تراث المسرح المصري المصور| البدايات.. والمصير.. وأين نعثر عليه الآن؟
يقول الكاتب الكبير نجيب محفوظ عن المسرح، إنه فن «نشأ في أحضان المعابد»، للدلالة على قيمة المسرح ودوره الذي يتجاوز مجرد التسلية. معتبرا أن انتشار المسرح مؤشر على رقي الذوق أكثر من انتشار السينما، لأنه أقرب إلى الفن الرفيع، وجمهوره “متعلم ومثقف”. هكذا نظر الكتاب والمفكرون دوما إلى المسرح، باعتباره مرآة تعكس ثقافة العصر ومدى تحضر المجتمع، ومقياس يمكن من خلاله معرفة إلى أين وصلنا وماذا حققنا؟
كلام محفوظ، الذي نشره بمقالة له في نهاية خمسينات القرن الماضي، تزامن مع نهضة مسرحية كبرى كانت تشهدها مصر في تلك الفترة التي باتت تعرف بين المسرحيين بـ” العصر الذهبي”. في تلك الفترة كانت الجماهير تتدفق على مسارح القاهرة والإسكندرية والأقاليم لمشاهدة العروض التي لم تكن تتوقف. ما بين الكوميدي والتراجيدي والملحمي والمسرح الغنائي والاستعراضي وغيرها الكثير. عروض كنا ننافس بها أكبر مسارح الدنيا، وتجذب كبار المؤلفين والمخرجين والممثلين من مختلف بلدان العالم، لمشاهدة التجربة المسرحية المصرية في تقديم العروض العالمية!
هكذا كنا.. فكيف أصبحنا الآن؟
الواقع الذي لا يختلف عليه كثيرون، حتى المسرحيون أنفسهم، يقول إن المسرح في مصر حاليا يعاني بشدة. بل لا أكون مبالغا إذا قلت إنه فن يكاد ينقرض في مصر! بعدما انطفأت أضواء المسارح -باستثناءات قليلة للغاية- وهجرها الجمهور واتجه إلى فنون أخرى تحكمها طبيعة العصر وسيطرة التقنية. وظني أنه لا سبيل أمام المسرح المصري لاستعادة مجده، ومواصلة دوره الحضاري، سوى باسترجاع تراثنا المسرحي في عصوره الذهبية. وتقديمه للأجيال الجديدة وربطهم به، ليعلموا أين كنا؟ وكيف نستكمل ما بدأناه؟
ولكن أين يمكن لنا أن عثر على هذا التراث الآن؟
الإجابة بكل بساطة، هي فيما نمتلكه حاليا من مئات المسرحيات المصورة التي تمتد عبر عقود طويلة من الفن والإبداع. والتي من المفترض أن الكاميرا حفظتها لنا لنشاهدها ونتعلم منها، ولكن.. كيف للشباب أن يصل إلى هذا التراث؟
سعيا للحصول على إجابة السؤال السابق. أجريت بحثا عبر الإنترنت -الساحة الرئيسية التي يتحرك فيها الجيل الحالي ويتفاعل معها- لتتبع تراثنا المسرحي والتعرف على أماكن عرضه. إلا أن المحبط بحق، أن الغالبية العظمى من النتائج التي ظهرت لي، كانت مرتبطة بمسرحيات حديثة -إن جاز لنا أن نسميها مسرحيات- تقدمها فرقة تضم مجموعة شباب. يكفي أن تشاهد عرضا واحدا لهم لتتساءل: ما علاقة ما يقدموه بالمسرح؟!
هذه النتائج غير المبشرة جعلتني أتتبع حجم مشاهدات مسرحيات تلك الفرقة ومثيلاتها في الوقت الحالي وحجم انتشارها على المنصات المختلفة عبر الإنترنت. مقارنة بحجم المتاح من تراثنا المسرحي وحجم ما يحظى به من مشاهدات. فكانت النتيجة تفوق وتغلب كبير ولا يقارن لصالح هذه الفرقة ومثيلاتها.
الشبكات الاجتماعية
النتيجة الأولية التي يمكن استنتاجها من هذه المقارنة، أن الأجيال الجديدة -المتحكمة فيما ينتشر عبر الشبكات الاجتماعية- أصبحت لا تعرف من التراث المسرحي المصري العريق والثري والمتنوع، سوى بضع مسرحيات كوميدية قديمة. اعتادوا مشاهدتها في الأعياد غالبا. إضافة إلى ما يقدم حاليا من مواقف ارتجالية ساخرة. هي أبعد ما تكون عن المسرح ورسالته، وهي التي باتت تتصدر نتائج البحث لكل من يفكر في مشاهدة عرضا مسرحيا عبر الإنترنت.
ولكن الواقع يثبت أن الشباب المصري لا يعزف عن التراث بشكل عام ويخاصم ماضيه كما قد يتخيل البعض. فمنصات التواصل مليئة بصفحات يديرها شباب يهتمون بالتراث بمختلف أشكاله. ويسعون لتوثيقه والتعريف به واستخدام الوسائل التقنية الحديثة في نشره والتشجيع على الاهتمام به. وبعضها أحرز نجاحا لافتا في هذا السياق. وأصبح تأثيرها ربما أكبر من تأثير بعض الجهات الرسمية.
إذا المشكلة ليست في اهتمام الشباب بالتراث وحبه له بوجه عام. ولكن المشكلة تكمن في أن أغلبهم لا يعرفون شيئا عن تراثنا المسرحي. بل إن بعضهم قد لا يعرف أن هناك تراثا مسرحيا مصريا من الأساس مازال متاحا للمشاهدة. خاصة في ظل تشتت هذا التراث وتفرقه بين أكثر من جهة.
الأجيال الجديدة
من هذا المنطلق، سعيت للبحث عن وسيلة، يمكن من خلالها لفت أنظار الأجيال الجديدة إلى هذا التراث وتعريفهم عليه. على أن تكون هذه الوسيلة ضمن الساحة التي يتحرك فيها هؤلاء الشباب وهي الشبكات الاجتماعية ومنصات الإنترنت المختلفة. لذا بدأت في وضع قاعدة بيانات بسيطة، تكون متاحة على الإنترنت. تضم كل الإنتاجات المسرحية المصرية منذ بداية تصوير المسرح المصري وحتى الآن، المتاحة للمشاهدة عبر منصة (YouTube).
