«ليس أثرًا».. الباطل المنصور لاستباحة جبانات القاهرة
«ليس أثرًا» كلمة تسمعها الآن على لسان الكثير من المسؤولين المصريين وعدد ممن يفترض أنهم أساتذة آثار في الجامعات المصرية. يتم الترويج لهذه العبارة الغريبة واللا معقولة لغرض وحيد، وهو استباحة آثار جبانات القاهرة. فكلمة الباطل هذه صارت تتردد عند كل حملة إبادة للأضرحة ذات الطابع الأثري والتراثي المميز. لا يمل هؤلاء من نصر باطلهم على أمل أن تنسى الذاكرة الجماعية هذه الجريمة غير المسبوقة في حق تراث مدينة القاهرة وتاريخها، والمتمثلة في القضاء على تاريخ عريق للجبانات القاهرية ممزوج بتراث أثري نادر لا يمكن أن يخضع لتقييم مسؤول أو صاحب هوى. نحن أمام جريمة اعتداء على ذاكرة المصريين وتراثهم الأثري، وأمامها لا نحتاج لورقة مختومة بل لضمائر حية لحماية تراثنا وآثارنا.
***
“المقابر التي يتم نشرها وتداولها على مواقع التواصل الاجتماعي هي مقابر ومباني حديثة غير مسجلة في عداد الآثار الإسلامية”.. هكذا قالت محافظة القاهرة في يوليو 2020، عندما تم إزالة صف من المقابر ذات الطراز المعماري المميز والتاريخ الأدبي العريق في منطقة الدراسة بالقرب من طريق صلاح سالم، بحجة أنها غير مسجلة في عداد الآثار الإسلامية، وهي الحيلة ذاتها التي تعود إلى الواجهة هذه الأيام لاستباحة ترب الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، فنرى التصريحات تتوالى بأنه لا نية لهدم المنشآت المسجلة في عداد الآثار، هكذا يقال للتغطية على حقيقة أن المجلس الأعلى للآثار يجب أن يتحرك لإضافة المزيد من المنشآت ذات الطابع الخاص سواء لفرادتها المعمارية أو الأدبية أو التراثية، وأن مهمته هي الحفاظ على التراث المصري لا المشاركة في تبديده والدعاية لتدميره!
ينطلق أنصار هذا الموقف الغريب من مغالطة حول خدعة التسجيل الأثري للمقابر كشريطة لحمايتها، والقول بأن ليس كل مبنى مضى عليه أكثر من مئة عام يسجل أثرا، لكن هذا الموقف يتعارض مع تحرك الدولة المصرية نفسها وعلى أعلى مستوى لوقف مهزلة هدم مقبرة الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، ففي أغسطس 2022، تم الكشف عن وضع علامة إزالة على قبر أهم شخصية ثقافية مصرية في العصر الحديث، وبالفعل تم إزالة معظم المقابر المحيطة بقبره في ترب التونسي، جنوبي القاهرة، وذلك لإنشاء أحد المحاور المرورية.
وإزاء الحملة الشعبية الرافضة لهدم قبر صاحب الأيام، تراجعت الحكومة وتقرر الحفاظ على المقبرة بل وأطلقت الدولة على الكوبري الجديد اسم طه حسين. فلماذا تم الإبقاء على قبر طه حسين إذن رغم أنه لم يسجل كأثر؟ في الحقيقة مقبرة طه حسين لا أهمية أثرية لها على الإطلاق، قيمتها فقط في الشق الأدبي والتراثي المتمثل في ذكرى عميد الأدب العربي. وهنا نكتشف أن الحكومة تعي تماما أن القيمة الأدبية والتراثية أمر يستحق الإبقاء عليه تماما كما هو حال المنشآت ذات القيمة الأثرية، فلماذا الإصرار على المغالطة؟
***
هنا نذكر بالحكمة العربية “إذا كنت كذوبًا فكن ذكورًا”، فواقعة مقبرة طه حسين لم تمض عليها إلا نحو عام واحد، ولا تزال تفاصيلها حية في الذاكرة، وهو ما يعني أن الحكومة المصرية والهيئات الأثرية الرسمية لم تنس بعد هذه الواقعة. وكيف أنه تم الحفاظ على مقبرة فقط لقيمتها الأدبية والتراثية، الحكم هنا هو القانون، ولا يوجد أفضل من قانون حماية الآثار لسنة 1983، فالمادة الأولى منه تقول: “يعتبر أثرًا كل عقار أو منقول أنتجته الحضارات المختلفة أو أحدثته الفنون والعلوم والآداب والأديان من عصر ما قبل التاريخ وخلال العصور التاريخية المتعاقبة حتى ما قبل مائة عام، متى كانت له قيمة أو أهمية أثرية و تاريخية باعتباره مظهرا من مظاهر الحضارات المختلفة التي قامت على أرض مصر، أو كانت لها صلة تاريخية بها، وكذلك رفات السلالات البشرية”.
ولكيلا يتحجج أي طرف بشرط مرور مئة عام على الأثر، نجد أن المادة الثانية من القانون ذاته، تقول بكل وضوح “يجوز بقرار من رئيس مجلس الوزراء بناء على عرض الوزير المختص بشؤون الثقافة أن يعتبر أي عقار أو منقول ذا قيمة تاريخية أو علمية أو دينية أو فنية أو أدبية أثرا، متى كانت للدولة مصلحة قومية في حفظه وصيانته، وذلك دون التقيد بالحد الزمني الوارد بالمادة السابقة”.
