الأزبكية.. حديقة تراثية تنتظر المجهول
تجري الآن ما يطلق عليه رسميًا أعمال “تطوير وإحياء حديقة الأزبكية”. لكن لأن كلمة “تطوير” باتت سيئة السمعة، وسجل الحكومة المصرية الحالي مع الحدائق غير مشرف، لذا فمن الطبيعي أن يتسرب الوجل إلى نفوسنا عند سماع صفير قطار التطوير وقد وصل محطة حديقة الأزبكية، في زمن بات تسليع الفراغات العامة فيه هو الأساس، والإطاحة بالمساحات الخضراء في مذابح أشجار باتت مشاهدها الدامية المعتادة باعثة على الحسرة، لذا لنا الحق أن نضع على الطاولة؛ مشروع تطوير حديقة الأزبكية المنهكة والمهملة منذ سنوات طويلة بسبب أعمال المترو التي أطاحت بما تبقى من غطائها الأخضر، إلا مساحة صغيرة احتفظت بأشجار الحديقة تتركز حول نادي السلاح المصري.
مشاهدة بقايا حديقة الأزبكية كما تظهر على صور القمر الصناعي، محزنة، فما تبقى من أشجار لا يتجاوز مساحة ضئيلة من المساحة الأصلية للحديقة التاريخية، وهو أمر مفهوم في ظل استقطاع الهيئة القومية للأنفاق أكثر من نصف مساحة الحديقة منذ 2008 لإنشاء الخط الثالث من مترو الأنفاق، لكن مع الانتهاء من هذا المشروع الحيوي العام الماضي، عاد الحديث عن كيفية استعادة حديقة الأزبكية التي أصبحت ذكرى، خصوصا مع وجود مشروع حكومي لتطوير الحديقة، وهو ما يطرح السؤال حول فلسفة التطوير الذي ستخضع له المساحة التي كانت تشغلها الحديقة يوما، أو في الحقيقة ما تبقى من الحديقة بعد بناء العديد من المباني على فترات زمنية متباعدة، وأبرزها الجراج القبيح وسنترال العتبة.
***
وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية أعلنت في فبراير الماضي، أن الوزير عاصم الجزار، تابع “الموقف التنفيذي لمشروع تطوير وإحياء حديقة الأزبكية. وهي إحدى أعرق الحدائق بمحافظة القاهرة، والتي تم تنفيذها في القرن التاسع عشر في عهد الخديوي إسماعيل. ويتم تطويرها حاليا تنفيذا لتوجيهات القيادة السياسية، ضمن مشروعات تطوير القاهرة التاريخية”، هكذا قال البيان الحكومي.
بينما أجرى الدكتور عبدالخالق إبراهيم، مساعد وزير الإسكان للشئون الفنية، جولة تفقدية لمتابعة سير العمل بالمشروع. مشددًا على ضرورة الالتزام بالجدول الزمني المحدد لتنفيذ أعمال التطوير، والالتزام بأعلى معايير الجودة، بما يتلاءم مع القيمة التاريخية لتلك الحديقة. وعقد اجتماعا مع مسؤولي شركة المقاولات المنفذة لمشروع تطوير وإحياء حديقة الأزبكية، لمناقشة التحديات التي تواجه التنفيذ، واتخاذ القرارات اللازمة للتغلب عليها، ودفع معدلات العمل بالمشروع، مشيراً إلى أن مكونات مشروع تطوير وإحياء حديقة الأزبكية، تشمل: البحيرة، والنافورة الأثرية، والمسرح الروماني، والبرجولة، والكافيتريا، والمطعم، والأسوار، وغيرها.
هنا ينتهي بيان الوزارة، لكن هناك إضافة على هذا البيان لا نجدها فيه بل نجدها في بيان شركة المقاولين العرب، الشركة المنفذة للمشروع، إذ نجد هذه الفقرة في الختام: “كما يشمل نطاق الأعمال بمشروع تطوير وإعادة إحياء حديقة الأزبكية التراثية كل من إزالة الأعمال القديمة المتواجدة بالحديقة التاريخية مع الحفاظ على الأشجار والمنشآت الأثرية التي تضمها الحديقة، مع تنفيذ الأعمال الجديدة طبقا للتصميم المعتمد، كما تشمل أيضا أنظمة الأعمال الكهروميكانيكية الجديدة اللازمة للمشروع”.
***
الاختلاف بين بياني وزارة الإسكان والمقاولين العرب لافت. فالحكومة لا تقدم أي تعهدات حقيقة باستعادة الأشجار التي سبق إزالتها، ولا تتعهد بزرع أشجار جديدة في المساحات غير المستغلة والمتخلفة عن أعمال الهيئة القومية للأنفاق. فلا نجد أي حديث عن أشجار في الحديقة، بل الحديث عن المنشآت فقط، خصوصا ذات الطابع الاستثماري منها. بينما تتحدث شركة المقاولين العرب عن “الحفاظ على الأشجار”. أي الحفاظ على الموجود حاليا من أشجار مع عدم التعهد بزرع أشجار جديدة أيضا. ليبدو لنا أن المراد هو الحفاظ على مجموعة الأشجار القليلة المتواجدة حول نادي السلاح المصري، مع استغلال بقية المساحة وهي أكثر من نصف مساحة الحديقة في مشروعات استثمارية.
الواضح من البيانات الرسمية وما يجري على الأرض، أننا أمام مشروع لاستغلال أرض حديقة الأزبكية في أعمال ذات بعد استثماري، وتحويل الحديقة إلى نموذج آخر من نماذج مصادرة الفراغات العامة وتحويلها إلى سلعة رغم أنها من المفترض أن تخدم المواطنين جميعا، وتوفر لهم المتنفس الطبيعي، وهنا يحضرنا ما جرى في الحديقة الواقعة أمام قصر عابدين، والتي تحولت من ساحة مفتوحة إلى مكان مسور يعاني من نقص فادح في معدلات التشجير، مقابل ظهور المطاعم والكافيهات داخل الحديقة التي تحولت إلى مساحة مهدرة لا تحتوي إلا على أشجار قليلة لا تتناسب مع حجمها ولا موقعها الذي يقع في قلب منطقة مزدحمة سكانيا، ولا تضم أي مساحات خضراء تذكر.
***
التوجه الاستثماري للتعامل مع حديقة الأزبكية، يبدو أنه السبب في أننا لا نسمع عن دور أو صوت لجهاز التنسيق الحضاري. فقد كانت آخر تصريحات رئيس الجهاز عن حديقة الأزبكية في العام الماضي، وتتحدث بلهجة مختلفة عن الحديقة. إذ تتحدث عن إعادة إحياء الحديقة التاريخية، مع إعادة الأشجار الأصلية وتوثيق النباتات النادرة بها. ويبدو أن المشروع الحالي لا يتناسب مع هذه الرؤية التي كان يتبناها الجهاز. لذا لا نجد له أي دور معلن في العمليات الجارية في حديقة الأزبكية حاليا، بما يوحي بأن عملية التشجير لم يعد لها مكان في المخطط الاستثماري للحديقة. خصوصا أن دور جهاز التنسيق الحضاري ارتبط بأعمال اللجنة القومية لتطوير وحماية القاهرة التراثية. وهي الأخرى لجنة لم نعد نسمع عنها أي أخبار منذ وفاة رئيسها شريف إسماعيل، رئيس الوزراء الأسبق في فبراير الماضي.
التخوف مشروع إذن، لأن السوابق الحكومية في الفترة الأخيرة لا تبشر في ملف إزالة الأشجار. بل لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الحكومة هي صاحبة المركز الأول في إزالة الأشجار. لذا لا غرابة أن يسكنا التخوفات من المصير الذي ينتظر حديقة في عراقة الأزبكية، التي تعود إلى العام 1872، وترث ذكرى بركة الأزبكية، وقبلها بركة بطن الفيل، والتي تعد أحد مظاهر التحديث في القاهرة الخديوية. إذ صممت على غرار حدائق باريس، وكانت نقطة جذب ومتنفس أصلي لأهالي القاهرة على مدار عقود. قبل أن تتدهور بالتوازي مع تدهور مختلف مظاهر الحياة في القاهرة على مدار العقود السبعة الأخيرة، لنصل إلى الوضع الحالي حيث الحديقة بلا أشجار، شبه صحراء.
***
لا أحد ضد التطوير من حيث المبدأ، وحسن فعلت الحكومة ممثلة في وزارة الإسكان، في اختيار أشكال تراثية للبرجولة والمطاعم. لكن يجب ألا يتم هذا عبر تحويل الحديقة إلى مساحات مبلطة ومغطاة بالنجيلة للسماح لإنشاء مطاعم وكافيتريات، وبنسبة إشغال شجري محدودة جدا. فالمنطقة التي تقع فيها حديقة الأزبكية هي منطقة معدومة الغطاء الأخضر. ولا نكاد نجد مساحة خضراء معتبرة إلا في حديقة الأزهر البعيدة. لذا تظل حديقة الأزبكية المتنفس الوحيد لمنطقة وسط القاهرة المكدسة بآلاف السيارات وعشرات الآلاف من البشر الذين يترددون على المنطقة. لذا لا بديل عن استغلال هذه المنطقة السحرية في تخفيف حدة التلوث وتحسين جودة الحياة في وسط القاهرة. وهذا لن يتم إلا بتشجير مكثف لهذه المنطقة، لكي تقوم بوظيفتها على أكمل وجه. لا حجة هنا بصعوبة زراعة بعض الأشجار بسبب وجود محطة المترو أسفل أرض الحديقة. فالعقول عندما تشحذ تخرج منها الحلول المبدعة التي تتغلب على أي مشاكل من هذا النوع.
على المنطق التجاري أن يتوارى هنا، فحديقة الأزبكية فضلا عن تاريخها العريق كواحدة من أهم الحدائق التراثية في مصر وأكثرها عراقة، لها وظيفة حيوية بفضل موقعها الحساس. إذ يمكن أن تكون رئة تقلل من معدلات التلوث في المنطقة. نريد من التطوير الجاري في القاهرة الآن أن ينظر إلى البعد الإنساني للمدينة بتوفير مساحات لراحة البشر في الأساس وتحسين جودة حياتهم. باعتبارها المهمة الأولى لا البحث عن تسليع الفراغات العامة التي هي حق لكل مواطن.
اقرا أيضا:
«ليس أثرًا».. الباطل المنصور لاستباحة جبانات القاهرة