حوار| الفنان التشكيلي مهاب عبدالغفار: الأرض للبشر والجميع وطاقة الإنسان مشحونة بالتفاصيل
تتواصل فعاليات المعرض الفني «أرض البشر»، المقام في المركز الفرنسي بالإسكندرية، للفنان التشكيلي مهاب عبدالغفار، الذي تم افتتاحه الأسبوع الماضي ويستمر حتى 28 مايو الجاري. يضم المعرض 24 عملا فنيا بمساحات كبيرة، مستوحى من الحضارة المصرية وعلاقة الأرض بالبشر.. «باب مصر» أجرى حوارا مع الفنان على هامش افتتاح المعرض.
تزخر تجربتك الفنية بالتنوع في الجملة البصرية ما بين الأبيض والأسود والحفر والطباعة ثم التجريد.. ما مدلول ذلك؟
ليس لدي أي مفاضلة فيما يخص الموضوع البصري لأي نمط من الأنماط الفنية المتعارف عليها. وأرى أن المصطلحات التي تخص الفنون التشكيلية من تجريدية وغيرها هي من اختراع النقاد في الحقيقية، لكن الفنانين التشكيلين لم يطلقوا على تجاربهم الفنية أي من تلك المسميات. وعلى سبيل المثال لم يطلق بيكاسو على تجربته في التكعيبية اسم “Cubism” لكن من أطلق هذا المسمى هم النقاد.
وأرى أن الجملة البصرية التي تشغل الفنان، هي التي تُشكل طريقة الأداء، وفي بعض الأحيان تحتاج الجملة البصرية التعامل مع المساحة واللون والخط، أو العناصر التشكيلية البحتة التي لا تحتوي على أشكال معينة، مثل الموسيقى الكلاسيكية لا تعبر عن أغنية ما، وهذا النوع يعبر عن انفعالات الفنان مع المحافظة على الهارموني الذي يحكم الأداء.
إذن أنت ضد التنميط وألا يكون للفنان خط واضح في أعماله الفنية؟
بالفعل هذا ما أقصده، فأنا ضد التنميط، ولا أفضل أن يكون لدي شكل أو طريقة واحدة فقط لأعمالي، بالرغم من وجود الكثير من الفنانين الذين يتبعون هذا النهج. بمعنى آخر يميل بعض الفنانين لأداء معين برعوا فيه، وهو ما يخلق النمط، واعتقد أن هذا الأداء يسجن الفنان ويحبسه في تلك المنطقة. وهذا يقضي على الحالة الإبداعية لدى الفنان ويقوضها، ويؤدي إلى خفت توهجها.
يرى البعض أن تخصص الفنان في منطقة معينة قد يجعله متفردًا.. ومن يرى أعماله يعرفها حتى دون أن يقرأ اسمه مثل أعمال الفنان محمود سعيد على سبيل المثال.. ما تعقيبك؟
بالفعل هناك الكثير يعتمدون على تلك الفكرة، وأن يُعرف الفنان بلمسة واضحة وخاصة به، مثل الفنان محمود سعيد- كما ذكرتي. وبالفعل من يحاول أن يقلد أسلوبه، على الفور يُقال عليه أنه يقلده. لكن محمود سعيد حالة خاصة للغاية، في الفن البصري المصري، وفي فن البورترية على وجه الخصوص. فقد كان يقوم باستحضار الحالة الشعبية بمكوناتها المختلفة. هو طاقة عاطفية وبصرية عارمة، ولم يقصد أن يضع نمط لأعماله، لكن طاقته العاطفية والتعبيرية هي من أخرجت ذلك، من خلال اللون ولمسات فرشاته.
يستخدم البعض مفهوم “فن ما بعد الحداثة” هل تلك الحداثة تتوافق مع رأيك في دمج الأساليب الفنية وعدم التنميط؟
بالرغم من أني أرفض المسميات، إلا أنه بالفعل أصبح مفهوم دارج، وإذا صح استخدامه فإنه يعبر اليوم عن فكرة الخروج من النمطية، ودمج جميع النظريات. فقد نجد مثلا التجريد مع الفن التصويري “Figurative”، وقد جاءت بعض لوحاتي بهذا الشكل. فأنا في لوحة تجريدية استخدمت أحد المراكب وأخرى كان هناك رجل وامرأة، وهنا لا يمكن تصنيف اللوحة على إنها تجريدية أو Figurative، وهو ما يحدث الآن لدى العديد من الفنانين الذين تجاوزوا فكرة التصنيف.
لك مقالات متعددة في مجال نقد الفن التشكيلي.. هل تفضل أن يكون الناقد للفن التشكيلي فنانا تشكيليا في الأساس أم لا؟
نعم، أفضل أن يكون الناقد للفنون التشكيلية فنانًا وبالتعبير الدارج “إيده في الصنعة”، واعتقد أنه إن لم يكن الناقد للفنون التشكيلية فنانًا، فلن يفهم أو يدرك على سبيل المثال طبيعة اللون ومكوناته وطبقاته. وهذا معناه أن الناقد الذي يعمل بالفن التشكيلي يدرك طبيعة اللون وكيف تكون، وهو ما حدث معي شخصيًا عندما كتبت مقالة عن الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن، أشرح فيها تجربته اللونية بمعرضه الأخير. لذا أرى أن الناقد الفنان أكثر نجاعة وفاعلية عن غيره.
حدثنا عن صفحة “من الصورة إلى النص” التي دشنتها على الفيسبوك؟
أنشأت الصفحة منذ ثلاثة أعوام، وكتبت فيها العديد من المقالات والملفات الخاصة بكبار الفنانين، وأنواع أخرى من الفن مثل الفن السوداني، فنون البيئة والطبيعة وغيرها، وكان السبب وراء إنشائها الوضع المذري الذي كان عليه النقد الفني، ولا أقصد أني الأهم في هذا المجال، بل أنا أحد المحاولين. فقد رأيت أن أغلب نقاد الفنون التشكيلية لديهم أزمة مع اللغة، وهو ما كان يجذبني للكتابة النقدية لتوضيحه.
فأنا لدي إشكاليات كثيرة من حيث مدركات اللغة، فهم غير قادرين على تصنيف واستخدام المصطلحات، ومدركاتهم اللغوية ليس بها تمكن. كما أن نقد الفنون التشكيلية في ثقافتنا العربية مر من خلال الأدب، وطوال الوقت كانت اللغة الأدبية هي المسيطرة والسائدة في نقد الفنون البصرية.
وهذا – من وجهة نظري- يؤدي إلى التعارض وإشكاليات الرؤى. حيث يقوم الناقد بشرح العمل الفني أدبيًا، وهذا قمة الخطأ فهذه لغة وتلك لغة أخرى مغايرة تمامًا. لأن الفن البصري لغة لا يمكن نقدها أدبيًا، وعلى الناقد اختيار المصطلحات المناسبة عند نقد الفن البصري. الذي يحتوي على الكثير من التفاصيل عكس القصة الأدبية على سبيل المثال، ويجب قراءة الإبصار من خلال الخبرة الفنية.
من خلال تجاربك في السفر للخارج.. هل يسهم ذلك في زيادة الرؤية البصرية للفنان أم تعتبره تشتيت وتفضل الاستقرار؟
أرى أنه من الهام والضروري جدا الخروج من السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد وخاصة الفنان. فقد سافرت وعشت في العديد من الدول، وأرى أن التجارب التي يكتسبها الفرد خارج سياقه الاجتماعي عن طريق السفر تتيح التعرف على الأشخاص والأماكن والثقافات والأفكار والعقائد المختلفة. هو ما يثري التجربة لدى الشخص، وذلك لأن البقاء ضمن سياق اجتماعي وثقافي واحد قد يسجن الفنان.
لكن مع تجارب سفرك الكثيرة ذكرت أنك متأثر للغاية بالفن المصري القديم.. فهل يرجع ذلك لأصولك المصرية؟ أم لأنها بالفعل حضارة تستحق الدراسة ويسهل التأثر بها؟
ليس هناك أدنى شك في أن الحضارة المصرية القديمة تستحق الاهتمام ويسهل التأثر بها، لأن ما حققته من فكر إنساني شيء مبهر. وهو ما نراه عندما نتعمق في دراستها، ويظهر ذلك على ما تركته من أثر عظيم كان بالفعل خلفه فكر أعظم.
وقد تأثرت بتلك الحضارة منذ دراستي بكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية. وبسبب طبيعة دراستي كنت أزور المعابد والمتاحف المختلفة في أماكن كثيرة في مصر، ومن خلال تكرار الزيارات أصبح التأثر جزءا مني، وعندما أتحدث عن تأثري بتلك الحضارة ليس معناه أن أعيد إنتاج الرسوم المصرية القديمة في أعمالي، بل يعني أنبي استخلص منها طاقة تضاف إلى أعمالي ويشعر بها المتلقي دون مصارحة مني بذلك. وأعيب على البعض استخدام موتيفات الفن المصري في لوحاتهم، مبررًا ذلك بأنه متأثر بالفن المصري. لأن هذا الفنان من وجهة نظري حبس نفسه في فن أكثر تفوقًا منه ولا يمكن مضاهاته.
من يتابع معرضك الأخير يرى سيطرة “اللون” على أغلب اللوحات، هل هذا متعمد أم صدفة؟
هذا حقيقي.. في معرضي الأخير اللون هو الأساسي في تأثيره. حيث يوجد اللون بمساحة كبيرة، وهو ما يجعله مسيطرا أثناء المشاهدة البصرية. وأرى أن المساحات اللونية الصريحة تعطي للموضوع الكثير من الأبعاد والعمق. كما أن اللون يمنح أي عنصر موجود داخل اللوحة بعدًا تعبيريًا قويًا وليس سهلا. فعندما أضع عنصرا ما في مساحة لونية كبيرة، يعطي نوع من الاتزان البصري. ويمنح العنصر قيمة عميقة تجعل المشاهد يتعمق أكثر مع العنصر ويسرح معه في كل ما يتضمنه من تفاصيل.
في عصر الصورة المرئية والتكنولوجيا هل يتأثر خيال الفنان؟
أرى أن المعرفة تفيد وتؤدي إلى اتساع نطاق دوائر الخيال داخل العقل. لأن ما تثيره هو في الأساس عمل عقلي. وأرى أيضًا أن الخيال الجامح هو الذي يؤدي إلى الإبداع والابتكار، لكن الإشكالية أن ثقافة العصر الذي نعيشه في ظل تلك التكنولوجيا الهائلة، قد تقوض وتحد من خيال الشخص، فكلما يفكر فيه يجده أمامه بصريًا لأننا في عصر تناقل الصورة.
واعتقد أن التكنولوجيا الحديثة ساعدت الفن، وخلقت شكل جديد للتعامل مع اللغة البصرية. وأنا لست ضدها وأرى أنها نقلت الفن من حالة إلى حالة أخرى. فقد كان الفن في البداية له وظيفة تجميلية في الأساس. لكن الآن وفي ظل تداول الصورة بشكل قوي، نجد الفنان تخلى عن تلك النظرة والوظيفة التجميلية. وأصبح الجمال الآن في ظل الحداثة داخل المحتوى أو المفهوم، كما أن هناك من يرى الجمال في القبح. لذا انتقلت الفكرة الجمالية من كونها منمقة شكلانية إلى قيمة أخرى وهي قيمة المفهوم. وأصبحت الفكرة داخل الموضوع البصري، والمفهوم هنا لا ينفصل عن الشكل.
هل تتفق مع مقولة الرسام الفرنسي موريس ديفليمانك «اللوحة الجيدة مثل الطبخة الجيدة، يمكن أن نتذوقها، ولكن لا يمكنك شرحها» ولماذا؟
لست معها، وأرى أن الفنان يجب أن يكون مدركًا لعمله الفني أو موضوعه البصري، ولماذا نفذه. قد تختلف الرؤى لدى المتلقي، ولا يمكن بالطبع تذوق العمل من خلال فكرة واحدة. لكن على الفنان أن يكون قادرًا على شرح عمله.
لك تجارب شعرية وأيضا أصدرت ديوان “ذات صباح نيئ”.. هل تتشابك اللغة الشعرية والبصرية لإنتاج عمل واحد؟
أرى أن اللغة البصرية واللغة الشعرية طاقتين مختلفتين تمامًا، فطاقة اللغة بحضورها الداخلي هي طاقة مستقلة، ولكن في بعض الأحيان قد يتلامسان، وتلتبس لدي اللغة البصرية واللغة الشعرية. وفي تلك اللحظة يخرج كلاهما النص والصورة.
ويحدث هذا عندما يكون الشعور بداخلي كثير ومتضارب وبه تفاصيل كثيرة. يحتاج للتعبير عنه بأكثر من وسيلة، والنص الشعري غير كافي. لذا يأتي بجانبه النص البصري، لكن ليس بشكل دائم. وهناك أوقات يكون تركيزي في التصوير وهو ما يجعلني لا استطيع الكتابة، وأغرق تمامًا بداخل الموضوع البصري.
من خلال خبرتك الفنية ومشاركتك في الحركة التشكيلية في مصر وكونك ناقد فني.. ما تقييمك للحركة فيما يخص الفن البصري في مصر؟
من خلال خبرتي الشخصية، أرى أنها حركة نشطة جدا، بالطبع بها العديد من المتغيرات وتلك المتغيرات هي جزء من المتغيرات التي تحدث في العالم. من حيث ظهور أساليب وأفكار جديدة خاصة لدى شباب الفنانين والموهوبين. وهذا يعطي الحركة التشكيلية البصرية الكثير من النشاط والتجديد ووجهات النظر المختلفة، بجانب التنافس الحاد المحمود.
ومن سلبيات الحركة التشكيلية في مصر، الاستهلاكية. فهناك قدر كبير من استهلاك العمل الفني، ولم يعد هناك فرز كبير للقيمة الفنية. وبالطبع يعود ذلك لمتطلبات السوق، وهناك العديد من الأعمال الفنية التي يسلط عليها الضوء وتحظى باهتمام إعلامي وشهرة كبيرة وتخص بالعرض جزءا كبيرا جدا منها، قيمته الفنية ضئيلة وضعيفة جدًا، لكن شكلها الجمالي مبهر.
وكما يقال أن “الفن ضمير المجتمع”، والمجتمع المصري نشط ومتغير. لذا أرى أن القيمة الفنية للعمل يجب أن تعبر عن وجهة نظر ومفهوم عميق لعلاقة الفن البصري بالمجتمع والحياة. وأن يكون الفنان متماس مع الحياة في المجتمع، لكننا نرى في بعض الأحيان أن الفن في معزل عن الحراك الاجتماعي والفكري في مصر، ويهتم فقط بالإبهار التجميلي. وهو شكل من أشكال الاستهلاك، ويأتي هنا سباق البيع والفكرة التجارية على حساب القيمة. وهنا يتسابق تجار الفن “الجاليريهات” التي تبيع الأعمال على اسم الفنان الذي يبيع أكثر، ويكون بالطبع هو محل اهتمامه. وبالرغم من أن تلك الفكرة التجارية موجودة في أماكن كثيرة من العالم، إلا أنها في مصر حادة الوتيرة، وذلك لكثافة الفنانين وإنتاجهم.
كما أعيب على أن الحركة الفنية مركزية للغاية “القاهرية”. ولابد أن تكون متنوعة ومتغيرة وتتواجد في العديد من الأماكن. لأن لكل مكان جماله وطعمه الخاص، لكن لدينا القاهرة هي المركز لكافة الفنانين، وهو ما ينتج أنماط متشابهة من الأعمال الفنية، وذلك حسب ما يفرضه المكان.
«أرض البشر» عنوان معرضك الجديد وهو أيضا عنوان رواية للكاتب الفرنسي “أنطوان دو سانت إكزوبيري” فهل تأثرت بتلك الرواية؟
معرضي “أرض البشر” هو رؤية موازية لرواية أرض البشر. فعندما قرأت تلك الرواية وجدت بها موضوع بصري، كان الكاتب يعمل طيارًا ينقل البريد من فرنسا إلى شمال إفريقيا وأسبانيا، وكان ينظر إلى الأرض والمجتمعات بشكل مختلف. يتعايش مع البشر ومجتمعاتهم، وكنت أرى طوال الوقت أثناء قراءتي للرواية أنني بالفعل في تلك الأماكن وأشاهد تلك العوالم. لم أشرح الكتاب، لكني خلقت نص بصري موازي للنص الأدبي “أرض البشر”.
وتنطلق فكرة معرضي الأساسية من أن طاقة الإنسان بالفعل مشحونة بالعديد من الأشياء والتفاصيل، وهي تفاصيل مضنية للأسف. إذ أنها لم تحل له شيء بل زادت من تعقيده، وفي رأيي الشخصي وهي الجملة التي يعنيها المعرض أن الإنسان كان لابد له أن يتفاعل مع الكائنات الأخرى، ويعطيها مساحة كي تشاركه هذا الوجود في الأرض، وتكون الأرض للبشر وللجميع. حيث إن الإنسان ليس هو البطل الذي تخرج منه جميع الأشياء وتعود إليه.
اقرأ أيضا:
حوار| الفنان التشكيلي عمر الفيومي: المقهى حياة اجتماعية متكاملة في مصر