هالة شكر الله تكتب: أخي العنيد، الصامت، المتأمل
منذ الصغر، عرفت عن هاني صفة التأمل، صامت بطبعه في صغره. كان قارئا نهما وعندما شب عرفنا عنه العناد – فكان سكوته لا ينم عن شخص منطو، ولكن مفكر يحدد طريقه بتأني ثم لا يحيد عنه بسهولة. هذا العناد أصبح سمة أساسية في كبره، فكانت قناعاته التي تشكلت عبر زمن، تقوده نحو طريق. وإن كان يتحلى بمراجعات، إلا أنه يتسم بالمثابرة والتمسك بالمشروعات التي بدأها والأفكار والمبادئ الذي تبناها منذ الصغر.
لا أبالغ إذا قلت إن هاني، إلى درجة كبيرة، حدد مصير عائلتنا. أتذكر عندما بلغ نحو 17 عاما وكانت العائلة تقيم في كندا مع والدي الذي كان يرأس مكتب الجامعة العربية هناك، وقررت أمي أننا سنذهب جميعا إلى الكنيسة لرؤية القس الزائر من مصر. وفجأة في ليلة من الليالي، أعلن هاني أنه لن يذهب معنا، لأنه قرر أنه غير مقتنع بالذهاب. بالطبع انهارت أمي ولكن أبي قال لها اتركيه يحدد ما يؤمن به وحده.
**
انخرط هاني منذ البداية في القضية الفلسطينية التي كانت مستحوذة علينا جميعا في أواخر الستينات ومع أخي علاء. كانا يذهبان إلى كل المسيرات التي كانت تنظم للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وكثيرا ما كان يتحدث في هذه المناسبات.
مع بداية انخراطه في العمل السياسي، حدد الماركسية كمرجعية أساسية له والتضامن مع حركات التحرر في العالم وحركة السود في أمريكا، بما في ذلك الفهود السود (black panthers). وقد التقى في إحدى المرات بأنجيلا ديفيز (Angela Davies) الناشطة الشهيرة، التي كانت من أشهر المتحدثين باسمهم لكي يدعو أحدهم للتحدث في أحد المؤتمرات للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وكانت لحظة يذكرنا بها دائما وطالما كان يتحاكى بها وهو يضحك بزهو لنا ولأولاده.
ولا يمكن أن يسهو عني هنا ذكر كيف أصر في إحدى السنوات أن يذهب هو وعلاء إلى كوبا، عندما دعا كاسترو، رئيس كوبا آنذاك إلى حصاد مليون عود قصب، لمساعدة بلده من الخروج من الحصار الاقتصادي. ودعا شعوب العالم للتضامن معهم في ذلك، فهرع الكثير من شباب العالم للمساندة. وكان هاني وعلاء من ضمنهم.
**
عدنا إلى مصر في 1970 والتحق هاني وعلاء بالجامعة، وكنت لا أزال في المدرسة. علاء إلى طب “عين شمس” وهاني إلى سياسة واقتصاد “القاهرة”. وكان من الطبيعي أن ينخرطا كلاهما في الحركة الطلابية، حركة السبعينات. وكما قلت سابقا، قد حدد هذا الطريق مسار حياة أسرتنا كلها، بما في ذلك أبي وأمي وأنا.
في يناير 1972 أتى زوار الفجر إلى منزلنا لكي يعتقلوا هاني وعلاء. وقد تصدت لهم أمي بعنف وهربتهما إلى خارج المنزل بصنعة لطافة، ليعودا إلى اعتصام جامعاتهم.
أما عن السنوات الطويلة اللاحقة لهاني إلى أن قرر الرحيل عنا، فقد كانت حافلة بالكفاح والنقاشات والصداقات الحميمة والحب والعمل. فلم يكف إلى آخر لحظة عن الكتابة في الصحافة، بل عن تأسيس صفحات وجرائد تفتح الباب للتفكير والتأمل فيما يعتقد أنها بديهيات، بل يستدعي التصادم مع هذه البديهيات مع الحفاظ على مبادئ العدالة والحرية. وقد كانت آخر هذه الأعمال موقع «بالأحمر» الذي أسسه بعد أن ضاقت به الجرائد المعروفة والتي ساهم في تأسيس صفحاتها والتأثير في جيل من الصحفيين الشباب.
لقد ترك هاني وراءه إرثا غنيا من الكتابة والأفكار وبعضا من المشروعات التي لم تكتمل ولكنها تنتظر من يماثله في الدأب والإصرار والعناد في الوصول لشيء من الحقيقة التي نسعى لها جميعا. لقد رحل عنا باكرا جدا، لكن ما تركه وراءه سيظل حي يحمل شخصيته الثرية التي نفتقدها في كل لحظة.