استبحار المدينة.. مأزق التأريخ لضواحي القاهرة
الحلم؛ ذلك الذي يراود جميع عشاق القاهرة والمهتمين بتاريخها وآثارها وتراثها، يتلخص في كتابة كتاب يحيط بكل هذه الأشياء. في عمل خططي يقترب من مستوى عمل المقريزي الأشهر؛ (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار). لكنه حلم دونه خرط القتاد، فالقاهرة لها من اسمها نصيب، تقهر أحلام محبيها، فما أبعد المضي على خطى المقريزي مؤرخها الأشهر. فكتابة عمل خططي يرصد التفاصيل الدقيقة للمدينة في وضعها الحالي أمر في غاية الصعوبة، بل هو أمر يقترب من المستحيلات أمام أي شخص. فهل يمكن لشخص واحد أن يؤرخ لهذه المدينة التي تحولت إلى إقليم عمراني كامل بين مدينة أكتوبر غربا والعاصمة الإدارية شرقا؟ وكيف يمكن أن نؤرخ للمدينة في لحظة انفجارها العمراني وامتدادها في ضواحي لا نهائية؟ نحن أمام مأزق تأريخي، لكن كيف نتغلب عليه؟ يبدو أن هذا هو السؤال!
**
عندما كتب المقريزي (توفى سنة 845هـ/ 1442م)، كتابه الأشهر، ركز على القاهرة الفاطمية. أي المدينة المسورة، وضواحيها، أي الأحياء التي أقيمت خارج الأسوار. هذا المشروع الطموح أنتج واحدا من أهم الكتب وأكثرها إبداعا في موضوع طبوغرافية المدن على مستوى العالم وقتذاك. واهتم المقريزي برصد الكثير من المنشآت المدينية مثل الجوامع والمساجد والمدارس والأسبلة والخانقاوات والمارستانات والأربطة والأديرة والكنائس المسيحية واليهودية. فضلا عن أسماء الحارات والأخطاط والدروب والأزقة والخوخ وما بها من معالم ومنازل شهيرة. ورغم هذا المجهود الجبار لإحصاء معالم القاهرة إلا أن المقريزي لم يستطع تقديم إحصاء كامل لكل معالم المدينة. فهناك الكثير من الأشياء التي لم يذكرها، وهذا أمر طبيعي نظرا لطبيعة المادة الضخمة التي كان على المقريزي أن يتعامل معها.
وإذا كان المقريزي لم يستطع أن يحيط بكل معالم المدينة، رغم تقديمه لكتاب خططي قدم صورة واضحة عن مجمل المدينة، فكيف سيكون الحال عندما نطمح إلى كتابة كتاب عن القاهرة المعاصرة بنفس الروح المقريزية؟ في الواقع هناك شبه استحالة لكتابة كتاب على نفس نهج الخطط. أي رصد غالبية معالم المدينة في تفاصيلها الدقيقة، لأن المدينة التي أرخ لها المقريزي كانت جد صغيرة مقارنة بالقاهرة الحالية. وهنا نستخدم مصطلحا خلدونيا وهو “استبحار العمران” لوصف وضع القاهرة الكبرى التي تحولت إلى إقليم مترامي الأطراف يمتد من ضاحية أكتوبر غربا إلى العاصمة الإدارية شرقًا، والخانكة شمالا إلى التبين والبدرشين جنوبًا. فهل يمكن أن نطمح بوجود أرشيف كامل أو يطمح للكمال يختص بذكر شوارع القاهرة وكل ما فيه ويرصد تغيراته وتحولاته؟
**
سأكتفي بمقارنة سريعة هنا؛ القاهرة الفاطمية أي المدينة التي يحيط بها الأسوار الفاطمية والممتدة من باب زويلة جنوبا حتى باب الفتوح شمالا. تبلغ مساحتها الإجمالية نحو 340 فدانا. بينما تبلغ مساحة مدينة الشيخ زايد الإجمالية 10 آلاف فدان. أي أن مدينة الشيخ زايد تبلغ 34 ضعف مساحة القاهرة الفاطمية التي خصص لها المقريزي أكثر من نصف كتابه عن الخطط. بينما تبلغ مساحة العاصمة الإدارية الجديدة 170 ألف فدان! مع هذه المساحات الضخمة والمترامية للضواحي التي تلتحم مع الوقت مع النسيج العمراني لإقليم القاهرة. نصل إلى نتيجة مفادها أنها مدينة لا يمكن التأريخ لها من قبل شخص واحد ولا يستطيع فرد واحد أن يمسك بجميع تفاصيلها.
