مفاتيح القرافة.. لمسة مصرية على دنيا الأموات
عند أي جولة في جبانات القاهرة، ستأخذ بمسامعك عدة ألفاظ لا تسمعها إلا في العاصمة المصرية، تبدو كمفاتيح للمكان، وشفرة سرية تعبر عن التراكم الحضاري البديع للمصريين في علاقتهم بالموت. فالجبانة تعرف في القاهرة باسم القرافة والترب، وربما تندهش أكثر عندما تجد ذكر البساتين ملتصقا ببعض الجبانات القاهرية. هنا سنتعرف على بعض هذه المسميات التي لا تجدها مستعملة إلا في القاهرة كلمسة مصرية صميمة على دنيا الأموات.
المدهش أن تسمية المقابر بالشكل الذي نجده في مصر، يختلف عن غيره من أقاليم العالم الإسلامي والعربي، فالطابع المصري يدمغ كل شيء حتى بوابة العالم الآخر. فإذا كان مصطلح مثل (الترب) يستخدم في وصف مجموع المقابر في مكان ما في مصر، فأننا لا نجد هذا المصطلح مستخدما في العراق منذ عصور العباسيين حتى اليوم. إذ يطلق لفظ (مقبرة) على مناطق الجبانات المختلفة، فمثلا مقبرة الخيزران والواقعة شرقي نهر دجلة بمدينة بغداد، لا يستخدم فيها لفظ الترب، بل فقط لفظ مقبرة أو مقابر، وهي تعرف الآن باسم مقبرة الأعظمية. وتستخدم هناك لفظة تربة بالمفرد للإشارة إلى المقبرة المعروفة لشخص بعينه، وكما هو معروف ظهر مصطلح (القرافة) في مصر بعيد الغزو العربي لمصر.
**
البداية من مصطلح الجبانة أو الجبان، المستخدم في الريف المصري حتى يومنا هذا، وهو مصطلح عربي أصيل إذ يعني بحسب (لسان العرب) لابن منظور، الصحراء. “وتُسمى بهما المقابر لأنها تكون في الصحراء تسمية للشيء بموضعه… ولا تكون الجبانة في الرمل ولا في الجبل… وكل صحراء جبانة”. ويأتي هذا التعريف متوافقا مع شروط اختيار المقابر سواء عند العرب المسلمين أو من سبقهم من الأمم. إذ كان الحرص دوما على بناء المقابر في الصحراء بعيدا عن التجمعات السكانية ومواضع إفساد المقابر من القرب من الأنهار والأرض الطينية. ما نلاحظه في مقابر المصريين القدماء المبنية في قلب الصحراء وأعالي الجبال، ما نجده كذلك في جبانة المسلمين الأولى لمدينة الفسطاط والواقعة قرب سفح المقطم بين الجبل والمدينة.
إذ تركنا خلفنا لفظ الجبانة المستخدم في طول مصر وعرضها، وذهبنا إلى مصطلح أكثر خصوصية، فسنلتقي بـ (القرافة)، وهو من مفردات العاصمة المصرية الحضارية. إذ يقول المقريزي في كتابه الأشهر (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار): “واعلم أن لأهل مدينة مصر ولأهل القاهرة عدة مقابر، وهي (القرافة)، فما كان منها في سفح الجبل يقال له: القرافة الصغرى، وما كان في شرق مصر بجوار المساكن يقال له: القرافة الكبرى. وفي القرافة الكبرى كانت مدافن أموات المسلمين منذ افتتحت أرض مصر، واختط العرب مدينة الفسطاط، ولم يكن لهم مقبرة سواها”.
أما عن أصل الاسم فيعود إلى بني قرافة من قبيلة المعافر اليمنية التي استقرت في هذه المنطقة بعد الفتح العربي، شرقي مدينة الفسطاط. وكان أول من دفن فيها رجل من المعافر يسمى عامر “فقيل عمرت”، وانتشرت التسمية وثبتت مع دوران حركة عمران القرافة التي ازدانت بمقابر الصحابة وأهل مدينة الفسطاط على مدار قرون. فصار مسمى القرافة علما على مقابر العاصمة المصرية.
**
ويميز المقريزي بين القرافة الكبرى وهي قرافة أهل مدينة الفسطاط، أول عاصمة مصرية في الحقبة الإسلامية. وبين امتدادها الشمالي الذي بدا تعميره بشكل مكثف في الفترة الأيوبية، والذي عرف باسم القرافة الصغرى. إذ يقول: “لما دفن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بن أيوب ابنه، في سنة ثمان وست مائة [1212م]، بجوار قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وبنى القبة العظيمة على قبر الشافعي. وأجرى لها الماء من بركة الحبش بقناطر متصلة منها، نقل الناس الأبنية من القرافة الكبرى إلى ما حول الشافعي، وأنشأوا هناك الترب. فعرفت بالقرافة الصغرى، وأخذت عمائرها في الزيادة وتلاشى أمر تلك [أي القرافة الكبرى]”.
واستخدم لفظ الترب، ومفردها تربة، الذي يبدو أنه مشتق من لفظ التراب، في مصر بكثافة. إذ أن الاستخدام بدأ في العصور الوسطى. فيقول المقريزي: “اعلم أن المقابر، التي هي الآن خارج باب النصر، إنما حدثت بعد سنة ثمانين وأربع مائة. وأول تربة بنيت هناك تربة أمير الجيوش بدر الجمالي، لما مات ودفن فيه، وكان خطها يعرف برأس الطابية”. وقد عرفت مقابر باب النصر باسم (ترب باب النصر)، وهي تسمية شائعة فنجد (ترب المجاورين) و(ترب المجاورين). كما تنتشر هذه التسمية في ريف مصر إذ يطلق أهالي القرى على مقابرهم لفظ (الترب).
**
إذا كان مصطلح (الترب) يحيل إلى أننا جميعا إلى زوال حيث يكتنفنا التراب، ونعود إلى باطن الأرض. فهناك مصطلح آخر يعكس الجانب المحب للحياة في الشخصية المصرية، نجده يستخدم في جنبات الجبانات القاهرية بوضوح. وهو لفظ (البستان) وجمعه (البساتين)، ويعود هذا في الأساس إلى ظاهرة زراعة الأشجار في المقابر بكثافة. في إشارة رومانسية إلى أن هذه المقابر هي جزء من الجنة بأشجارها الوارفة. لذا انتشر مسمى البساتين بكثافة كما هو الحال في حي البساتين، الواقع في الجزء الجنوبي الشرقي من جبانات القاهرة. فهو جزء أصيل من القرافة الكبرى وامتداداتها الجنوبية.
وانتشر المصطلح في جبانات القاهرة، إذ نجده في ترب المجاورين، التي لديها مسمى آخر أكثر شاعرية؛ “بستان العلماء”. هنا نلتقي مرة أخرى بمسمى البستان، فكرة شاعرية أخرى تُشبه مجاوري الأزهر بزهر البساتين. لكن الأمر لا يقف عند المعنى الرمزي الشاعري، بل له ظل من الحقيقة. إذ كانت الجبانات مجموعة من البساتين فعلا، ولا تزال تضم ثروة معتبرة من الأشجار المتنوعة. وهي ظاهرة رصدها المقريزي وغيره من المؤرخين الذين ذكروا عدة بساتين في جبانات القاهرة. في ظاهرة تعود إلى العصر الفاطمي وربما أقدم من ذلك العصر.
**
هناك ظاهرة أخرى مرتبطة بالخصوصية المصرية. إذ أن كل مقبرة ألحق بها فناء واسع يتم زراعته عادة بالإضافة إلى احتوائه على مكان للاستراحة لاستقبال أهالي المتوفي المدفون في المكان. وهي ظاهرة تعود إلى العصور الإسلامية المبكرة في مصر. إذ كانت العادة أن أهالي العاصمة المصرية يخرجون إلى هذه المقابر ويقضون يومي الخميس والجمعة فيها. وقد عرفت هذه المساحة الخارجية من المقبرة باسم (الحوش) وجمعها (أحواش) بمعنى الفناء الخارجي. وهي تسمية منتشرة في المقابر المصرية سواء في القاهرة أو الأقاليم. إذ يذكر الحوش في القرى إشارة إلى مجموعة المقابر الخاصة بعائلة واحدة. بينما يذكر في القاهرة للإشارة إلى المقبرة التي لها ساحة خارجية تسبق عادة في التخطيط المدفن الرئيسي بها.
هذا المصطلحات هي الأكثر ترديدا على الأسماع عندما تزور جبانات القاهرة. وهي تعبر عن خصوصية مصرية وتحكي كيفية تفاعل المصريين مع ظاهرة الموت. إذ استخدموا عدة مصطلحات ومفاتيح تعبر عن حجم الميراث الحضاري للمصريين في تعاملهم مع الموت الذي حوله إلى ظاهرة تنبض بالحياة، فجعلوا الترب بساتين. وهي ظاهرة تحتاج إلى مزيد من التوثيق والحفاظ على كل هذا الميراث الذي وصلنا من المقابر والمدافن والأحواش، الذي يعبر عن خصوصية حضارية مصرية لا تزال غير مكتشفة الأبعاد بعد.
اقرأ أيضا:
الجبانات.. ثقافة الاحتفاء المصري بـالموت تنتظر التوثيق