وقد اخترت (YouTube) كونها منصة الفيديو الأكثر انتشارا. وأغلب الأجيال الجديدة تعرفها جيدا ولها ارتباط كبير بها. ولكونها أيضا مجانية ويمكن لأي شخص يمتلك هاتف مشاهدة محتواها. إضافة إلى أن غالبية الجهات المالكة لحقوق بث المسرحيات المصرية القديمة والجديدة. تعتمد عليها بشكل رئيسي في عرض هذه الإنتاجات.
إلا أن بناء قاعدة البيانات تلك، استدعى إجراء بحث لتتبع بدايات تصوير المسرح المصري. ومتى بالتحديد بدأت عملية توثيقه عبر الكاميرا، وتتبع مصير محتوى المسرح المصور. وكيف وصل إلى ما هو عليه الآن من تشتت. وهو ما سنحاول البحث عن إجابته خلال الأسطر التالية.
متى بدأ تصوير المسرح المصري؟
يقول الباحث الفني عبدالعزيز توني لـ “باب مصر”: إنه بالرغم من أن السينما المصرية بدأت منذ عشرينيات القرن الماضي. إلا أن تصوير المسرح تأخر عنها كثيرا. مرجعا ذلك بشكل رئيسي إلى سبب تقني. فقبل ظهور التليفزيون، لم يكن من المتاح تصوير أي فعاليات حية. مثل المسرحيات والحفلات، وذلك لأن الشريط السينمائي لم يكن قادرا على تصوير أكثر من 4 دقائق متواصلة. وهو ما لم يكن مشكلة بالنسبة لتصوير الأفلام الروائية أو التسجيلية أو حتى اللقطات التوثيقية التي نشاهدها لتلك الحقبة. والتي كان يجري عمل مونتاج وتقطيع للقطاتها. ولكنه لم يكن مناسبا لتصوير عرض أو حفلة تستمر لثلاث ساعات. ما يفسر عدم وجود أي مسرحيات مصورة لنجيب الريحاني أو علي الكسار وغيرهم من رواد المسرح المصري.
ويضيف توني، أن كل ذلك تغير بعد ظهور التليفزيون. حيث أتاحت لنا كاميرات التصوير التليفزيوني تسجيل الحفلات والمسرحيات التي تمتد لعدة ساعات. وبدأنا نشاهد أم كلثوم على المسرح للمرة الأولى وكذلك كثير من المسرحيات التي كانت ستضيع علينا فرصة مشاهدتها لولا ظهور التليفزيون في مطلع الستينيات.
وهو نفس ما أكده الناقد الفني أشرف غريب لـ”باب مصر”، حيث قال إن تصوير المسرح المصري ارتبط بشكل أساسي بظهور التليفزيون. مرجحا أن تكون أول مسرحيات سجلها التليفزيون هي مسرحيات يوسف وهبي الذي حرص على إعادة تمثيل مسرحياته القديمة وتصويرها. لرغبته في المحافظة على تراثه وإبقائه للأجيال الجديدة.
تاريخ الإرسال التليفزيوني
وعن تاريخ بدء الإرسال التليفزيوني، يقول الدكتور هادي حسن، كبير مذيعي إذاعة شمال الصعيد- في تصريحات سابقة- إن أول إرسال تليفزيوني تشهده القاهرة كان في عام 1951. حيث قامت به الشركة الفرنسية للصناعات “الراديو تليفزيونية” بمناسبة إقامة أحد أفراح العائلة الملكية. وفي عام 1954 عرض وزير الإرشاد في حكومة الثورة، ممدوح سالم، على الرئيس جمال عبدالناصر فكرة إنشاء محطة تليفزيونية. وهو ما استجاب له عبدالناصر وقرر إنشاء التليفزيون المصري في أواسط الخمسينيات.
وتم إيداع مبلغ 108 آلاف جنيه لإقامة مبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون بكورنيش النيل على مساحة قدرها 21 ألف متر مربع. ولكن بسبب العدوان الثلاثي على مصر تأخر بدء الإرسال الفعلي إلى عام 1960. حيث وقعت مصر مع هيئة الإذاعة الأمريكية اتفاقية لتزويد مصر بشبكة للتليفزيون. وكانت تجارب الإرسال الأولى من قصر عابدين. ولم يبدأ الإرسال المنتظم إلا في شهر يوليو من العام ذاته، بمناسبة الذكرى الثامنة لثورة 23 يوليو.
ولكن متى بالتحديد بدأ التليفزيون يفكر في تصوير المسرح عقب انطلاقه في يوليو 1960؟
“يا تلحقونا”.. تدشن تاريخ المسرح المصور
تكشف مجلة “آخر ساعة” في عددها الصادر بتاريخ 27 يوليو 1960، أن التليفزيون كان يتجه للاعتماد بشكل واضح على المسرح لملء ساعات البث في أسابيعه الأولى. حيث أعلن قسم التمثيليات في التليفزيون أنه سيقدم مسرحية كل أسبوع تعرض في ساعة ونصف، ينقلها من أحد المسارح المعروفة في القاهرة. كما سيقدم أربع مسرحيات قصيرة على مدار الأسبوع، مدة عرض كل منها 30 دقيقة.
وذكرت المجلة، أن أنور المشري -مراقب البرامج الترفيهية في التليفزيون حينها- صور بالفعل أول مسرحية للعرض على شاشة التليفزيون المصري. وكانت تحمل اسم “يا تلحقونا”، وهي من مسرحيات يوسف وهبي. وأنها المرة الأولى التي سيظهر فيها يوسف وهبي على شاشة التليفزيون، وأن المسرحية تم تصويرها داخل مسرح الأوبرا.
وهو ما يجعلنا نرجح بأن مسرحية “يا تلحقونا” ليوسف وهبي، كانت أول مسرحية مصرية يتم تصويرها تليفزيونيا. وقد جرى ذلك في منتصف عام 1960. مع العلم أنني لم أعثر على أي أثر لهذه المسرحية على الإنترنت، أو في أرشيف التليفزيون عبر المصادر التي تواصلت معها داخل ماسبيرو.
من المسرح إلى الشاشة الفضية
وسريعا، تحولت جميع مسارح القاهرة إلى استوديوهات تعمل لحساب التليفزيون، كما يقول الكاتب الكبير أنيس منصور في عموده اليومي “مواقف” بصحيفة الأخبار (مارس 1985)، والذي كان عضوا في لجنة قراءة النصوص المسرحية ولجان التحكيم المسرحي التي تجيز ما يعرض منها على الشاشة الفضية. مضيفا أن المسرحيات باتت لا تكاد تقدم للجمهور في المسارح، حتى تنقل بعدها بأيام إلى التليفزيون.
اللافت أن كثيرا من الفرق المسرحية، مثل فرقة الريحاني وفرقة المسرح المصري الحديث التي كان يشارك في أعمالها يوسف وهبي. حاولت الاستفادة من الموجة الجديدة للاهتمام بالمسرح التي خلقها ظهور التليفزيون. وسعت إلى إعادة تقديم عروضها القديمة، أو ما يعرف مسرحيا بـ”الريبرتوار” لتسجيلها وعرضها على التليفزيون. وهو ما تكشفه “موسوعة المسرح المصري المصورة” للدكتور عمرو دوارة، التي تظهر تكرار تقديم بعض الفرق لمسرحياتها في حقب مختلفة. خاصة عقب ظهور التليفزيون.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، مسرحية “الستات ما يعرفوش يكدبوا” لبديع خيري ونجيب الريحاني، والتي قدمتها فرقة الريحاني للمرة الأولى عام 1938 من بطولة وإخراج نجيب الريحاني. ثم أعادت الفرقة عرضها عام 1961 من إخراج بديع خيري وبطولة عادل خيري، وهي النسخة المصورة من المسرحية. وكذلك مسرحية “30 يوم في السجن”، التي قدمتها فرقة الريحاني ثلاث مرات، أعوام 1940 و1949، ثم أعادت تقديمها بعد ظهور التليفزيون عام 1962 لتصويرها. ومسرحية “راسبوتين” التي قدمتها فرقة رمسيس للمرة الأولى عام 1924 ثم أعادت الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى تقديمها عام 1945، قبل أن يعيد يوسف وهبي تقديمها عام 1960 للتصوير التليفزيوني.
المسرح الحر
هذا الاتجاه يؤكده الكاتب المسرحي نعمان عاشور في مذكراته “المسرح حياتي”، التي يقول فيها إنه عندما ظهر التليفزيون، تقدمت فرقة “المسرح الحر” التي كان يكتب لها، لتسجيل مسرحيته “الناس اللي تحت” التي سبق تقديمها على المسرح لأول مرة عام 1956، لإعادة تمثيلها وتصويرها وبيعها للتليفزيون. ما كان سببا في حدوث خلاف بين عاشور والفرقة، لأن التصوير كان يتم دون أخذ موافقته بالمخالفة للعقد الموقع بينه وبين الفرقة والذي لم يتضمن سوى تقديم المسرحية على خشبة المسرح فقط. وذلك قبل أن تحل الأزمة بين الطرفين ويسمح عاشور ببيع النسخة المسجلة للتليفزيون، والتي يرجح محمد عاشور، نجل شقيق نعمان عاشور، أنه تم تصويرها بين عامي 1961 و1963.
ويمكن للمشاهد التعرف على الشكل الذي كانت تقدم من خلاله المسرحيات عبر التليفزيون في هذه البدايات، من خلال النسخة المتداولة على الإنترنت لمسرحية “كان غيرك أشطر” التي قدمتها فرقة الريحاني عام 1961، والتي تظهر في بدايتها مذيعة التليفزيون لتعلن أن برنامج “ليالي القاهرة” سوف يقضي سهرته في تلك الليلة بمسرح الريحاني لتقديم مسرحية “كان غيرك أشطر”. ثم تستعرض أسماء المشاركين في العرض، وتقدم بعدها الفصل الأول من المسرحية.
مغامرة مسرح التليفزيون
أنيس منصور، أوضح في مقاله المشار إليه، أن التليفزيون ساهم بشكل كبير في نشاط المسارح أوائل الستينات. سواء الكوميدية أو الحديثة أو العالمية، وحتى مسرح العبث واللامعقول، وتحمس الكثيرون للتأليف المسرحي نتيجة حالة النشاط تلك. ومن بينهم أنيس منصور نفسه الذي ألف 4 مسرحيات وترجم غيرها، لكي تمثل مسرحيا ويتم تصويرها للتليفزيون.
وأرجع منصور الفضل في ذلك إلى حماس كل من د.عبدالقادر حاتم الذي كان يتولى منصب وزير الدولة للإذاعة والإعلام العربي، ثم منصب وزير الثقافة والإرشاد القومي، وحسن حلمي مدير التليفزيون في ذلك الوقت. إضافة إلى الفنان الكبير السيد بدير مؤسس “مسرح التليفزيون”، الذي بدأه بإنشاء أربع فرق جديدة. هي المسرح الحديث، المسرح العالمي، المسرح الكوميدي، ومسرح الحكيم، والتي كانت تقدم أعمالها لعدة أيام أمام الجمهور ثم يتم تصويرها للعرض على الشاشة.
ويبدو أن إنشاء مسرح التليفزيون كان بمثابة مغامرة وتحدي، حيث يشير الناقد الفني عبدالفتاح البارودي، في مقال له بصحيفة الأخبار (يناير 1986)، أن الكثيرين توقعوا فشل مشروع “مسرح التليفزيون”. أولا لأنه لم يعتمد على نجوم، بل على شباب موهوب غير معروف. وثانيا لأنه قدم نوعيات جديدة من المسرحيات. وثالثا لأن مسرح التليفزيون ضم في بداياته عددا كبيرا من الفرق. فبخلاف الفرق التي أسسها سيد بدير، انضمت المزيد من الفرق لاحقا إلى مسرح التليفزيون. حيث تشير بعض المصادر أن هذه الفرق كانت تقدم مجتمعة ما يزيد على 20 مسرحية في العام الواحد كمتوسط، وفي بعض الأحيان كانت تزيد لتصل إلى 30 مسرحية.
نجاح ساحق
إلا أن مسرح التليفزيون نجح في التحدي، حيث يضيف البارودي، بأن أرقام شباك التذاكر لفرق التليفزيون أثبتت أنها حققت نجاحا ساحقا، وتحول أعضائها المغمورون إلى نجوم. وباتت تقدم عروضها على مسارح القاهرة والإسكندرية والأقاليم، بل وانتشرت في الأحياء الشعبية، حيث كانت تستخدم دور السينما لعرض مسرحياتها في الحفلات المسائية. مرجعا السبب وراء هذا النجاح إلى قيام هذه الفرق على أسس مسرحية مدروسة، بعدما ضمت كل فرقة لجنة من المتخصصين والدارسين وأساتذة الجامعات لكي تحافظ على رسالتها، ولكي تراجع لها رواياتها.
ويتابع أنه تم إنشاء مواسم مسرحية نقدية خصصت لمناقشة إنتاج فرق التليفزيون المسرحية. واشترك في هذه المناقشات أساتذة الجامعات والمعهد العالي للفنون المسرحية، بل وصل الاهتمام بهذه المواسم النقدية إلى درجة إيقاف الإنتاج المسرحي بعض الوقت، لكي تستكمل المناقشات إلى أقصى مداها. وقد تولى الإشراف على هذه الندوات النقدية الدكتور رشاد رشدي رئيس تحرير مجلة المسرح، الذي تولى لاحقا عمادة المعهد العالي للفنون المسرحية ورئاسة أكاديمية الفنون.
وبالرغم من هذه البداية القوية لمسرح التليفزيون. إلا أنه تعرض لنهاية مفاجئة وغير متوقعة بعد سنوات من الإبداع والتألق، حيث ألغي وفشلت كل محاولات إعادته لمجده القديم.
مسرح القطاع الخاص
شكلت فرق القطاع الخاص، أساس المسرح المصري منذ بداياته، فلم تكن هناك في هذا الوقت المبكر من عمر المسرح فرقا تخضع لإشراف الدولة بالمعنى الحرفي للكلمة. وكان المسرح يعتمد بشكل أساسي على ما تقدمه الفرق الخاصة، ولم يتم إنشاء المسرح القومي إلا عام 1921 بحسب موقع الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، وذلك بالتزامن مع المطالبة باستقلال مصر عن الاحتلال الإنجليزي. حيث افتتح المسرح القومي موسمه الأول في هذا العام بأربع مسرحيات دفعة واحدة، بمعدل يومين لكل مسرحية. أما الفرقة القومية المصرية فلم يتم إنشائها إلا عام 1935 بقيادة الشاعر خليل مطران.
وكانت من أبرز فرق المسرح الخاص، خلال القرن الماضي، التي شكلت وجه المسرح المصري، فرق الشيخ سلامة حجازي وجورج أبيض وأولاد عكاشة. وهي الفرق الاحترافية الكبرى التي قادت حركة المسرح في بداية القرن، ثم ظهرت بعدها فرق أنصار التمثيل والسينما والريحاني ورمسيس. وتوالت الفرق المسرحية الخاصة الشهيرة، مثل فرقة المسرح الحر، وفرقة إسماعيل ياسين، والفنانون المتحدون، وثلاثي أضواء المسرح، وفرقة تحية كاريوكا، واستوديو 80، وغيرها الكثير.
ويظهر من أرشيف التليفزيون، أن ماسبيرو حرص على شراء بعض أعمال القطاع الخاص التي قام منتجوها بتصويرها عقب توافر التصوير التليفزيوني، وذلك لبيعها للتليفزيون المصري وغيره من التلفزيونات العربية. ويظهر من تترات هذه المسرحيات المصورة، أن بعض تلك المسرحيات قام التلفزيون بتصويرها عبر أجهزته ومخرجيه والحصول على حقوق عرضها، وبعضها الآخر كانت تقوم بتصويره شركات خاصة، بينما كان يشتري التليفزيون حقوق عرضها على شاشته.
ليس كل ما عرض تم تصويره
وبالرغم مما قد يظهر من أن عملية تصوير العروض المسرحية باتت أمرا معتادا عقب ظهور التليفزيون. إلا الشواهد تؤكد بأنه ليس كل ما كان يعرض من مسرح كان يتم تصويره، حيث لعبت الانتقائية دورا أساسيا في اختيار ما يتم تصويره من مسرحيات وتجاهل مسرحيات أخرى لأسباب عدة. انتهى عرضها دون أي تصوير وضاعت على الأجيال الجديدة فرصة مشاهدتها.
حيث تقول الفنانة الكبيرة سميحة أيوب في مذكراتها “مذكراتي”، إن بعض الأعمال المسرحية الهامة لم يتم تصويرها عمدا، بسبب موضوعاتها التي كانت ترى فيها الجهات الرقابية أنها تتناول قضايا حساسة. وهو نفس ما يؤكده المخرج أحمد عبدالحليم في تصريحات صحفية لجريدة “الوفد” (أكتوبر 1997) أن التليفزيون اهتم في الستينات بتسجيل المسرحيات الكوميدية مثل “هاللو شلبي” و”سيدتي الجميلة” و”البيجاما الحمراء” وغيرها. بينما رفض تسجيل أعمال جادة وهامة مثل “مصرع جيفارا” أو “وطني عكا” أو “ليالي الحصاد”، حيث فضل التليفزيون الكوميديا وإضحاك الناس على حساب المسرح الجاد، حسب قوله.
بينما يكشف الفنان محمود الديني، في تصريحات صحفية في نهاية التسعينات -حيث كان يتولى حينها رئاسة المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية- أن بعض الفنانين والمؤلفين كانوا يرفضون قيام المركز بتصوير أعمالهم المسرحية التي تقدم على مسرح الدولة لتوثيقها. إما طمعا في الحصول على مقابل مادي أكبر أو لأسباب أخرى، ما أضاع أيضا فرصة تصوير عدد من الأعمال الهامة التي لم يعد من المتاح مشاهدتها حاليا.
أين ذهب تراثنا المسرحي؟
الشاهد مما سبق، أن التليفزيون المصري امتلك ثروة ضخمة من المسرحيات المصورة. ما بين مسرحيات لفرق خاصة وتابعة للدولة قام بتصويرها، وبين مسرحيات قدمتها فرق التليفزيون التي أنشئت لهذا الغرض.
وهو ما تؤكده موسوعة المسرح المصري المصورة، التي وضعها د.عمرو دوارة في قرابة 17 مجلدا، والتي احتوت رصدا لما يزيد على 5 آلاف مسرحية مصرية، منذ القرن التاسع عشر وحتى عام 2015. حيث يظهر للمطالع لهذه الموسوعة أن قرابة ثلثي المسرحيات المصرية قدمت على المسرح بعد ظهور التليفزيون. أي أن لها نسخا مصورة غالبا -باستثناء ما تم تجاهل تصويره عن عمد- إما لأن التليفزيون قام بتصويرها أو شرائها أو أنه أنتجها من الأساس كما أوضحنا.
ولكن المثير للدهشة، أن عملية الحصر التي أجريتها عبر الإنترنت لرصد الأعمال المسرحية المصرية المصورة المتاحة للمشاهدة، لم تسفر إلا عن بضع مئات من المسرحيات. فأين ذهب التراث المسرحي الضخم الذي امتلكه التليفزيون المصري؟
الإجابة الصادمة على هذا السؤال، نجدها إذا ما علمنا أن مكتبة التليفزيون التي ضمت ثروة قومية من المواد التليفزيونية والإذاعية، والتي وصلت حتى مطلع القرن الحالي نحو 300 ألف ساعة مرئية و600 ألف ساعة مسموعة، عانت من ثلاثية مدمرة، هي التلف وإعادة الاستخدام “المسح” والضياع “التسرب”.
كنز من المسرحيات المفقودة!
يوضح الكاتب الصحفي خالد فؤاد في تحقيق نشر له على صفحات جريدة “القاهرة” في (يونيو 2001)، أن محتويات مكتبة التليفزيون واجهت بشكل مكثف أزمة سوء تخزين تسببت في تلف كثير من التسجيلات الهامة، والتي لم يعد يمتلك التليفزيون أي نسخ لها حاليا. ومن بينها مئات المسرحيات النادرة، حيث تراكمت الشرائط المسجلة بمختلف الأوساط والقياسات داخل التليفزيون عبر السنوات. وضاقت بها المساحات المخصصة للتخزين، فتعرضت للتلف، كما أن كثيرا من هذه الأشرطة قام مخرجو البرامج والمنوعات بمسحه وإعادة التسجيل عليه!
ويضيف فؤاد، أن من بين المسرحيات التي ضاعت نتيجة الأسباب السابقة، معظم مسرحيات الفنان محمد عوض التي قدمها في فترة الستينيات مع عمالقة المسرح المصري. ما دفع عوض للخروج قبل وفاته بثلاثة أشهر، لإطلاق صرخة استغاثة يطالب فيها بإنقاذ تراث التليفزيون الفني من الضياع بعد فقدان 24 مسرحية له دفعة واحدة! وهو نفس ما فعله كثير من كبار الفنانين أمثال عبدالمنعم مدبولي وفؤاد المهندس وأبو بكر عزت، بعد اكتشافهم ضياع أو تلف أو مسح كثير من مسرحياتهم. إضافة إلى ضياع وتلف كل مسرحيات إسماعيل ياسين -باستثناء مسرحية واحدة- وأغلب مسرحيات عادل خيري وأمين الهنيدي.
وفي ظل هذه الأوضاع، وصل الأمر بالمخرج المسرحي الكبير محمود الألفي لتقديم شكوى إلى صفوت الشريف وزير الإعلام في أغسطس 1999. يطالب فيها بالتحقيق في ضياع أعماله المسرحية من مكتبة التليفزيون والتي تمثل جزءا مهما من تراث المسرح المصري، وكان من بين أعماله الضائعة أمسية شعرية بعنوان “كرمة بن هانئ” تم تصويرها في فيلا أمير الشعراء أحمد شوقي وحضرها الرئيس الراحل أنور السادات أواخر السبعينيات. وكانت من بطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين.
وكان أبلغ مثال على ما تعرض له إرث التليفزيون المسرحي، حسبما يؤكد فؤاد في تحقيقه، هو ضياع معظم المسرحيات التي اشتراها التليفزيون من القطاع العام خلال الفترة من 1984 وحتى 1994 والبالغة 197، بعدما تم مسح شرائط تلك المسرحيات أو تسريبها من داخل مبنى ماسبيرو.
غير صالح للعرض!
الوضع المأساوي الذي كشفه خالد فؤاد، تؤكده تصريحات سابقة ولاحقة لمؤلفين ومخرجين وممثلين كبار عانوا من اختفاء مسرحياتهم وضياع أرثهم الفني النادر. فقد كشف الكاتب المسرحي الكبير نعمان عاشور في حوار أجرته معه صحيفة الجمهورية (نوفمبر 1984)، أن التليفزيون سجل له 6 مسرحيات مسحت شرائطها. وقد تم اكتشاف ذلك عندما طالب المشاهدون بعرض مسرحيات جادة، فلم يجدوا لعاشور في مكتبة التليفزيون سوى مسرحية “عيلة الدوغري” والتي حصل عليها التليفزيون من نسخة مباعة للكويت! بينما ضاعت مسرحيات “وابور الطحين” و”بلاد بره” و”ثلاث ليالي” و”الناس اللي تحت” -حسب قوله.
وفي 1997 خرج الفنان محمود الحديني على صفحات جريدة “الوفد”، لينتقد تعامل التليفزيون مع ما يمتلكه من إرث مسرحي كبير. اتهم الحديني التليفزيون بتجاهل عرض الأعمال المسرحية الهامة التي يمتلك نسخا لها. مؤكدا أن بعض تلك المسرحيات لم يعرضها التليفزيون أبدا من اليوم الذي استقرت فيه داخل مكتبته. وأقصى ما كان يفعله هو إذاعة بعض المسرحيات لمرة واحدة. ثم إلقائها في المخازن ولا ترى النور مرة ثانية -حسب قوله- كاشفا أنه عندما طالب التليفزيون بنقل بعض المسرحيات لحفظها في أرشيف المركز القومي للمسرح والموسيقى. كانت المفاجأة أن بعض المسرحيات غير صالحة، وبعضها تم مسحه بطريق الخطأ أو العمد وإعادة التسجيل عليها.
ما واجهه التراث
بعض أقارب فناني المسرح انتقدوا أيضا ما واجهه تراث أقاربهم من كبار المسرحيين. فقد أكدت الصحفية هالة نعمان عاشور، أنها فوجئت أثناء بحثها في مكتبة التليفزيون عن أعمال والدها لإعداد سهرة عنه، أن موظفي التليفزيون مسحوا شرائط مسرحيات والدها وسجلوا عليها مباريات الكرة وبرامج الأطفال. كما طالبت السيدة إيناس حقي، أرملة الفنان عادل خيري، في تصريحات لها بجريدة القاهرة (2001)، بإذاعة مسرحيات زوجها التي من المفترض أنها موجودة بمكتبة التليفزيون والبالغة 35 مسرحية. مشيرة إلى أن التليفزيون لا يذيع سوى 5 مسرحيات من بينها فقط، هي “ابن مين بسلامته”، و”لو كنت حليوة”، و”30 يوم في السجن”، و”حسن ومرقص وكوهين”. ومسرحيته الأشهر “إلا خمسة”، لتثير بذلك مزيدا من الجدل حول مصير باقي المسرحيات.
أما المؤلف والمنتج المسرحي أحمد الإبياري فقد كشف في حوار له بجريدة “المصري اليوم” (فبراير 2020)، أن التليفزيون المصري أبلغ ورثة أبو السعود الإبياري، بأن أحد الموظفين قام بالخطأ ومسح 41 مسرحية من تراث الإبياري -وجميعها من بطولة إسماعيل ياسين- كانت مسجلة على 123 شريطا! متسائلا “أتفهم أن يكون هناك خطأ في شريط أو مسرحية. لكن أن يتم التسجيل على 123 شريطا!” مرجحا أن يكون هناك “تعمد لتلك الجريمة وليس خطأ غير مقصود وكان يجب محاسبة المسؤولين عنه”.
“مادة غير متداولة”!
من أبرز الأخطار التي لفت إليها الصحفي خالد فؤاد في تحقيقه بجريدة القاهرة، هي مسألة ضياع وتسرب المسرحيات من داخل مبنى ماسبيرو، وعرضها في دول أخرى. وهي أزمة عانى منها التليفزيون في عقود سابقة. كانت سببا في فقده لبعض مما امتلكه من كنوز نادرة. ولم يكن هذا التسرب يستهدف المسرحيات فقط. بل كان يستهدف مختلف الأشكال الفنية من أفلام ومسلسلات وبرامج.
ويبدو أن عملية التسرب تلك كانت تبدأ بتجاهل عرض تلك الأعمال لفترات طويلة. وربما رفض عرضها تماما، حتى ينسى الجميع أنها موجودة بالتليفزيون. لنتفاجأ بها بعد سنوات معروضة على قنوات غير مصرية!
وهو ما يفهم من كلام المخرج المسرحي سمير العصفوري، الذي سبق له المطالبة في تصريحات صحفية (إبريل 1997)، بضرورة ترميم تراثنا المسرحي الموجود داخل أروقة التليفزيون وعرضه عن طريق نقله على ماكينات تسجيل حديثة. مشيرا إلى أن هذا هو الحل لـ”منع تسربه ليعرض في القنوات خارج مصر بينما المشاهد المصري لا يراه”. كاشفا أن التليفزيون المصري يطلق على هذا التراث مادة “غير متداولة”، وأن الرقابة ترى بأن تلك المسرحيات “انتهى زمانها”!
“المتزوجون” على تليفزيون الاحتلال!
من أخطر النقاط التي تناولها خالد فؤاد، هي تأكيده بأن الكثير من المسرحيات التي تم تسريبها من داخل ماسبيرو في فترات سابقة، وصلت بشكل أو بآخر إلى التليفزيون العبري في الأراضي المحتلة. مشيرا إلى أن مكتبة تليفزيون الاحتلال تذيع عشرات من المسرحيات المصرية بين الحين والآخر بجودة ونقاء عالي!
ويبدو أن حديث خالد فؤاد لم يكن مبالغة، حيث أكدت بعض المصادر الفلسطينية لـ”باب مصر”، أن تليفزيون الاحتلال ظل حتى وقت قريب يعرض المسرحيات المصرية القديمة. وبالأخص مسرحية “المتزوجون” التي اعتادت بعض القنوات العبرية عرضها في الأعياد الدينية اليهودية مصحوبة بترجمات عبرية وإنجليزية!
وأشارت تلك المصادر إلى أن تليفزيون الاحتلال اعتاد منذ بداياته على إذاعة الكثير من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات العربية، وبالأخص المصرية. حيث كان هناك كثير من اليهود المشارقة، من مصر وغيرها، يحرصون على متابعة تلك الأعمال.
وبالرغم من أن خالد فؤاد لم يقدم إجابة على تساؤله حول كيفية خروج مثل هذه المسرحيات من ماسبيرو ووصولها إلى الأراضي المحتلة. إلا أنه يمكن تخيل تلك الكارثة، قياسا على ما كانت تشهده الأفلام المصرية من تهريب للعرض على شاشة تليفزيون الاحتلال وبالأخص يوم الجمعة من كل أسبوع.