هذه المادة تفتح الباب واسعا للحفاظ على كل التراث الفذ لجبانات القاهرة فالأضرحة والمقابر ينطبق عليها كل شروط المادة وكأنها كتبت لها خصيصا. فلها قيمة تاريخية وعلمية ودينية وفنية وأدبية ولا يجادل في ذلك إلا صاحب هوى. فهل ضريح أحمد شوقي كتحفة معمارية فضلا عن قيمته الأدبية لوجود رفات أمير الشعراء في العصر الحديث، لا ينطبق عليه نص تلك المادة؟ ناهيك طبعا عن حقيقة أن وزارة الآثار صارت مهتمة فقط بعقد لجان لشطب الآثار المسجلة بالفعل. ثم هدمها بحجة أنها لم تعد ضمن قوائم الآثار، في مشاهد عبثية ترتقي إلى مرتبة الجرائم في حق التراث المصري.
***
هل التراكيب الخاصة بالمقابر والتي تضم نماذج فنية باهرة الجمال، ونسخ من فن الخط العربي فريدة الوجود لا تستحق الإبقاء عليها وتسجيلها في قوائم الآثار؟ لماذا إذن لا نلتزم بالحد الأدنى من العقل والمنطق ونسجل عشرات المقابر التي مر عليها أكثر من مئة عام. كما هو موضح في قانون حماية الآثار الذي يبدو أن الحكومة تتجاهل مواده عن عمد وتقصد؟ لماذا لا يتم تفعيل المادة الثانية من القانون والتي تجعل الاحتجاج بعدم التسجيل الأثري كالعدم. لأنها ستحافظ على النسيج العمراني للجبانات؟ هل لا تستحق المقابر التراثية ذات القيمة التاريخية والأدبية والمعمارية والعمرانية الحفاظ عليها ورعايتها وترميمها ووضعها على مسارات السياحة؟
ما نطالب به بالحفاظ على هذه المقابر، مبني على قوانين الدولة المصرية. فلدينا قانون رقم 144 لسنة 2006، في شأن تنظيم هدم المباني والمنشآت غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعماري. فالمادة الثانية تقول صراحة: “يحظر الترخيص بالهدم أو الإضافة للمباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز المرتبطة بالتاريخ القومي أو بشخصية تاريخية أو التي تمثل حقبة تاريخية، أو التي تعتبر مزارًا سياحيًا”. وهو نص شديد الوضوح في إجبار المسؤولين الحكوميين على تحمل المسؤولية في تسجيل هذه المباني. ومن ضمنها المقابر التي تتعلق بالتاريخ القومي وبشخصيات تاريخية من حقب عدة. بما يثبت تهافت دعاة “ليس أثرا” الذين يروجون لاستباحة التراث المصري.
***
هذا الفهم لواقع جبانات القاهرة ليس من بنات أفكاري بل هو موقف كل معني بتراث هذا البلد. وهو ما يظهر بوضوح في موقف جمعية المعماريين المصريين، التي أصدرت بيانا الأسبوع الماضي “في شأن تدمير جبانات القاهرة التراثية”. وأكدت فيه غضبها ورفضها لـ “تعرض جبانات مصر التاريخية لتدمير شامل، لم تشهده من قبل خلال أربعة عشر قرنا، منذ نشأتها إلى يومنا هذا. كما لم تشهده حتى فترة الاحتلال الأجنبي أو من جراء الحروب والكوارث الطبيعية”.
وردت جمعية المعماريين المصريين بشكل عملي على دعاة «ليس أثرًا». إذ شددت على أن الجبانات “جزء مسجل ضمن القاهرة التاريخية المسجلة على قائمة التراث العالمي، تحميها مواثيق عالمية وقوانين محلية. كما أنها أيضا كمنطقة تراثية ضمن القاهرة التاريخية طبقا للقانون رقم 119 لسنة 2008. وقد اكتسبت قيمتها التاريخية والتراثية لما لها من نسيج عمراني متميز ارتبط بمدينة العصور الوسطى، وكذلك بمن ضمتهم في ثراها”. ولفتت النظر إلى حقيقة ضم المنطقة لكنوز معمارية فريدة شديدة التنوع عن حقب من تطور العمارة الجنائزية الممتدة عبر العصور “لا تقل قيمة عن تاج محل في الهند”.
“ليس أثرا” جملة تدين من يقول بها، وتثبت إدانته أمام الضمير الجمعي لكل المصريين. فاستخدام مغالطات مبنية على تأويل غير عقلاني لنصوص القوانين المصرية. لا هدف لها إلا تمرير وقائع تدمير جبانات القاهرة التراثية التي تكونت على مدار 1400 عام، وصارت كتلة واحدة ونسيج عمراني لا يمكن التعامل معه بمنطق القطعة. تتحول جملة من كلمتين إلى شهادة إدانة لمن يقول بها، وحكم بالخيانة لتراث المدينة. تكون الجريمة التراثية أكبر عندما ينطق بها من يدعي أنه من المتخصصين الذي يفترض فيه أن يحمي هذا التراث، فإذا به يخونه ويحمل أول معول لهدمه!
اقرأ أيضا:
انسحاب 5 أعضاء من لجنة تقييم وضع «المقابر التاريخية»
بلدوزر «الحكومة» يواصل دهس جبانات القاهرة
للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي: