«هيكل» يحاور «هيكل»
في بدايات محمد حسنين هيكل الصحفية حدث خلط لدى بعض القراء بينه وبين الدكتور محمد حسين هيكل السياسي والكاتب المعروف وزعيم حزب الأحرار الدستورين ورئيس تحرير جريدة السياسة وكذلك رئيس مجلس الشيوخ، فكان الأستاذ هيكل يتذكر هذه المواقف قائلا: (في بداياتي في “آخر ساعة” وكنت قد بدأت الكتابة باللغة العربية، كتبت مقالة اعتقدت أنها كانت عادية، وقد اتصل الناس بــ”محمد حسين هيكل” باشا وهنئوه على المقالة، فأرسل هيكل باشا مدير مكتبه سيد نوفل، وطلب مني أحد اقتراحين: إما أن أغير اسمي أو أوقع باسم هيكل الصغير. ورفضت الاقتراحين).
هيكل الصحفي يحاور هيكل باشا في آخر ساعة
ولكن لا يعلم الكثير أن الصحفي الشاب محمد حسنين هيكل قد ذهب إلى الدكتور هيكل، وأجرى معه حوارا نشره بمجلة آخر ساعة في سبتمبر 1945. ووقتها كان الدكتور هيكل في مصيفه برأس البر، وقت أن كانت رأس البر قبلة الوزراء ورجال الدولة. قبل أن يذهب هيكل إلى الدكتور هيكل، التقى أولا صبري أبوعلم الذي أرسل معه عدة أسئلة يسألها للدكتور هيكل.
وهكذا سافر هيكل الصحفي إلى الدكتور هيكل الكاتب والسياسي. ووصل إلى عشته برأس البر وقال له أن أسئلتي تنقسم إلى قسمين، قسم يوجهه صبري أبوعلم إلى سعادتكم عن طريق آخرساعة. وقسم توجهه آخر ساعة نفسها، فضحك هيكل باشا وقال: صبري أبوعلم وآخر ساعة.. ليكن تفضلوا. وسكت هيكل باشا فترة تابع فيها ببصره قاربا شراعيا في البحر ثم قال للصحفي الشاب: لنبدأ بأسئلة صبري باشا.
**
وبدأ هيكل في سرد الأسئلة التي أرسلها معه صبري أبوعلم. وكانت تتمحور حول رأي هيكل باشا في وضع قوانين جديدة في صورة مراسم قبل أخذ رأي البرلمان. وسأله أيضا عن رأيه في مشروع الخمس سنوات وهل يرى أنه يكفل حاجات البلاد إلى الإصلاح؟ وأسئلة أخرى حول رأيه في ما تنسبه الدوائر البريطانية إلى الحكومة المصرية من أنها غير ملحة في مسألة النظر السريع إلى القضايا القومية. وبعد انتهاء أسئلة صبري أبوعلم بدأ محمد حسنين هيكل في توجيه الأسئلة التي أعدها للحوار وكان أولها:
- هل تستطيع الحكومة الحالية الدخول في مفاوضات دون اشتراك الوفد كحزب له مكانته في هذه البلاد؟
- أجاب هيكل باشا: إذا كانت المسألة مسألة استطاعة فجوابي هو أن الحكومة يقينا تستطيع – حكومة النقراشي باشا- بدليل أن الوفد قام بمفاوضات مونترو منفردا ولم يجد احتجاج محمد محمود باشا وإسماعيل صدقي على قيام الوفد وحده بهذه المفاوضات. إن بين الحكومة وبين الوفد قضية معلقة والمتفاوضون يجب أن يكون بينهم تفاهم تام، فإذا كان بين الوفديين من يستطيع أن يتعاون مع الحكومة فهذا خير للبلاد.
- ثم سأله هيكل عن رأيه في أن أداء الوزارة راكد وهذا ما أجمع عليه الأصدقاء قبل الأعداء.
- فأجاب هيكل باشا: أنا لا أرى أنه ركودا والذي أراه هو أنهم لا يتكلمون، صحيح أنه قد مضى على هذه الوزارة في الحكم ما يقرب من عام ومع ذلك فلا يجب أن ننسى أنها ظلت مشغولة حتى 15 يناير في الانتخابات. ثم اجتمع البرلمان في 18 منه، ثم جاءت مسألة إعلان مصر الحرب فشغلت الوزارة حتى أواخر فبراير، ثم كان مقتل المغفور له دولة ماهر باشا فشَل الحكومة زمنا. أضف إلى هذا تحقيقات النحاس باشا أخذت من وقتها الكثير.
ويضيف هيكل باشا: “ومع ذلك فهي أثناء هذا كله كانت تعمل ولكن عيبها كما قلت لك أنها لا تتكلم. أن الكلام أهم ما في الحياة البرلمانية وكلمة برلمان مشتقة من كلمة “Parier” الفرنسية ومعناها يتكلم، ولو كان النحاس باشا أو صدقي باشا أو لو بقى ماهر باشا لما كان هذا الذي تظنونه ركودا. وهو ليس في الحقيقة أكثر من مجرد صمت غير مقصود.
لقاء في بلودان
انتهى الحوار الصحفي بين محمد حسنين هيكل والدكتور محمد حسين هيكل باشا. وكان هو الحوار الوحيد المنشور صحفيا في حينه بين الاثنين ولكنه لم يكن اللقاء الأخير. فقد التقى الصحفي الشاب بالسياسي والكاتب مرات بعد ذلك في فلسطين قبل قرار التقسيم وفي بلودان بسوريا أثناء عقد مؤتمر القمة العربية في يونيو 1946.
ويحكي هيكل بعد سنوات طويلة موقف طريف حدث له أثناء مؤتمر بلودان وكان هذا المؤتمر هو أول تجربة له مع أخبار اليوم بعد انتقاله إليها. يقول هيكل: “كنت مشاركا كمراسل صحفي أغطى المؤتمر، وقد وصلت قبل الجميع، ونشرت الصحف خبرا عن وصول هيكل باشا دون التدقيق بين حسين وحسنين. وبدأت السفارة المصرية والرئاسة بالتحرك، وسارع الفندق بتغيير غرفتي ونقلي إلى الجناح الخاص بهيكل باشا. وحضر السفير المصري برفقة عبدالرازق السنهوري لتحية هيكل باشا لكنهما فوجئا بي أنا الذي وفدت إلى بهو الفندق وليس هيكل باشا”.
لقاء في فلسطين
وينتقل هيكل الصحفي بسرد واقعة أخرى مع هيكل باشا في لقاء بينهما عام 1946 في فلسطين وهو لقاء خرج هيكل منه بملاحظات هامة حول نظرة الساسة المصريين إلى اليهود.
يقول هيكل: “أتذكر تجربة شخصية عشتها بنفسي سنة 1946. فقد تصادف وجودي في القدس في أول مهمة خارجية ذهبت إليها مراسلا لأخبار اليوم مع زيارة قام بها الدكتور محمد حسين هيكل باشا، زعيم حزب الأحرار الدستوريين. وحين عرفت أن هيكل باشا موجود في فلسطين، فقد بادرت للاتصال به وكان كعادته كريما وحفيا. وقد تفضل ووجه إلي دعوة لمرافقته في بعض أوجه النشاط الذي ينوي القيام بها. وقد صحبته في لقاءات عربية وحفلات تكريم أقامتها له هيئات شعبية وأدبية، وحوار فكري طويل رتبه له الدكتور يوسف هيكل رئيس بلدية يافا في ذلك الوقت”.
وعلى جانب آخر فقد كانت لدى هيكل باشا ارتباطات مع الطرف اليهودي في فلسطين. وقد رتب المعنيون بالأمر وقتها برنامج زيارات للضيف المصري الكبير. واللافت أنه كان بينها زيارة إلى الجامعة العبرية وزيارة إلى مستشفى هداسا وزيارة إلى معهد التخنيون. وزيارة إلى مستعمرة “بتاح تكفا” وقد زرتها جميعا في صحبته.
ثم يتابع هيكل: “وأتذكر تعليقا لهيكل باشا دونته في أوراقي بعد هذه التجربة المبكرة في فلسطين. قال هيكل باشا وسط تقييم مستفيض: “ها أنت رأيت الفارق بين الشرق والغرب. إخواننا العرب أكرموا حواسنا ودعونا معهم إلى غذاء وعشاء وسهر وسمر طويلين، وأما الآخرون فقد توجهوا إلى عقولنا”.
