«الأيام» على الطريقة اليابانية: عندما أنقذ المهندسون والعمال العالم!
نسمع، ونردد، يوميا، الإرشادات والنصائح حول أصول وقواعد الفن والدراما، وتضخ المطابع والمواقع، يوميا، كتبا ومقالات ومحاضرات مسموعة ومرئية، حتى تحول الفن، لدى كثير من المبدعين والنقاد والهواة، إلى قوالب صارمة، خانقة، أحيانا، وحفظ دون فهم، أحيانا.
ولست بالطبع ضد القواعد والأصول. خاصة أن الكثيرين الآن يرفضونها من باب الجهل أو الكسل، أو الاثنين معا، وانتشار ثقافة خلط “أبو قرش مع أبي قرشين”!
ولكن، كما قال الناقد الكبير “إيجو” في فيلم التحريك الشهير ratatouille أو “خلطبيطة بالصلصة”، أو “الفار الطباخ”. والتي أداها في النسخة الأمريكية العظيم بيتر أوتول، وفي النسخة المصرية الراحل أحمد الحريري:
“تأتي على الناقد لحظات يخاطر فيها، عندما يكون عليه أن يكتشف ويدافع عن الجديد. العالم دائما يعادي الموهبة الجديدة، والإبداع الجديد. لكن الجديد يحتاج إلى صديق”.
واقعية مختلفة
الجديد قد يكون قديما وتقليديا أيضا، لكنه مجهول لدى المتلقي. فالفن الياباني، مثلا، قد يصعب تذوقه على أهل الشرق الأوسط. بينما قد يصعب على اليابانيين، مثلا، استساغة السينما الهندية والمصرية.
ولمن يرغب في زيادة معرفته بثقافة وفن كوكب اليابان الشقيق. فليحزم حقيبته ويقلع في رحلة مدتها ثمان ساعات لمشاهدة مسلسل “الأيام” The Days، الذي بدأ عرضه على منصة “نتفليكس” منذ أيام.
ولكن قبل أن نتكلم عن الشكل والأسلوب الفنيين. فإن أكثر ما يهم في هذا العمل هو موضوعه، الذي يتناول القصة الحقيقية، من واقع التقارير وشهادات المشاركين، لكارثة مفاعل فوكوشيما دايتشي. الذي كاد ينفجر ويتسبب في تلوث وضياع أكثر من نصف اليابان. وذلك عقب الزلزال المدمر الذي حدث في 11 مارس 2011، والذي أعقبه إعصار تسونامي أكثر تدميرا، ومحاولات العاملين في المفاعل، بالأساس، والقيادات في العاصمة طوكيو، من بعيد، لمنع حدوث هذا الانفجار، على مدار أسبوع كامل.
بين تشيرنوبل وفوكوشيما
كثيرة هي الأعمال التي تعتمد على قصص حقيقية، ولكن مساحة التعديل والتكييف الدرامي التي تخضع لها هذه الأعمال يختلف من عمل إلى آخر. ولعل أقرب عمل يتذكره المرء بمجرد أن يبدأ في مشاهدة “الأيام” هو مسلسل “تشرنوبل” الذي عرض في 2019. والمأخوذ بتصرف عن الرواية الوثائقية “ذكريات من تشيرنوبل” للأديبة نوبل سفيتلانا ألكسفيتش. وتناول في خمس حلقات درامية وثائقية أكبر كارثة نووية حدثت حتى الآن، وما تبعها من آثار لم تزل باقية إلى اليوم.
“تشيرنوبل” نموذج فذ لكيفية تحويل الوقائع الوثائقية إلى دراما. مطعمة بالممثلين النجوم، والحبكة المحكمة، والإيقاع التشويقي. ولكن “الأيام” شيء مختلف، قد يكون أقل حرفية درامية، ولكنه أكثر جدية وإخلاصا للواقع.
يدرك صناع المسلسل أن العنصر الفني الأساسي لديهم هو الموضوع. وأن مهمتهم الأساسية هي رصد وتصوير ما حدث بالفعل داخل غرف صنع القرار وعلى أرض العمليات. باعتبار أن ذلك وحده أقوى من أي دراما. ومن ثم يتخذون كل قرار واختيار “فني” بناء على مدى تعبيره الدقيق عن المضمون. وأن الشكل والحرفية وبقية العناصر الفنية هي هنا، فقط، من أجل خدمة الموضوع، وليس الترفيه والتشويق.
لا تبحث عن المتعة
عندما طالعت عبارة (?Did you enjoy this) أو “هل استمتعت بهذا العمل؟” التي تطل تلقائيا على شاشة المنصات. شعرت بالخجل: هل يفترض أن نستمتع ونحن نشاهد هذا المسلسل؟ في “تشيرنوبل”. رغم أن الكارثة كانت أبشع وعدد الضحايا لا يقارن، لكنك لا تملك سوى الاستمتاع ببراعة الممثلين والتصوير والموسيقى والجماليات الفنية المعتادة. بشكل ما، صحيح كان هذا أم خطأ، فإن ما يبقى في ذاكرتك هو المسلسل، كبديل عن الواقع نفسه الذي لا تعرف، حقا، كيف كان.
الأمر هنا مختلف: الهدف هو أن ينقلك إلى الواقع الذي حدث، إذا كان هذا ممكنا. وأول شيء خطر ببالي حتى قبل أن أنتهي من مشاهدة المسلسل. هو أن أبحث عن الشخصيات الحقيقية، هؤلاء الأبطال الواقعيين، من لحم ودم، الذين عاشوا، وعبروا، هذه المحنة.
أكبر من الرعب
ليس معنى ذلك أن العمل يخلو من الإبداع. على العكس كل الإبداع متوفر هنا: تشويق أكثر إثارة من التشويق، ورعب أكبر من الرعب، ودراما أقوى من الدراما، وأبطال خارقين أبعد من الخيال.
الفكرة هنا أن يقارن المشاهد نفسه بين الواقع والدراما ويعرف الفارق، والمشترك بين الاثنين، وأن يرسم في ذهنه بقية الصورة كما يشاء.
يتسم الفن الياباني، عامة، بما يطلق عليه الـminimalism أو “التقليلية”، وفقا لترجمة المصطلح العربية، والتي تعني استخدام أقل قدر ممكن من الأدوات التعبيرية. ما يعطي للعمل قوة الإيحاء والشعور ويعطي للمتلقي مساحة من الإبداع الشخصي لاستكمال العمل.
تتسم الواقعية اليابانية أيضا بالإيقاع الهادئ البطيء، يمكنك أن تشاهد فيلم Drive My Car الفائز بالأوسكار منذ عامين لتتعرف أكثر على خصائص هذا الإيقاع.
تطويل.. ولكن
ربما، للحق، يعاني مسلسل “الأيام” من بعض التطويل، وبما أن كثيرا من أحداثه تقع في الظلام الدامس، بسبب انقطاع الكهرباء عن المدينة كلها. فإن بعض المشاهد تعاني من نقص إضاءة مزعج. لكن، كما ذكرت، أتصور أن إخلاص صناع العمل للواقع منعهم من اختصار بعض التفاصيل الزائدة والمكررة (وفقا لقواعد الدراما). أو اللجوء لتقنية “الليل الأمريكي” الذي ترى فيه ما يحدث في الظلام.
مع ذلك، فإن الأحداث المكررة هنا تبين مدى صعوبة الواقع نفسه. إذ تفشل محاولات فرق الإنقاذ، واحدة تلو الأخرى، بشكل يدعو لليأس، ولكن فريق العمل لم ييأس على أرض الواقع. ومثل سيزيف، واصلوا رفع الصخرة إلى قمة الجبل بلا كلل، إلى أن كتبت عليهم النجاة.
لقد كانت اليابان، والدول المجاورة لها، معرضة لأخطار تفوق قنبلتي ناكازاكا وهيروشيما مجتمعتين، ولم يكن الحل في أيدي الجيوش المدججة بالسلاح. وإنما في أيدي عدد قليل من المديرين والتقنيين، الأوتوقراط، والمهندسين والعمال المخلصين في عملهم. والبطولة هنا ليست بعدد الضحايا الذين يسقطون كالذباب في أفلام الأكشن. ولكن في حياة واحدة أو اثنتان تهدران لشابين موهوبين في مقتبل الحياة. وفي عشرات الذين يظلون يعملون دون نوم لأكثر من أسبوع، تحت وطأة الإشعاع النووي القاتل وضربات الزلزال والإعصار، حتى يتبولون دما في نهاية المطاف.
هذا عمل يمجد هؤلاء الجنود المجهولين الذين يصنعون الحضارة ويحافظون عليها كل يوم.
الفن المتواضع
كل الكلام السابق لا يعني أن الفن غير مهم، بل على العكس، كل المهارات الفنية موجودة هنا، ولكنها، بتواضع وإخلاص يشبه تواضع وإخلاص أبطال العمل، تهدف إلى خدمة العمل ومضمونه، وليس الاستعراض أو الإبهار. ونقل هذا المضمون بمثل هذه الواقعية والدقة هو إبداع فني من نوع خاص. يعتمد السيناريو على الوقائع وفقا لتسجيلات غرف عمليات ساعة بساعة ولحظة بلحظة وشهادات الشهود.. والكيفية التي تختزل بها ثمانية أيام في ثمان ساعات تحتاج لمهارة كبيرة في الكتابة والمونتاج.
ومن أفضل العناصر في هذا العمل فريق الممثلين وعلى رأسهم كوجي ياكوشو، في دور مدير غرفة العمليات وراوي الأحداث ماساو يوشيدا، وإذا كنت تنوي مشاهدة العمل أنصحك فقط بمراقبة ممثلي الأدوار الثانية والثالثة والمجاميع. جهد إخراجي هائل. وكذلك بتأمل المؤثرات الخاصة في مشاهد الإعصار، والموسيقى التصويرية التي تغمرك، وتوترك، وترعبك، وتبكيك، دون أن تشعر بها!
اقرأ أيضا:
«فيلم عربي» إسرائيلي يثير ضجة على السوشيال ميديا