زيارة أخرى لـ«سيد درويش»
في مطلع السبعينات من القرن الماضي، اعتدت مطالعة الإعلانات المُبَوبَّة في ركن بالصفحة الثانية من جريدة الأخبار والذي حمل عنوان «أين تذهب هذا المساء». يعلن عن دور الترف والترفيه. فالبعض يخص عروض السينما والبعض الآخر المسرح والكازينوهات والملاهي الليلية وغيرها.
غير أن تلك “الزاوية” خلت من ذكر مسرح سيد درويش “مسرح محمد علي سابقا”. ومرت أعوام تحصى، حيث اعتدنا صحبة شغفت بالثقافة والفنون، أن تتعدد نزهتنا لهذا الصرح الشاهق ذو الواجهة العريضة مثل جدارية تحلت بالزخارف والنقوش البديعة. ظل مسرح سيد درويش بإطلالته على شارع فؤاد ومقربته من كوم الدكة وموازٍ لممر سينما رويال. حيث سكن الفنان سيف وانلي، ومجاورته لقصر ثقافة الحرية (الإبداع الآن)، من علامات شموخه ورسوخه كمفاعل يحفل بالفكر والفن.
آنئذٍ، شهد المسرح كافة أجناس الفنون العالمية والمحلية. حيث شاهدنا عروضا مجانية آنًا، وآنًا تذكرة بثمن زهيد. ودوما، تطوقنا حالة التمرح والفرجة على المسرح خاويا، فتأسرنا العمارة المتوجة بأسماء نوابغ الموسيقى الأوروبية. نطوف بأنحاء المسرح: الصالة، البنوار، اللوج… تسحرنا الأشياء الأرجوانية التي تكسو كافة أرجائه.
***
لا أدري إذا ما كان لدى مؤسسة الثقافة الرسمية أرشيفا يؤرخ للحياة الفنية لمسرح سيد درويش عبر حُقَب عديدة. أم صارت تلك الوثائق نهبا للضياع. لذا احتشدت ذاكرتي لاجترار وقائع جرت في أزمنة دانية. حيث شاءت الأقدار أن أشهد زخم من تجارب فنية رفيعة وطليعية في شتى صنوف الفنون. فتتكرر نزهتي حيث أقبلت على الاستماع إلى الأوركسترا السيمفوني حيث بهرتني حيوية المايسترو يوسف السيسي. مثلما تلهفت على عروض الباليه، وفرق الفنون الشعبية الأوروبية، والأوبرات العالمية، وفرقة الإسكندرية للفنون الشعبية، وعروض جماعة التمثيل المسرحية السكندرية ورموزها من الموظفين نهارا الممثلين ليلا. فشهدت عروضا عديدة، “الدنيا دوارة” هزلية لتوفيق الحكيم إخراج حسين جمعة وديكور مسرح سيد درويش (محمد علي سابقا)، “الخرتيت” ليونسكو، و”سقوط الأقنعة” نص بابيخو وديكور علي عاشور وإخراج سيد الدمرداش، وغيرها من الأحداث الفنية.
وفي نهاية الثمانينات من القرن الماضي، كان عرض “فنان الشعب” الذي يستعرض تاريخ الحياة الاجتماعية والسياسية لعصر سيد درويش من إخراج عبدالغفار عودة (الذي كان قد أسس “مسرح الغرفة” بمسرح سيد درويش). وكلمات الشاعر حمدي عيد وألحان حمدي رؤوف. حيث حظيت آنذاك بصحبة صُناع العمل في إجراء البروفات بفندق متروبول بالإسكندرية قبيل العرض النهائي. ولا أنسى المشهد اليومي في البروفات للمخرج عبدالغفار عودة بقامته الضخمة، يطوف مختالا بالغرفة الفسيحة، ينشد الأشعار، مقتسما الأداء مع حمدي رؤوف في عاطفة مفرطة المشاعر “فايت عيون الحبايب، والهوا النيلي. لكن آهين يا وطن، نقشك في منديلي” ويؤدي أيضا” يا بحر رايق يا إسكندراني، موجك ساحرني، شطك غواني”.
وقتها.. مضت الحياة دون هدر، دون هجر وغدر أيضا. فما الذي صار.. فهل لدينا الحق في اللوم.. نلوم ومقدراتنا ليست بأيدينا.
اقرا أيضا:
الشيخ عبدالعزيز البشري يكتب عن الشيخ سيد درويش
للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي: