كان جمال الغيطاني يجيد قراءة الأثر من أحجاره
فاجأني الكاتب الكبير جمال الغيطاني -رحمه الله- بمقاله في جريدة أخبار اليوم بعنوان «رحم الله الكحلاوي الذى أنجب لنا عالما جليلا مهابا» إلى أخر المقال. وترجع أسباب هذه المقالة إلى الحديث الذى أجريته مع الإعلامي الراحل، مفيد فوزي في برنامج حديث المدينة وكان الحديث عن موقع باب العزب وهو أحد أبواب قلعة صلاح الدين. حيث كانت تنوى الحكومة المصرية طرح هذا الموقع على الجانب الإيطالي لإعادة استثماره فى إطار يختلف عن طبيعة المكان كأثر أو كموقع أثري. وقد دار نقاش حاد بيني وبين الأستاذ مفيد فوزي وانتهيت فيه باتهام وزير الثقافة حينذاك بتعمد إهمال الموقع الأثري كمبرر لاستثماره.
ولذلك كان وصفي لهذا المشهد من قبل وزارة الثقافة بالفلاح الذي بور أرضه متعمدا لكي يغير من طبيعتها. وقد اكتسبت هذه القضية رأيا عاما بعد هذه الحلقة. وكان من بين السامعين والمشاهدين لها الأستاذ جمال الغيطاني والأستاذة، سكينة فؤاد حيث شاركوني في الدفاع عن أثرية الموقع والحفاظ عليه. ومنذ ذلك الوقت بدأت ملازمتي للأستاذ الغيطاني بشكل يومي وأصبحت قضية باب العزب قضية مشتركة بيننا إلى أن أوصلناها مع آخرين إلى قاعة المحكمة. وبعد عدة جلسات جاء الحكم بعدم تمكين وزارة الثقافة ببناء أي استثمارات في هذا الموقع تخالف طبيعته الأثرية ولا تحترمها.
معارك أثرية
كانت هذه هي القضية الأولى التي جمعتني بالكاتب الكبير جمال الغيطانى. وأصبح يربطني به وبالكاتبة الكبيرة سكينة فؤاد صداقة قوية في حب الآثار والوطن. فقد تبنوا معي كافة قضايا الآثار التي كنت أدافع عنها، كقضية متحف الفن الإسلامي فعندما أرادت وزارة الثقافة نقل المتحف إلى قلعة صلاح الدين ذهبنا سويا إلى مكتب النائب العام لتقديم شكوى تتضمن ما تتعرض له آثار مصر الإسلامية من تعديات. وقد أبدى السيد النائب العام إندهاشه من طبيعة البلاغ حيث أفاد بأن هذه أول مرة أبحث شكوى بهذا المضمون ومع إثارة هذه القضية على صفحات أخبار الأدب تراجعت الحكومة عن قراراها بنقل المتحف. ثم التقينا على هامش قضية أخرى وهي محاولة هدم مشيخة الأزهر من أجل بناء هوَّايات لنفق الأزهر وقد نجحنا أيضا في وقف هدمها.
ومن القضايا التي نجحنا فيها سويا أيضا قضية وقف بيع قصر البارون لمستثمرين عرب بإعطائهم أرض بديلة. كما تصدينا سويا لأعمال الترميم الخاطئة في كل من جامع عمرو والجامع الأزهر والقاهرة التاريخية. كل هذه القضايا لم تكن سهلة ولم يكن الوقوف أمام تنفيذها بالأمر الهين، وبخاصة أن الخصم هي إحدى مؤسسات الدولة، كما كانت هناك صعوبات ومعوقات كبيرة وكثيرة كان من الممكن أن تهدد مستقبلي كأستاذ جامعي. ولكن قدر الله لي من يقف بجانبي ليذلل كافة الصعوبات وكل المعوقات.
أحجار المدينة القديمة
كان الغيطاني أحد تلك الرموز الشامخة التي لازمتني وساندتي في كافة قضايا الآثار التي طرحتها. وتضامن معي بمقالاته التي استطاعت أن تكون رأيا مجتمعيا حول الآثار الإسلامية لأول مرة. حيث أصبح لها مريدين ومدافعين مثلما كان على الجانب الآخر في الآثار المصرية، حيث كان من أكبر المدافعين عنها الأستاذ الدكتور على رضوان والكاتبة الكبيرة أ.د. نعمات أحمد فؤاد، ولم تكن القضايا الأثرية فقط هي التي تجمعني بالأستاذ الغيطاني -رحمه الله- بل جمعتنا صحبة زيارة مساجد ومدارس وخنقاوات القاهرة في سكون الليل. حيث كنا نتجول ليلا بين دروبها وأزقتها.
و كان الغيطاني -رحمة الله عليه- يمتلك قدرة فائقة على استقراء ما تكتنزه أحجار المدينة القديمة من أسرار وقيم جمالية. وكان حديثي يقتصر عن الأثر وعمارته مع بعض التحليل لنقوشه وقيمه الجمالية والمعماريه. ثم يضيف هو رؤيته التي تحمل معاني متعددة وتطرح رؤى مختلفة مشحونة بأحاسيس وعبارات كأنك تستمع لأحد المتصوفة وتحوي كلماته في مضمونها تساؤلات تجعل الأثر ينطق بأسراره.
فالأثر بالنسبة للأستاذ الغيطاني كان كتابا مفتوحا يجيد قراءته من أحجاره. كما كان رحمه الله فارسا يدافع بقلمه الذي لا يشق له غبار فكان لا يخشى في الحق لومة لائم. فقد كان مسكونا بحب مصر عاشقا لها ومتبتلا في محرابها. وكان هذا العشق للآثار معضدا بصداقات مع صناديد علوم المصريات وبخاصة شيخ الآثاريين حينذاك الأستاذ الدكتور على رضوان الذي كانت تربطه به علاقة قوية. وكان بالنسبة له المرجع والمصدر الرئيسي فيما يستقيه من علوم المصريات. وكُنَّا من حين لآخر نجتمع ونلتقي سويا على عشاء أو جلسة شاي أو في الحلقات التي يقدمها الغيطاني تحت عنوان “صالون الغيطاني” على قناة دريم وغيرها من البرامج التي كان يقدمها في التلفزيون المصري. وقد كنت ضيفا على معظم الحلقات التي ناقشنا فيها سويا العديد من ملفات الآثار التي كان لا يمكن مناقشتها مع أي إعلامي أو صحفي آخر مثل ملف القدس وحفائر المسجد الأقصى وواقع الآثار الإسلامية في مصر وغيرها من البلدان.
قرارات حاسمة
كانت علاقتي بالأستاذ الغيطاني تزداد صلابة وقوة. وأتذكر عندما كلفت برئاسة متحف الفن الإسلامي طلبت منه أن يكون معي عضوا بمجلس إدارة المتحف. ولم يتردد قط في الموافقة وبخاصة أن تلك الفترة كانت من أصعب الفترات التي مرت على مصرنا في أعقاب ثورة يناير وما شهدته الآثار المصرية والمتاحف ومخازن الآثار من أعمال سلب ونهب وإهمال. واتخذنا سويا قرارات حاسمة منها عدم خروج معارض من متحف الفن الإسلامي حماية لمقتنياته من العبث في أثناء النقل والسفر.
وفي عموده بأخبار اليوم فاجئني بمقاله الذى أعتبره تاجا على رأسي. حيث كتب معاتبا رئيس الوزراء بسؤاله مستفسرا كيف تبحث عن وزير للآثار والدكتور محمد الكحلاوي موجود؟ لقد كان هذا المقال بالنسبة لي أكبر تكريم حصلت عليه ليس لمنصب الوزير الذي رشحني إليه. لكن للثقة الكبيرة التي أحاطني بها، ورؤيته لي بأنني أفضل من يتولى وزارة الآثار في ذلك الوقت. ولا أخفي سرا عندما طلب مني أن أتقدم لإحدى جوائز الدولة فى عام 2014م كان من أكبر الداعمين لي وأول من أبلغني بالحصول على الجائزة، وأول من احتفى بي بمكتبة القاهرة بمناسبة حصولي على جائزة الدولة في العلوم الاجتماعية للتفوق العلمي. فقد منحني حينذاك درعا فخريا.
حظيرة وزير الثقافة!
كان الغيطاني بالنسبة لي سندا بعد الله فى كل القضايا التى تبنيتها في الدفاع عن الآثار الإسلامية. ولولا مقالاته ولقاءاته لما عرفني أحد، فإليه يرجع الفضل بعد الله بأنه أول من وجه الرأي العام المجتمعي لأهمية الآثار وقضاياها وجعل لها متابعين يكونون رأيا عاما يحسب له حساب وأفرد أخبار الأدب لكافة قضايا الآثار. وأسس لمدرسة تخرج فيها العديد من شباب الصحفيين الذين اهتموا بقضايا الآثار أمثال الأستاذ على القماش، والأستاذ إيهاب الحضرى، وأسامة فاروق، وغيرهم من شباب الإعلاميين حينذاك. كذلك لا أنسى ما قاله في حقي وكتبه في مقالة كبيرة في جريدة أخبار الأدب تحت عنوان: “الرجل الذي استعصى على وزير ووزارة الثقافة” هكذا كان عنوان المقالة التي جعلني الغيطاني فيها الرجل الذي لم يتمكن وزير الثقافة أن يدخله في حظيرته.