حيث يكشف الصحفي “إيال ساجي بيزاوي” في فيلم وثائقي من كتابته وإخراجه بعنوان “فيلم عربي“: أن كثيرا من الأفلام المصرية كانت تهرب إلى الأراضي المحتلة في سرية وهدوء عن طريق تجار اعتادوا بيع نسخ الأفلام إلى التليفزيون العبري بشكل غير قانوني. كانت ترسل شرائط الأفلام للعرض في سينمات القدس، وقبل إعادة الشريط يمر على تليفزيون الاحتلال ليحصل على نسخة منه. وقد ظلت الأفلام المصرية تصل إليهم بهذه الطريقة لعدة سنوات.
مفاجآت ماسبيرو زمان
مما سبق، يتضح أن الأرشيف الضخم من المسرح الذي امتلكه التليفزيون المصري، عانى كثيرا لعدة أسباب، وكان في تقلص مستمر. وهو يفقد كنوزه يوما بعد يوم، إلا أن هذا التدهور توقف إلى حد ما عام 2016. حيث كان المصريون على موعد مع حدث أعاد الأمل في إمكانية العثور على ما فقدناه من نوادر المسرح المصري العريق.
فقد أعلن التليفزيون المصري في هذا العام، عن إطلاق قناة باسم “ماسبيرو زمان” التابعة لشبكة قنوات النيل. والمخصصة لعرض تراث ماسبيرو القديم بالأبيض والأسود من مباريات وسهرات وأغنيات ودراما ومسرح. وتقديم محتوى نادر للمشاهد المصري لن يجد مثيلا له في أي قناة أخرى. حسبما أكد مسؤولو التليفزيون حينها.
وقد شهدت القناة بداية جيدة، استطاعت من خلالها حجز مكانة خاصة لها لدى المشاهد المصري والعربي كذلك. في ظل ما أخذت تذيعه من نوادر وأعمال استعاد من خلالها المشاهد الكثير من الذكريات التي عاشها مع التليفزيون منذ بداياته.
إحياء المحتوى
إلا أن أهم مفاجأة قدمتها قناة “ماسبيرو زمان” بعد انطلاقها، هي إعادة إحياء بعض من المحتوى الذي ظننا أنه فقد. ومن بينها مسرحيات كان يعتقد أنها ضاعت إلى الأبد. مثل مسرحيات “الناس اللي تحت” و”بلاد بره” و”وابور الطحين”، لنعمان عاشور التي قال إنها فقدت ولم يعد من الممكن عرضها. إلا أن “ماسبيرو زمان” فاجأت مشاهديها وأذاعت هذه المسرحيات عبر شاشتها وعبر قناتها الرسمية بمنصة “يوتيوب”.
وكذلك بعض مسرحيات فرقة الريحاني التي قام ببطولتها عادل خيري، والتي لم تذع أبدا على شاشة التليفزيون من قبل. وكان يعتقد أنها مسحت أو تلفت. مثل مسرحية “كان غيرك أشطر”، التي تتيح القناة فصلا منها للعرض عبر “يوتيوب”. وكذلك بعض مسرحيات محمد عوض، التي اشتكى عوض في آخر أيامه من ضياعها.
ولكن.. كيف حدث ذلك؟ كيف استطاعت القناة استرجاع تلك الأعمال التي اشتكى صناعها من ضياعها وتلفها؟ فأين اختفت كل تلك الفترة؟ وكيف دبت فيها الحياة من جديد؟ والسؤال الأهم: هل هناك أمل في استعادة أعمال أخرى من تراثنا المسرحي الضائع؟
خبيئة ماسبيرو الدفينة
بعض إجابات الأسئلة السابقة، وجدتها لدى مصادر داخل ماسبيرو، كشفت لـ”باب مصر” أن عملية جمع المحتوى القديم المناسب للعرض على قناة “ماسبيرو زمان”. شهدت ارتباكا ملحوظا في بداية إطلاق القناة. وذلك بسبب تشتت أرشيف التليفزيون بين أكثر من مكتبة وقسم وأرشيف داخل مبنى ماسبيرو.
وأضافت المصادر، أن رئاسة التليفزيون لم تصدر توجيهات واضحة وصريحة لتنظيم عملية حصول القناة على المحتوى القديم. لذا عندما حاول القائمون على “ماسبيرو زمان” جمع ذلك المحتوى. واجهوا تعنتا كبيرا من مسؤولي الأقسام والقنوات والمكتبات. ورفض بعضهم التعاون بأي شكل مع القناة الجديدة. بينما سمح بعضهم بتقديم بعض النسخ من المحتوى النادر الذي امتلكه وإخفاء البعض الآخر!
وأرجعت المصادر السبب وراء ذلك التعنت، إلى غياب الوعي لدى بعض الموظفين بدورهم وبدور التليفزيون. وخشيتهم من أن يتعرضوا للمساءلة بسبب ما تحت أيديهم من عهدة. كما أن بعضهم كان يخشى أن تكون عملية إتاحة المحتوى للقناة الجديدة سببا في اكتشاف ضياع بعض النسخ من الأفلام والمسرحيات والأعمال الدرامية أو تلفها.
ولكن برغم هذه الصعوبات، نجح بعض العاملين في القناة -بتحرك فردي منهم ودون مساعدة من إدارة التليفزيون- في اقتناص عدد لا بأس به من الشرائط التي ضمت أعمال نادرة وهامة. وإخضاعها لعمليات ترميم محدودة -تناسب الإمكانيات المتاحة بماسبيرو- وكان من نتيجة ذلك. أن عثروا على بعض الأعمال التي اعتقد سابقا أنها فقدت أو تسربت خارج المبنى. حيث اكتشفوا أنها كانت مشتتة ومخبئة داخل أروقة المبنى. ولا يدري عنها الموظفون الموكلون بحفظها وصيانتها أي شيء تقريبا، خاصة وأن أغلبها لا تتوفر قوائم بحصرها!
حملة إحياء تراثنا المسرحي
الشاهد مما سبق، أن تراثنا المسرحي المصور واجه أزمات كثيرة، بدءا من الانتقائية في عملية التصوير. مرورا بتجاهل التليفزيون لعرض كثير مما امتلكه من كنوز. وصولا إلى ضياع كثير من هذه الكنوز نتيجة التلف وسوء التخزين وإعادة الاستخدام أو التسرب.
