيوخ من الفلسطينيين واللبنانيين. تمت المجزرة في ظروف قاسية، حيث كان المخيم مطوقًا بالكامل ومحاصرًا من قبل الجيش الإسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي. وتم منع هروب الأشخاص وعزل المخيم عن العالم الخارجي.
قامت القوات اللبنانية بدخول المخيم وشن هجوم وحشي على سكانه. حيث استخدمت الأسلحة البيضاء وغيرها لقتل الأبرياء. وقد قام الجيش الإسرائيلي بإنارة المخيم بواسطة القنابل المضيئة ليلاً، مما سهّل مهمة القوات اللبنانية في تنفيذ المجزرة دون خسارة رصاصة واحدة.
عدد الشهداء في المذبحة لا يزال محل جدل وتباين في التقارير. فقد أشارت تقارير من ممثلي الصليب الأحمر إلى وجود 328 جثة. بينما تقارير لجنة التحقيق الإسرائيلية أشارت إلى 460 جثة. وفي تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC تم ذكر عدد القتلى بواقع 800 شخص. وقد قدرت بعض المصادر الأخرى عدد القتلى بأكثر من 1300 شخص. ومهما كانت التقديرات المحددة لعدد القتلى، فإن تلك المجزرة تظل مأساة إنسانية تشير إلى العنف والظلم والقسوة التي يمكن أن يتعرض لها الأبرياء في زمن الحروب والصراعات.