هكذا كان يراني الأستاذ الغيطاني كما كان متبنيا لما أطرحه من قضايا ومتابعا جيدا لكل تحركاتي في مجال الآثار الإسلامية. ولم يكن الغيطاني بعيدا عنا في أثناء تكوين الاتحاد العام للآثاريين العرب. فكان رحمه الله أول الداعمين والمناصرين لهذا الاتحاد بل كان عضوا في مجلس إدارته. ومتبنيا لكل قضاياه التي كنا نخوضها سويا سواء على المستوى المحلى أو الإقليمي. فكانت كلماته ومقالاته قوة ضاربة من أجل حماية هذا الوطن ومقدراته الثقافية والحضارية. ولم يكن يقبل أن تُمس آثار مصر مهما كانت مكانة الشخص الذى سيختلف معه وقربه منه. وقد شاهدت بنفسي العديد من الوقائع التي تؤكد على ذلك، فالرجل كان يمتلك قدرة على الفصل بين الصداقة وبين مصلحة الأثر. فلم يكن يبالي بأحد طالما الأمر يتعلق بسلامة الآثار.
حب المحروسة
كان شغوفا ومحبا وملما بكل قضايا وهموم الآثار المصرية. وكان من أهم ما يميزه هو حديثه العذب عندما يحدثك عن الآثار وكأنك أمام عالم متخصص وأديب مفوه ينظم أفكاره بلمسات صوفية تجعلك فى حالة سكون عندما يتكلم ولا تتمنى أن ينقطع عنك هذا الصوت. الذى ينبعث من أعماق التاريخ وأنت واقف فى حضرته. ولذلك كنت دائما لا أبادر بالحديث وأترك له عند كل زيارة أن يبدأ هو بطرح تساؤلاته ورؤيته حتى أشبع وجداني بحديثه الشيق عن معشوقته “القاهرة الإسلامية” التي أحببها الغيطاني فأحببناها على حبه. وكم كنت استعجب من حديثه عن دروبها وحارتها وعن شيخه الأديب الكبير نجيب محفوظ الذي شاركه في حب القاهرة المحروسة.
دروب القاهرة
رحم الله الغيطاني بقدر ما أعطى مصر وآثارها من اهتمام. فكان بحق أول المدافعين عنها والمجندين لخدمتها من رجال الصحافة. سيبقى نجما مضيئا في سماء القاهرة الإسلامية تحاكى روحه مآذنها التى ما فتئ إلا وذكرها فى ذكرياته عن سحر المكان والزمان فى كل دروب القاهرة الإسلامية. التي تشهد وأنا معها من الشاهدين على تلك الكلمات التي كانت تفوح مسكا وعنبرا. وتخرج بصدق. فتسكن قلب من يسمعها لما تحمله تلك الكلمات من صدق مشاعر لعاشق للقاهرة ودروبها وأزقتها وتحلق أهلها حول عربات الفول. ومجمل القول أن المرء في صحبة الغيطاني لا يمتلك إلا أن ينبهر بهذه القامة والقيمة. التي أودع الله فيها كل القبول والنبوغ. لقد كان الغيطاني بحق حالة فريدة متميزة في عالم الأدب والأدباء له شخصية تميزها من بين آلاف الشخصيات. شخصية مشحونة بالحب والعاطفة والحنان. رحمك الله صديقي العزيز وإلى روحك الطاهرة أدعو الله أن يتغمدك بواسع رحمته وأن يجزيك عنا وعن القاهرة الإسلامية خير الجزاء.
محمد الكحلاوى، رئيس المجلس العربي للآثاريين العرب.
اقرأ أيضا:
ملف| جمال الغيطاني.. مقاوما الفناء
جمال الغيطاني.. استئصال ذاكرة المدينة
قاهرة جمال الغيطاني.. مدينة بنفس صوفي
جمال الغيطاني.. معاركه وكلماته
«سلام».. من نصوص جمال الغيطاني
الأبدية … من نصوص جمال الغيطاني