باسل رمسيس يكتب: هاني شكر الله بين لحظتين
«فليستمروا في توجيه ضرباتهم، وإن لم نستطع ردها، فلنحاول على الأقل ألا نقع، وألا نعطيهم متعة أن يعرفوا أنهم يؤلموننا».
هذه العبارة/النصيحة قالها لي هاني شكر الله، بينما كنا نأكل ونشرب البيرة، في محلٍ ضيقٍ بإضاءةٍ خافتة، نهايات 1995. وضعتها بالعربية الفصحى لسببين، الأول هو أنني لا أتذكرها حرفيًا كما قيلت بالعامية المصرية، والثاني هو محاولة الاحتفاظ بقدر من أناقة لغة هاني.
أيامها، كنت أمرّ بأزمةٍ شخصية/سياسية. إذ لم يكن لدي في ذلك الزمن، مثل كثيرين مرتبطين بالعمل السياسي المباشر، حدودًا تفصل بين المساحتين، الشخصية والسياسية.حكيت لهاني عن هذه الأزمة، وكيف كنت أراها حينها باعتبارها حملةً ضدي، يشارك فيها بعضٌ من كنت أراهم قبلها بشهورٍ قليلة من أقرب الأشخاص إلي.
**
استمع هاني طويلًا دون أية مقاطعة، بتركيزٍ بالغٍ كعادته، وبنظرته المباشرة لعين محدثة. وحين انتهيت، حكي لي مشهدًا عاشه واختتمه بهذه العبارة/النصيحة: كان في لبنان خلال الحرب الأهلية، نهاية السبعينيات أو مطلع الثمانينيات، لا أتذكر. استقل عربة أجرة، في الطريق وقعت مشادة بين سائق العربة التي يستقلها هاني، وسائق سيارة أخرى. قطعت السيارة الأخرى الطريق، ونزل منها مجموعة من الشباب المنتمين لأحد الميليشيات المتحاربة، أنزلوا السائق، تجمعوا عليه، أوقعوه أرضا، وبدأوا حفلة ضربٍ جماعيةً له.
نزل هاني من العربة ليدافع عن السائق، سحبوه جانبًا. وجه أحدهم مسدسه إلى رأسه، مثبتًا فوهته على جلد جبهته، وبيده الأخرى يوجه اللكمات لوجه هاني، محطمًا نظارته. لم يستطع أن يرد الضربات، أو أن يدافع عن نفسه، بسبب المسدس الموجه للرأس. اكتفى بنظرة احتقار ثابتة نحو عين خصمه.
قال هاني جملته تلك حين كان في منتصف العقد الخامس من عمره، وأنا في بداية العقد الثالث. وأتذكر جيدًا أنها كانت من بين اللحظات التي أفكر خلالها بينما أتأمله: “حين أكبر أريد أن أصبح هاني شكر الله”. وهي الفكرة التي كانت تراودني أحيانًا بجدية، وأحيانًا بمرح.
**
نحن الآن في عامي 1994 و1995. كان هاني شكر الله وقتها الأقرب إلي من الأجيال اليسارية الأقدم من جيلي. نتقابل كثيرا، وفي بعض الفترات بوتيرةٍ يومية. عملنا سويا لفترة قصيرة، أنا كصحفي مبتدأ بالقطعة، وهو كمدير تحرير لجريدة “الأهرام ويكلي” الإنجليزية. وكنا وقتها في التنظيم الشيوعي السري نفسه، “حزب العمال الموحد”. أو للدقة كنت أنا من القواعد، وهو من قياداته ومؤسسيه. باختصار كان بيننا صداقةٌ عابرةٌ للأجيال. أعتقد الآن أنها كانت مبنيةُ على اهتمامنا بالأشياء نفسها، السياسية، الماركسية، الثورة، السجائر، الويسكي، النساء، ولاحقًا كوبا.
لكن هذه الصداقة كانت تستند على أساس أقوى من مجرد الاشتراك في حب هذه الأشياء والاهتمام بها؛ وهو ما كان هاني يمنحه للآخرين بتلقائيته، دون أن يتخذ قرارًا بمنحه لهم: روحه الشابة والمحبة للحياة والمتمسكة بها، التي لم يفقدها قط، والندية في تفاعله مع الآخرين حتى وإن صغروه بعقود.
قليلون من جيل السبعينيات اليساري، جيل هاني، من كانوا يتفاعلون ويتواصلون حقيقةً مع جيلنا من الطلاب، مطلع التسعينيات. ولم تخرج أغلب حالات التفاعل عن سياق حلقات التنظيمات السرية. ولم تصل أغلبها لمساحات تفاعل إنسانيّ وحميميّ حقيقي. عدا استثناءات قليلة، من ضمنها العلاقات التي يكون هاني أحد أطرافها، مؤسسًا علاقاته مع الآخرين دون أية أستاذية، أو أوهام قيادية، أو تصورات حول امتلاكه الحكمة، أو حتى تراتبية معرفية مبررة بالطبع.
كان يستمتع حين تربطه علاقاتٌ بمن يصغرونه. وكان بإمكان المحيطين به أن يلاحظوا بسهولةٍ أنه يتعامل مع أجيال مختلفة، سابقة ولاحقة على جيله، بنفس الطريقة والروح. لقد كان فعلًا محترفًا للحياة وللمرح وللعب. ولم يجد أي تعارضٍ بين الأفكار الكبرى التي كان يفهمها بعمق. وله مواقفه منها وتحليلاته النظرية حولها، وبين بناء علاقات تقوم على ما هو أبسط من ذلك بكثير.
**
تركت حزب الشعب الاشتراكي المصري، ودخلت حزب العمال الموحد لعدة أسباب، من ضمنها وجود هاني به. لكنني لم أدخله من بوابة هاني. بل أنه فوجئ بأنني انتمى لتنظيمه الذي شارك في تأسيسه بداية السبعينيات، ولم يتركه وصولًا لتحلله التدريجي في حقبة الألفين. أو كما قال أمامي قبل وفاته بشهور قليلة “فضلت للآخر خالص وأخدت الباب ورايا”. أخبرته بدخولي الحزب في صيف 1994، اصطنع المفاجأة للحظات. ثم ضحك بصخب، ليخبرني بأنه كان يعرف، ويسبني مداعبًا لأنني لم أخبره من قبل.
كان اسمي الحركي في حزب العمال الموحد “راوي”. واكتشفت بينما أحمل هذا الاسم مفارقةَ أن الاسم الحركي السابق لهاني شكر الله في حزب “العمال الشيوعي المصري”، قبل توحده في عام 1989 مع حزب “8 يناير الشيوعي المصري”، ليصبح “حزب العمال الموحد”. كان “أنطون مارون“، تمجيدا للسوري/اللبناني، أول شهداء الحركة الشيوعية المصرية في عهد حكومة سعد زغول، وتحديدًا في عام 1924. و”أنطون مارون” هو نفس الاسم الحركي الذي حمله أبي في تنظيم “طليعة الشيوعيين” حتى اعتقاله عام 1962.
ومثلما كان هاني شكر الله هو أحد أسباب دخولي للحزب. كان من ضمن أسباب خروجي منه بداية 1996. ومرة أخرى لم يكن الخروج من بوابته، بل كان في أحد جوانبه مهربًا كي لا تتخرب علاقتي به.
**
انقطعت علاقتنا من وقتها حتى 2015، حين التقينا في أحد حارات السيدة زينب، في طريقنا لدفن صديقه وزميله في تأسيس الحزب “صلاح العمروسي”. كان يمشي متمهلًا، مستندًا على ذراعي، ويتنفس بصعوبة. لكن في لحظة استناده على ذراعي، تنبهت إلى أن عشرين سنة قد مضت. وأنه في 1994 كان في مثل عمري لحظة 2015، لكنه كان هاني شكر الله نفسه، وكأن عشرين سنة لم تمر، إن استثنينا التعب الجسدي. وهنا عادت علاقتنا من جديد.
يحكي هاني عن نهاية عقد الستينيات، حين كانت عائلته تقيم بشكل مؤقت في الولايات المتحدة، فيذهب مع أخيه علاء إلى كوبا للتطوع لمساعدة الشعب الكوبي في موسم تقطيع القصب. كي يحقق النظام الثوري أحد تحدياته الهامة بضرب الأرقام القياسية في حجم المحصول السنوي، المحصول الرئيسي بالإضافة للتبغ، الذي تصدّره كوبا للخارج، وتحصل مقابله على سلع أخرى.
