ملف| محمد حسنين هيكل: الروائي الكامن.. والشاعر المقموع
بدأ محمد حسنين هيكل كاتبا للقصة القصيرة، نشر بعضا من هذه القصص في “آخر ساعة”، و”روزاليوسف”. ولكنه لم يستمر طويلا، أراد أن يخاطب جمهورا أوسع، فاحتفظ بصفة السارد في كتاباته الصحفية. «روائى كامن وشاعر مقموع» حسب وصف الكاتب الصحفي عبدالله السناوي له، ظل يقمع الروائي بداخله لكن “لسنا فنانون ولا روائيون ولا مؤرخون. لكن استلهام الفن في روحه والرواية في دراميتها والتأريخ في أدواته يضفي على الرواية الصحفية جمالا وحيوية ودقة. وهذا أقصى ما يطلبه صحفي” كما قال.
لذا لم يتخل هيكل عن أدوات الفنان، وهو يكتب أعقد الموضوعات السياسية، رغم تنقله بين المدارس الصحفية المختلفة (الجازيت، روزاليوسف، آخر ساعة، الأخبار، أخبار اليوم، الأهرام.. ثم كاتبا حرا). فقد ظل الثابت الرئيسي في كتاباته ما تعلمه في بداياته الصحفية: العقلانية من هارولد إيرل، رئيس تحرير الإيجيبشين الجازيت، والرومانسية من سكوت واطسون، سكرتير تحريرها، وحلاوة الأسلوب وسلاسته من محمد التابعي.
هكذا، أدرك هيكل أن قوة الصحفي في السرد، في أن تعرف كيف تحكي حكاية. ألا تقدم المعلومة – كعالم رياضيات- بقدر ما يكون لديك القدرة على سرد المشاعر، وتتبع الملاحظات العابرة التي قد تعني شيئا لغير الأدباء. وهكذا احتفظ هيكل بقراءه ومتابعيه. ليس فقط لمجرد أن مقالاته تقدم معلومات خبيئة بقدر ما تقدم “أسلوبا” لا يتخلى عن الإمتاع!
***
في لقاء معه جري قبل رحيله، حاولت أن استكشف جوانب الفن في شخصية الأستاذ. هو عاشق للشعر، محب لأحمد شوقي، ويكاد يحفظ مقاطع كاملة من مسرحيات شكسبير، وتحديدا مجموعة المآسي: هاملت وماكبث والملك لير. كما أنه عاشق للفن التشكيلي، كان يتابع حركة الفن بدأب شديد واقتنى عشرات الأعمال لكبار الفنانين وشبابهم أيضا. وقد كتب العديد من المقالات في الفن التشكيلي مما يكشف عن ذائقة رفيعة.
***
كما كانت الموسيقى، أحد الجوانب الهامة في حياته، هو مولع بالموسيقى الكلاسيكية. قال: أحد اساتذتي المهمين هو محمود عزمي وزير خارجية مصر، وكانت زوجته سيدة روسية رفيعة الذوق. كنا نذهب عنده كل خميس لنستمع إلى الموسيقى الكلاسيك، ومن هنا كان عشقي للموسيقى.
أسأله عن الأفضل بالنسبة له؟
يقول: حلاوة موزارت، فهو أشبة بطفل لم يكبر بعد، موسيقاها بها براءة طفولة متمردة، يعجبني البناء لدى بيتهوفن، أما هايدين فهو “سيد الكل”.
سألته: هل أثر عشقك للموسيقى على أسلوبك.. في الكتابة وبناء الموضوع، وإيقاع الجملة؟
يجيب: «فى الثقافة، لا يمكن الحديث بهذا الشكل عن مؤثرات. أنت تهضم كل ماتتعرض له، فيتحول إلى عصارة من القراءات والأشعار والأفلام والموسيقى.. كل هذه الأشياء تؤثر فيك، لكن لا تستطيع أن ترصد هذا التأثير بدقة. لقد تعلمت من هارولد آرول، أول رئيس تحرير عملت معه في “الإيجيبشيان جازيت” أنك يمكن أن تنسى المعلومات، ولكن أثرها يبق معك دائما».
يضيف هيكل موضحا: «ولذا أنا مدين لآرول بالفضل أيضا في تقليل الاعتماد على الذاكرة. حيث نصحني في بداية عملي المهني، أنا ومجموعة من الزملاء: “سوف تذهبون إلى مهام متواصلة تغطون فيها مسارات الحوادث في وطنكم وأوطان أخرى. وعندما تأخذكم المهام التي تكلفون بها إلى أي مكان، خصوصا خارج البلاد. فلا تحاولوا أن ترسلوا بمواد إخبارية عاجلة؛ لأن وكالات الأنباء سوف تسبقكم. أما ما تستطيعون التفوق به على غيركم فهو التركيز على خلفية الوقائع والحوادث وحركتها الداخلية، مستندين إلى المشاركين فيها وشهودها. راسمين باللون والظل وبالصوت والهمس صورا حية للأجواء والظروف والملابسات. وعليكم تسجيل ذلك وتثبيته أولا بأول حتى تستطيعوا فيما بعد عندما تكتبون تقاريركم، أن تستعيدوه على نحو دقيق وأمين. وإذا اعتمدتم على الذاكرة وحدها ومر يوم ثم يوم، فأخشى أن النتيجة تكون أقرب إلى فن القصص منها إلى عرض الخبر».
ويبتسم قبل أن يضيف: “مرض الصحافة الحالية أنها تقرأ الفنجان، وتحاول قراءة البخت. لا الاعتماد على معلومات حقيقية”!
***
برغم السياسة وملاحقة الأخبار، لم تنته علاقة هيكل بالموسيقى. كان يتابع أولا بأول، حريصا على السفر كل عام إلى فينيا للاستماع الى ما يحب فى مهرجان الموسيقى الكلاسيكية السنوي. كما كانت علاقاته بالموسيقيين المصريين، لها حكايات وحكايات. تبادل المواقع ذات يوم مع أم كلثوم، حيث عملت معه صحفية وحاورته حوارا شهيرا.. استكتبها في الأهرام، وكثيرا ما كتبت افتتاحية الأهرام!
من أم كلثوم انتقل الحديث بسلاسة إلى أحمد عدوية.. حكى هيكل: ذات مرة، طلب مني أحمد بهاء الدين ألا أنام مبكرا كما اعتدت، وأنه سيمر عليّ لأمر هام.. انا أحب بهاء، ولا أرفض له طلبا، وبالفعل ذهبت معه إلى أحد فنادق القاهرة الكبرى، وبعد قليل ظهر أحمد عدوية.. وقال بهاء جئت بك لكى تستمع إليه لأنه هو مطرب المرحلة القادمة وتعبير عنها..!
تشعب الحوار عن الأهرام التي أراد هيكل أن تكون: “بؤرة تنوير”، كان الدور السادس فيها أشبه بـ”دوار النجوم”. وتحدثنا عن الفن التشكيلي والعولمة، وتوفيق الحكيم.. وأشياء أخرى كثيرة، لم تغب السياسة عنها، واستدعى هيكل من ذاكرته أبيات شعر قالها العقاد في رثاء سعد زغلول في احتفال أقيم في أربعينيته: أمضت بعد الرئيس الأربعون/ عجبا كيف إذن تمضي السنون.
يضحك الأستاذ: بينما كان العقاد يلقى قصيدته، متسائلا كيف ستمضى السنون بعد غياب الزعيم سعد؟ فأوقفه كامل الشناوى قائلا: ستمضى كما مضت الأيام الأربعين!.. وهكذا نحن ستمضى الأيام!!
***
لم يكن هيكل مجرد صحفي، أو “جورنالجي” كما كان دائما يصف نفسه.. أو ناقلا أو مبررا لخطاب دولة يوليو، بل كان صائغا لخطابها الإيديولوجي، وفاعلا فيه. لم يتوقف يوما عن المشاركة حتى في أوقات ابتعاده عن “السلطة”. لقد اقترب أكثر مما ينبغي لصحفي، فاخترق أحيانا، واحترق أحيانا أخرى.. لكنه كان يخرج في كل مرة صامدا، وأقوى مما كان بسلاحه: القلم. عندما أبعده السادات عن الأهرام، توقع الجميع أن يختفي هيكل، لكنه أصبح الأكثر شهرة لأنه انتقل في الوقت المناسب إلى معسكر “خارج السلطة”.. بل أصبح هو في حد ذاته سلطة.. سلطة الكاتب!
في ذكرى ميلاده المائة.. نحتفي به. نتذكر بعضا من جوانبه الثرية في هذا الملف.
اقرا أيضا:
«سنلتقي من جديد».. قصة أول مقال لـ«هيكل» في آخر ساعة
«الناصرية» بين يوسف حلمي ومحمد حسنين هيكل
محمد حسنين هيكل مؤرخا.. إرث محل جدال