في ضوء استبحار العمران القاهري، فإمكانية دراسة القاهرة بالشكل الخططي المعتاد قديما غير ممكنة إلا في إطار تقسيم القاهرة الكبرى إلى شرائح. يتوافر على دراستها وتوثيق معالمها مجموعة من الباحثين من مختلف التخصصات سواء من جهة المعاصرة أو من جهة التاريخ القديم. ثم يعاد بناء هذه الدراسات التي تعتمد على أعمال إدارية رسمية تتعلق بتنظيم المدينة وشق طرقها وتقسيم أحيائها.. إلخ في عمل تركيبي شامل. وهو أمر كما ترى يحتاج إرادة دولة غير متوفرة الآن وقد لا تتوفر أبدًا. أو دعم ضخم قد يتوافر أو لا يتوافر. والممكن الآخر في تأريخ المدينة هو المنهج الذي ينظر إلى المدينة من أعلى ويتحدث عن تطورها بشكل أفقي سريع دون الدخول في تفاصيلها. ويرصد تحولاتها في إطار التطور العمراني ونشأة أحياء جديدة لمواكبة تغيرات اقتصادية واجتماعية حاسمة دون التورط في ذكر التفاصيل الدقيقة للمدينة.
من حسن الحظ أن لدينا بعض التجارب التي يمكن البناء عليها. ففي فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر (1954-1970م)، أنتجت الجمعية المصرية للدراسات الاجتماعية بتكليف من وزارة الشؤون الاجتماعية سلسلة دراسات عن أحياء القاهرة المختلفة. كل كتاب مختص بحي بعينه، مثل باب الشعرية والساحل وحلوان والجمالية وشبرا وبولاق والسيدة زينب. ويركز كل كتاب على تاريخ الحي وتركيبته السكانية، ويرصد مؤسساته الدينية والتعليمية والاجتماعية والصحية والاقتصادية. وهي معلومات على غاية الأهمية عند التأريخ يوما لهذه الأحياء والقاهرة ككل. وهناك تجربة أحدث يقوم عليها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، تحت عنوان (ذاكرة المدينة) والمعنية بتاريخ الأحياء القاهرية. وصدر منها كتاب عن حي جاردن سيتي وآخر عن حي الزمالك.
**
الملاحظ في التجربتين أنهما نتيجة عمل جماعي. فالعمل الفردي في التأريخ لتفاصيل حي واحد يحتاج إلى تضافر جهود من متخصصين متعددي المشارب، فما بالك بالتأريخ للمدينة كلها. كما أن الملاحظ أن معظم الجهود الفردية أو الجماعية تركز على الأحياء القديمة في المدينة. ربما بتأثير من حضور المقريزي الطاغي، أو لتوفر المادة التي يمكن البناء عليها، لكن لا أحد يتابع تطور الضواحي -بما في ذلك الكمبوندات- التابعة للقاهرة. ففي حين هناك اهتمام بتاريخ مصر الجديدة (هليوبوليس) لا نجد مثل هكذا اهتمام بالتأريخ لمدينة نصر أو التجمع. على الرغم من الأحياء الأخيرة يمكن رصد تطورها العمراني والتاريخي بحكم المعاصرة والمعايشة. لكن هذا غير حاصل لذا لا نجد الكتب التي تتحدث عن تحولات مدينة مثل القاهرة في العقود الأخيرة بالتفصيل، ربما لأن البعض يخشى من المساءلة السياسية!
على كل حال، لم يعد من الممكن لشخص واحد أن ينتج دراسة خططية عن مدينة القاهرة بوضعها الحالي. فلا مفر إذن من العمل الجماعي القائم على رصد معالم المدينة. خصوصا في الضواحي دون استعلاء أو مواقف أخلاقية أو طبقية من بعض التحولات الجارية. فالمهمة ثقيلة ولا يمكن أن يضطلع بها إلا مركز ضخم لديه تمويل مستمر ودعم حكومي مع استقلالية تامة. يضم مجموعة من الباحثين في مجالات التاريخ والتراث والتوثيق الحضاري والتخطيط العمراني والدراسات الاجتماعية وغيرها من التخصصات التي يحتاجها مشروع طموح يحاول التأريخ وأرشفة كل ما له علاقة بهذا الكيان العمراني الضخم والمستبحر والمسمى اختصارًا بـ القاهرة.
**
يحتاج مثل هكذا مشروع إلى إتاحة الأرشيف الخاص بالمدينة وضواحيها. في كل تفاصيلها سواء تراخيص البناء والهدم، أو خطط شبكات الصرف، أو مسارات وسائل النقل المختلفة، والتخطيط الأصلي للأحياء لمتابعة كيف تحولت ووصلت إلى وضعها الحالي. هي مهمة شاقة جدا، والمعلومات المتوفرة عند هيئة المساحة. وستواجه بمشكلة أزلية تتعلق بالرفض الحكومي بالتعاون في مثل هكذا موضوعات، وإغلاق الأبواب على الأرشيف بكل أنواعه. لذا ستظل فكرة التأريخ للضواحي باعتباره الجزء الأحدث من القاهرة والأكثر تحولا وتفاعلا في خانة اللا مفكر فيه. وسنعود بعد عقود لنردد أنصاف معلومات وأنصاف أساطير عن أحياء وضواحي لم يتم التأريخ لها منذ البداية بشكل جيد وواضح. يوثق كل شيء في هذه الأحياء منذ بدايتها حتى اللحظة الراهنة. هي أزمة كاشفة إذن لحجم المأزق الذي نعيشه عندما يغيب الأرشيف المتكامل عن أعيننا!
اقرأ أيضا
التطوير.. كلمة سيئة السمعة في قاموس القاهرة