ولكن، ظهور قناة “ماسبيرو زمان”، وما شهدته من عملية بحث عن جزء من هذا التراث. أكد أن الأمل لا يزال قائما في العثور على كثير من تراثنا المسرحي المشتت بين أروقة ماسبيرو، الذي تتنازعه الأقسام والمكتبات والأرشيفات المتعددة غير المنظمة التي يعمل أغلبها بالنظم القديمة وبالعقليات القديمة أيضا. والتي لا يوجد أي حصر واضح لها يساعد على جمعها وترميمها وإعادة عرضها.
ولكن الأمر يحتاج إلى قرار واعي وجريء للبحث والتنقيب الموسع عن هذه الكنوز. والكشف عنها واستخراجها وإتاحة عرضها للأجيال الجديدة، وتوجيه الجميع للتعاون والعمل لإنقاذ جزء هام وأصيل من تراثنا الفني العريق، مسرحنا المصري المصور.
محاولة للتعريف
في محاولة لبدء جهود إتاحة التراث المسرحي المصري المصور والتعريف بأماكن عرضه. سعيت خلال الفترة الماضية لعمل قاعدة بيانات محدودة. تضمنت حصرا لكل المسرحيات المصرية المتاحة للمشاهدة على منصة (YouTube) بهدف التعريف بهذا الإنتاج الضخم والتشجيع على مشاهدته.
وتشمل قاعدة البيانات تلك، المتاح من المسرحيات المصرية التي أنتجت داخل مصر بواسطة فرق مصرية، منذ بداية التصوير التليفزيوني للمسرح في مصر عام 1960، وحتى الآن. سواء كانت من إنتاج الفرق الخاصة أو فرق التليفزيون أو فرق القطاع العام. وتبلغ ما يزيد على 450 مسرحية حتى الآن.
وقد التزمت بترتيب المسرحيات في تلك القاعدة، بناء على تاريخ التسجيل التليفزيوني. حيث تم تقسيم الملف إلى عدة صفحات فرعية (Taps)، تتضمن كل صفحة المسرحيات التي تم تصويرها خلال عقد واحد. ونظرا لصعوبة تحديد التاريخ الدقيق للتصوير باليوم والشهر. فقد اكتفيت بذكر السنة. وترتيب المسرحيات التي عرضت في العام ذاته ترتيبا أبجديا. مع الإشارة إلى تاريخ العرض الأول للمسرحية في حال سبق عرضها قبل التصوير التليفزيوني.
أما المسرحيات التي عثرت عليها ولم أستطع تحديد تاريخ تصويرها. فقد جمعتها معا في نهاية العقد الذي تنتمي إليه. ورتبتها أبجديا بينما قمت بجمع المسرحيات التي لم أستطع تحديد العقد الذي أنتجت فيه. ووضعتها في صفحة منفصلة تحت اسم “غير محددة التاريخ” سوف أقوم بمراجعتها لاحقا وتسكين المسرحيات الواردة بها حال التأكد من تاريخ تصويرها.
موسوعة المسرح المصري
وقد اعتمدت في تحديد تواريخ وبيانات العروض، بشكل أساسي على موسوعة المسرح المصري المصورة للدكتور عمرو دوارة. وكذلك على مؤلفات ومذكرات الفنانين الذين اشتركوا في تلك العروض. مثل مذكرات نعمان عاشور ومذكرات سميحة أيوب وغيرهما.
كما اعتمدت على موقع “سينما كوم” لتحديد تواريخ المسرحيات التي لم أجدها في موسوعة المسرح المصري المصورة. أيضا حرصت على الاستفادة من المعلومات المتعلقة بالعروض التي وردت في تترات بداية المسرحيات ومن البيانات المرفقة معها في رابط اليوتيوب. وفي الحالات التي واجهت فيها تضاربا بين البيانات المتعلقة بمسرحية ما بين أكثر من مصدر. قمت بإعطاء الأولوية للمذكرات، ثم لموسوعة المسرح المصري المصورة ثم للمقالات المتاحة على الإنترنت. وأخيرا موقع سينما كوم.
أما عن روابط المشاهدة على منصة (YouTube) فقد قمت بجمعها من القنوات المعتمدة أولا. أي التي ترتبط بقنوات تليفزيونية أو شركات إنتاج أو الحاصلة على علامة التعريف (Verified). وكذلك من القنوات المملوكة لورثة بعض أبطال العروض المسرحية. مثل مسرحيات سيد زيان التي تعرضها ابنته إيمان على إحدى القنوات الخاصة بها. مع ترجيح امتلاك هذه القنوات لحقوق بث هذه الأعمال. وفي حالة تعذر العثور على رابط لمسرحية ما على قناة معتمدة. كنت ألجأ إلى القنوات الأخرى غير المعتمدة والتي لا يرجح امتلاكها لحقوق البث.
تجدر الإشارة إلى أنه من المتاح لكل من يطالع قاعدة البيانات من القراء، أن يعلق كتابة على أي معلومة واردة بها. سواء بالتصحيح أو الإضافة. وسوف تتم مراجعة التعليقات أول بأول وتنفيذها حال التأكد من صحتها.
وسيتم تحديث قاعدة البيانات باستمرار، ومراجعة المعلومات الواردة فيها. وإضافة أي روابط جديدة يتم العثور عليها، أو يتم اقتراحها من القراء. مع العلم أنه تم الانتهاء حتى الآن من تدقيق وضبط الأعمال الواردة في عقد الستينيات. وجاري العمل على باقي العقود.
وفي الختام، أتمنى أن يكون هذا الجهد البسيط، سببا في تعريف الأجيال الجديدة بما امتلكناه من تراث مسرحي ضخم. شكل وجدان المصريين والعرب على مدار سنوات طويلة. وأن يكون له دور ولو بسيط في استعادة المسرح المصري لريادته وحضوره الكبير.
للاطلاع على قاعدة بيانات (تراث المسرح المصري المصور) اضغط هنا
اقرأ أيضا:
قناة واحدة و6 ساعات يوميًا.. هكذا كانت بداية إرسال التلفزيون في مصر