ثم يعقب محمد حسنين هيكل على كلام هيكل باشا قائلا: “والآن حين أعود بالذاكرة إلى تلك التجربة أجدني على خلاف- لسوء الحظ بأثر رجعي- مع ذلك المفكر والسياسي المصري الكبير الدكتور هيكل باشا. ذلك أن ظني الآن أنه ليس خلافا بين شرق وغرب. وإنما هو الفارق بين البراءة والتجربة. وربما بين الضعف والقوة وتلك حالة أخرى تختلف عن حد يفصل بين شرق له طبيعة شرق وغرب له طبيعة غرب والاثنان لا يلتقيان”.
هيكل يقابل إلياهو ساسون في القدس
في نفس الرحلة التقى هيكل باشا ببعض من أقطاب الوكالة اليهودية ومنهم دافيد بن جوريون وموشي شرتوك وإلياهو ساسون. ولم تكن تلك اللقاءات في ذلك الوقت شيئا محرجا. حتى أن محمد حسنين هيكل كتب مقالا كاملا يصف فيه ثلاث لقاءات تمت بينه وبين إلياهو ساسون. والغريب أيضا أن هيكل الصحفي وقتها تعامل بعاطفة وفوران شباب اعتمد على آمال كبيرة. اكتشف بعدها أنها أوهام تترجم مأساة العرب من الخديعة والوهم إلى الكابوس. ومن العنترية إلى الهزيمة الساحقة. يحكي هيكل عن ثلاث لقاءات حدثت بينه وبين إلياهو ساسون. وإلياهو ساسون يهودي دمشقي عمل لفترة في مهنة الصحافة. وقد بدأ اسمه يلمع في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى.
وفي مطلع الثلاثينيات هاجر إلى فلسطين وانضم إلى القسم السياسي في الوكالة اليهودية. وتم تعيينه كمساعد لموشي شرتوك “شاريت” لإجراء الاتصالات مع الدول العربية فأصبح مدير دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية. وتم اختيار ساسون للعمل كسفير لإسرائيل في تركيا بعد إعلان دولة إسرائيل.
حدث اللقاء الأول في بداية عام 1948 في القدس وكان وقتها هيكل يتحدث ككل العرب باعتبار أن أي معركة بيننا وبين الصهاينة ستكون نتيجتها لصالح العرب لا محالة. والمضحك أن هيكل وقتها قال لساسون: “أن أي دولة عربية تستطيع أن تمسح من خريطة الشرق الأوسط كل المستعمرات اليهودية في ست ساعات”. وضحك ساسون وتراهن مع هيكل على عشرة جنيهات على من سينتصر في الحرب القادمة ووافق هيكل بثقة تامة.
حالة خطيرة
واندلعت الحرب وحدث للجيوش العربية ما حدث من هزائم. ثم التقى هيكل ثانية بساسون في باريس في شهر سبتمر 1948 وكانت حالة الجيوش العربية في فلسطين خطيرة. ولكنها لم تكن بعد قد وصلت إلى مرحلة الوحل الذي وصلت إليه وكان مجلس الأمن يناقش مسألة فلسطين في قصر شايو في باريس. ووجد ساسون يقول له: “ألا ترى أنك مدين لي بعشرة جنيهات”.
وهنا أجابه هيكل أن المعركة لم تنته بعد فلا تستعجل. وكان اللقاء الأخير في إبريل 1949 في إسطنبول، وكانت المعارك قد انتهت والهزيمة العربية تحققت وأصبحت واقعا. وكان هيكل يتناول العشاء في مطعم “عبدالله” في استقلال جاداس. وأقبل أحد الخدم يحمل إليه ورقة صغيرة وفتح الورقة وإذا فيها بضع كلمات:
“يظهر أن المصادفات التي شاءت أن نتقابل هنا للمرة الثالثة تريد أن تفرض عليك دفع الرهان”. وكان ساسون وقتها قد عين سفيرا لإسرائيل في تركيا، وطوي هيكل الورقة وصمت وغادر المطعم. ولم يعد إليه طوال إقامته في إسطنبول حتى لا يقابل السفير ثانية. ولسان حاله يقول: “أتمنى من صميم قلبي أن لا أقابله مرة رابعة. إشفاقا على نفسي من الخجل وإنقاذا لما يمكن إنقاذه من الإحساس بالهوان”.
اقرأ أيضا:
ملف| محمد حسنين هيكل: الروائي الكامن.. والشاعر المقموع
«سنلتقي من جديد».. قصة أول مقال لـ«هيكل» في آخر ساعة
«الناصرية» بين يوسف حلمي ومحمد حسنين هيكل
محمد حسنين هيكل مؤرخا.. إرث محل جدال