نسيت تفاصيل ما حكاه عن هذه الزيارة، ولم أتذكرها سوى بعد تواصلنا من جديد فجأة. في مدريد في أكتوبر 2016، حين سألته إن كنت قد حكيت له سابقًا عن أنني أذهب إلى كوبا على الأقل مرة سنويًا. فأرجع السؤال إلي بسؤال آخر عن الأسباب التي جعلتنا نبتعد. أجبته، حكيت له كيف عشت هذه الأجواء المحيطة بالعمل السياسي المباشر في نهايات 1995 وبدايات 1996، بينما ابتعد.
وحكيت له للمرة الأولى عن شيء ما اكتشفته بالصدفة أيامها، وكانت مسألة تخصه وتخصني. وكنت أفضل أن يحكيها هو لي، لا أن اكتشفها صدفة من آخرين. كان هاني من القليلين القادرين أن ينظروا إلى وجهك ليعتذروا بصدق. وهنا أحسست بصفاء وراحة. وكأن شيئًا لم يحدث.
**
حين كان هاني يحكي حكاية فيها جانب ساخر أو مضحك أو طريف، كان لا يتوقف عن الضحك والسعال بينما يحكيها، ومنذ بدايتها. كانت ضحكته معدية. فنبدأ في الضحك معه قبل أن يُنهي الحكاية، وقبل أن نعرف على ماذا نضحك تحديدًا.
أتى هاني إلى مدريد كي يلقي محاضرةً في البيت العربي، عن حال الصحافة المصرية بعد الثورة. وبينما كنا ندخن خارج القاعة قبل المحاضرة. اقترب منا أحد الدبلوماسيين العاملين في السفارة المصرية في مدريد ليرحب بهاني، وليعاتبه لأنه لم يخبرهم بمجيئه. وحين بدأت المحاضرة جلس الدبلوماسي في الصف الأول، ولم يتوقف عن تدوين كل ما قاله هاني. كأنه – ولندع تعبير الاحتمال المتمثل في “كأنه” كما هو – سيقدم تقريرًا لجهة ما عن كل ما يقوله “السيد شكر الله” في محاضرته.
لم نتوقف بعدها عن اختلاق النكات، والضحك على هذه التقارير المعلنة، المكتوبة من الصف الأول في قاعة مزدحمة. عن تدهور المستوى وتراجعه عبر السنين. عن هذا البالطو الطويل والجريدة المثقوبة المندثران عبر الزمن، اللذين يميزان نمط المخبر التقليدي في عالم السينما المصرية.
وبينما كنا نضحك اقترب منا النادل المغربي، بعد اكتشافه أننا مصريين، ليسألنا عن المشروب الذي نريده كي يدعونا إليه. أجبته دون تردد “ويسكي”، فهو من الأشياء التي تجمعني محبتها بهاني. ليضيف هاني ملاحظةً تلقائية وبلهجة مثقفةٍ وراقية: “ويسكي جيد من فضلك”.
خلال سنواته الأخيرة كان هاني يطلب مني مع كل زيارة جديدة أقوم بها إلى كوبا أن أحضر له سيجارًا كوبيًا. على الرغم من صحته المتدهورة، وعلى الرغم من ضرورة توقفه عن التدخين. بينما نضحك سويًا من أن الاشتراكية الكوبية لم تغفل توزيع السيجار الفاخر على المواطنين، ببطاقة التموين. نضحك أيضًا على سعاله مدخنًا في كافيتريا المستشفى التي يهرب إليها لتدخين سجائره. نضحك على رشفات الويسكي التي يهربها أحد أقرب أصدقاءه إليه في المستشفى. وكأن هذه التفاصيل الصغيرة، وتمسكه بها وبقدرته على القراءة والتفكير. هي ما تبقي له لإشهار تمسكه بالحياة والمتعة إلى أخر لحظة، الحياة كما أحبَّ أن يعيشها. بينما اتطلع إليه منبهرًا. مرددًا في داخلي ما رددته قبلها بأكثر من عشرين سنة؛ “حين أكبر أريد أن أصبح هاني شكر الله”.