«حوائط القرافة».. خبايا تاريخية تنتظر التنقيب
أثار اكتشاف مجموعة من محبي القرافة والعاملين بجهود ذاتية على توثيق معالمها، لشاهد أثري يعود لأكثر من 1100 عام، الكثير من الشجون. إذ ظل الشاهد الذي يعود إلى القرن التاسع الميلادي، محفوظا داخل جدار بعدما أعيد استخدامه كمواد بناء في إحدى المقابر الحديثة.
هذه المرة نجد أن حوائط جبانات القاهرة تبوح ببعض أسرارها لتنضم بذلك إلى الشواهد وأماكن مقابر بعينها تحتوي رفات شخصيات تاريخية من حقب مختلفة. فالاكتشاف الأخير ألقى الضوء على حقيقة تاريخية معروفة في تاريخ القاهرة لكنها على ما يبدو منسية. وهي إعادة الاستخدام؛ إذ يتم استخدام بقايا قديمة في بناء عمائر جديدة، ما أدى إلى تحويل جدران المقابر إلى كنوز مخبوءة تحتاج إلى من يستخرجها ويحافظ عليها.
***
التعامل مع جبانات القاهرة يجب أن يتم بحذر وحرص شديدين لأن كل حجر في الجبانة. خصوصا منطقة القرافة الصغرى (مقابر الشافعي)، يحتوي على معلومة تاريخية فريدة. هكذا يرى الدكتور مصطفى الصادق، المهتم بتوثيق معالم القرافة، في حديثه لـ”باب مصر”. إذ يرى أن الاكتشاف الأخير الذي كان أحد أبطاله، يضعنا أمام مسؤولية تاريخية للحفاظ على مكونات جبانات القاهرة وليس فقط الشواهد أو أماكن المقابر ذاتها.
وأشار الصادق إلى أن ظاهرة استخدام الشواهد الأثرية للمقابر في عمليات البناء قديمة، ويمكن أن يعد حجر رشيد الأشهر في هذا المجال، والذي استخدم كمادة بناء في قلعة رشيد. وتابع: “ندعو لوجود لجنة علمية عند عمليات الهدم لأي مقبرة في القرافة لتقوم بالإشراف على عملية الهدم، والتدقيق في الجدران لأننا سنجد عندها الكثير من الشواهد المعاد استخدامها. ونحن كمجموعة من المهتمين بتوثيق الجبانات على استعداد كامل للمشاركة كمتطوعين في هذه اللجنة حال تشكيلها، لأن غرضنا هو المشاركة في الحفاظ على تاريخ مصر”.
ويعد مصطفى الصادق من أهم المهتمين بتوثيق معالم جبانات القاهرة وتسجيل أشهر تفاصيلها. وقاده الحظ الممزوج بالمثابرة، إلى اكتشاف شاهد قبر مكتوب بخط كوفي غير منقوط ملقى في أحد الأحواش المهدمة. وهو الاكتشاف الذي يقول الصادق إنه تم بالصدفة البحتة، إذ سبق أن زار المكان ذاته أكثر من مرة خلال زياراته المتكررة لمقابر الإمام الشافعي. وعندما توجه لرؤية الحوش الذي تعرض للهدم، وجد مع مجموعة من المهتمين الشاهد الذي أعيد استخدامه في الماضي كجزء من جدار. وبعد هدم المقبرة ظهر الشاهد من بين ركام الجدار المهدم.
اكتشاف الصادق ومن معه من المهتمين بتراث القرافة، يعيد التذكير بحقيقة أن جدران الجبانات والأحياء القديمة في القاهرة تحمل من التاريخ الكثير. وتحتاج فقط إلى عين باحث ومنقب للكشف عن تفاصيلها واستعادتها من الضياع بين معاول الهدم.
***
الشاهد المكتشف حديثا يعود إلى فترة تسبق قيام الدول المستقلة في الحقبة الإسلامية. إذ يسبق تاريخ الشاهد المدون بسنة 229هـ/ 844م، قيام الدولة الطولونية التي تأسست العام 254هـ/ 868م. وما تبعها من دول مستقلة كالإخشيدية والفاطمية والأيوبية والمملوكية. بل أن الشاهد المكتشف يسبق إنشاء مدينة القاهرة ذاتها بحوال 130 سنة. وهو يعود إلى امرأة تدعى إمامة ابنة محمد بن يحيى بن خالد بن يحيى. ولا يعرف عنها الكثير بطبيعة الحال ولا عن أصلها. لكن الاسم أوحى للبعض أنها من سلالة البرامكة وزراء الخليفة العباسي الأشهر هارون الرشيد. وهو أمر يحتاج إلى المزيد من البحث في كتب التاريخ والتراجم للوصول إلى معلومات تأكد صحة ما جاء في الشاهد. وتثبت انتقال بعض أفراد أسرة البرامكة بعد نكبتهم الشهيرة إلى مصر والاستقرار بها!
ولدينا الكثير من الشواهد والأدلة التاريخية التي تؤكد أن الجدران في القاهرة لديها ما ترويه عن تاريخ مدينة ألفية. نذكر منها وقفية إنشاء الوزير الإخشيدي جعفر بن الفضل بن الفرات لبئر عرفت في ما بعد باسم بئر الوطاويط. لنقل المياه منها إلى السبع سقايات التي أنشأها وحبسها لجميع المسلمين التي كانت بمنطقة قريبة من جامع أحمد بن طولون. وقد ترك وقفية البئر على جدار مقابل لها.
ضاعت وقفية ابن الفرات التي احتفظ لنا بنصها المقريزي في كتابه “المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار”. لكن في بدايات القرن العشرين عثر على جزء من هذه الوقفية على شاهد حجري داخل حائط في بيت متخرب في حي الصليبة بالقرب من جامع أحمد بن طولون. وقد حفظ لنا التاريخ من هذا الشاهد نحو ثلاثة أسطر قرأها فان برشم وجاستن فيت. واستكملا الناقص من النص الذي حفظه لنا المقريزي. ويرى الدكتور أيمن فؤاد سيد محقق خطط المقريزي، إن هذا النص هو أقدم حجة وقف في مصر وصلت إلينا.
***
الكشوف الأثرية التي تستعيد شواهد تاريخية من جدران قديمة، تفرض مسؤولية حقيقية على المسؤولين على عمليات الهدم الجارية في جبانات القاهرة حاليا. إذ يقول إبراهيم طايع، مؤسس صفحة «جبانات مصر» وأحد مكتشفي الشاهد الأثري بقرافة الشافعي، لـ«باب مصر»: إن “جدران أحواش المقابر التي تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بنيت بحجارة معاد استخدامها. أي خضعت لإعادة تدوير لأحجار وشواهد أقدم من هذه الفترة بكثير. لذا فالمتوقع أن جدران الأحواش بها الكثير من الشواهد التاريخية التي تعود إلى فترات تاريخية قديمة جدا. فالأمر يحتاج إلى لجنة علمية أثرية تقوم بهذه الكشوف والبحث عن هذه الشواهد المختبئة داخل جدران أحواش القرافة. ونحن كمحبين للقرافة على استعداد للمشاركة بشكل تطوعي».
حديث الصادق وطايع وكشفهما عن الشاهد الأثري الذي يعود إلى العصر العباسي. له شواهد كثيرة وسوابق فلم يكن الكشف الأول ولن يكون الأخير. لأن حوائط المقابر مليئة بالكنوز التي تحتاج إلى البحث الأثري عن شواهد أعيد استخدامها وتدويرها كمواد بناء. لكنها رغم ذلك تحتفظ بكتابات أثرية معدومة النظير. وقد سبق للباحث أبو العلا خليل، المتخصص في تاريخ القاهرة. أن كشف عن شاهدين أثريين بحوش شريف باشا في قرافة الإمام الشافعي. وهما من القرن الثالث الهجري وكتبا بالخط الكوفي في عصر الدولة الطولونية أي بعد عقود قليلة من الشاهد الأثري المكتشف حديثا. والمدهش أنهما استخدما في جدار بالحوش المبني في فترة زمنية متأخرة.
وهو ما يعني أن حوائط المقابر ذاخرة بالكثير من الشواهد التاريخية والأثرية. التي تكشف عن الكثير من المعلومات المهمة على صعيد البحوث التاريخية وتطور كتابة الخط العربي. لكن كل هذا مهدد بالتبديد والاندثار الأبدي مع عمليات الهدم التي تتم بلا أي استعانة من متخصصين ولا عناية بطبيعة الجبانات وطبقاتها التاريخية.
***
ننتهي هنا إلى حقيقة تاريخية وهي إذا كان المسؤولون يعتمدون في عمليات الهدم الجارية للمقابر التاريخية على أنها تعود إلى فترات حديثة ولم يتم تسجيلها كآثار. فإن جدران المقابر تكشف لنا عن ما في بطونها لتقول بكل وضوح وبلا أي لبس أن الجبانات. خصوصا القرافة الصغرى مبنية على تراث تاريخي أثري يحتاج إلى الحفاظ عليه والتنقيب عنه بمنطق الحفريات الأثرية لا الهدم والدهس بالبلدوزر.
إن أهمية الكشف الأخير تمكن في أنها رسالة المدينة إلينا بأن المقابر لا يمكن أن تهدم من الأساس. وأنها تحتوي من الطبقات التاريخية غير المكتشفة ما يحتاج إلى خطط ومشاريع رعاية فائقة بعيدًا عن منطق الهدم. نضم صوتنا إلى أصوات المهتمين بالمقابر بضرورة التوقف عن عبث الهدم بالمقابر. والعمل على طرح أفكار لكيفية البدء في عمليات تنقيب وتوثيق للمقابر بداية من جدرانها، ففي الأخيرة تكمن خبايا التاريخ.
اقرأ أيضا:
هشاشة القرافة.. لعنة التاريخ ورسائل الحكومة
أسفار الجبانة.. شهادات تاريخية تدين المحو الحكومي