«تحت الوصاية».. سر العظمة!
لا يوجد في تاريخ الدراما التليفزيونية المصرية ما يشبه «تحت الوصاية». واختلافه لا يأتي فقط من جودته، ولكن أيضا بفضل أصالته وقدرته على التأثير. وفوق ذلك سبب سحري آخر يصعب الإمساك به أو تفسيره.
مواقع أحداث المسلسل، بين الإسكندرية ودمياط والبحر بينهما، جديدة وغير مألوفة للعين، وأداء الممثلين بارع. وكذلك تصويره ومونتاجه وموسيقاه وديكوراته وملابسه وإخراجه بشكل عام. إلا أننا، حين ننظر إلى كل عنصر على حدة يمكن أن نجد أعمالا سابقة يتوفر فيها بعضا من جودة هذه العناصر أو أفضل منها. ومعظم المواهب التي شاركت في صنع «تحت الوصاية» عملت في مسلسلات أخرى، وقدمت أحيانا إنجازا مماثلا أو أكبر.
سيناريو محكم ومكتمل
قد يكون الفارق أن الأعمال التي تتكامل فيها العناصر الفنية وتتضافر معا بتناسق وتناغم مثلما حدث في «تحت الوصاية» هي استثناءات نادرة.
دائما هناك نص معيوب، أو ممثل رئيسي أو ثانوي ضعيف، أو تصوير غير مناسب، أو مشاهد مترهلة الايقاع، أو ديكور أو ملابس أو موسيقى تصويرية نشاز،.خاصة في أعمال رمضان، التي تعاني من ضغط الوقت الشديد، واستحالة الإتقان والتجويد.
فكرة «تحت الوصاية»، القوانين الظالمة للمرأة، ليست جديدة، وإن كان موضوع “الوصاية” على أموال اليتامى جديدا. ولكن الموضوع ليس بالتأكيد سر تميز المسلسل. قد يكون توفر كل مقومات السيناريو الجيد: الفكرة، القصة، الحبكة، الشخصيات، الحوار، والأهم من ذلك الحركة والصراع ووجود أحداث تلاحق بعضها بعضا، وتدفع بالدراما إلى الأمام. لا إطناب ممل، أو اختزال مخل، كل شئ في مكانه كما يقول الكتاب.
لا خطب عصماء
يخلو «تحت الوصاية» من عيوب الدراما المصرية المزمنة. لا خطب عصماء أو ثرثرة بليدة، أو بكائيات، لا أشرار في المطلق، أو أخيار على طول الخط. ولا يوجد تقريبا ما يمكن الاستغناء عنه، أو ما يمكن أن نصفه بأنه زائد عن الحد (باستثناء خط فرعي واحد أرى أنه نغمة مرتفعة بزيادة عن بقية العمل، وهو sequence (مجموعة مشاهد) محاولة اعتداء أحد البحارة على حنان (منى زكي) وطعنها له وقيامه بابتزازها مقابل عدم الابلاغ عنها. فهو أقرب إلى “كليشيهات” الأفلام منه إلى واقعية العمل وسرده الهادئ والمنطقي).
باستثناء هذه الملحوظة، يتسم سيناريو «تحت الوصاية» بالعظمة. ينسى الكثير من الكتاب أن الدراما تعني الصراع وأن الصور المتحركة تعني الحركة وأن القصة ليست هي المضمون. وإنما فن الحكي، والقدرة على جذب عقول، وسلب حواس وأفئدة، المتلقين، وكلها عناصر تتوفر بغزارة في سيناريو «تحت الوصاية» المشوق كأفضل أفلام التشويق، والمخيف كأفضل أفلام الرعب، والواقعي كأفضل أعمال الدراما الاجتماعية.
ولكن هل يكمن سر «تحت الوصاية» في السيناريو الجيد فقط؟ نعرف جيدا كم من نصوص ممتازة أفسدها مخرج ضعيف أو نجم مغرور أو منتج جاهل، أو كل ذلك معا. في «تحت الوصاية» ترفع العناصر الفنية الأخرى من شأن السيناريو وتنقله إلى مصاف آخر. حيث جمال الفن الخالص، والمتعة الصافية، الناتجة عن تضافر هذه العناصر وتناغمها.
التمثيل بالجوارح
الممثلون الذين عملوا في «تحت الوصاية» سبق لهم العمل في أفلام ومسلسلات أخرى. منى زكي أولهم، واحدة من النجمات المعدودات في مصر. قدمت أعمالا كثيرة، بعضها ناجح، ومعظمها متوسطة، لكن موهبتها ليست محل نقاش. موهبة أكبر من الفرص التي حصلت عليها، ظلمتها ظروف السينما المصرية واختياراتها، وحوصرت في أدوار أقل من امكانياتها بكثير. لكن منى زكي هنا تطلق العنان لموهبتها، وتحشد كل أدواتها وجوارحها لخدمة الشخصية، وليس النجومية.
لن أتحدث عن الماكياج والملابس وطريقة الحديث، ولكن انظر مثلا إلى الطريقة التي تسير بها، تتخبط قدماها، وتخبط الهواء بكتفها، مثل كثير من السيدات الشعبيات اللواتي يتحدثن ويتحركن كما لو كن يدافعن عن أنفسهن ويدفعن عنهن عالما معاديا. وهي أداة لا أعتقد أنها استخدمتها من قبل، ونادر من الممثلين المصريين من يستخدمها أو يدركها. أنظر إلى أنماط وأداء أدوار النساء الشعبيات في مسلسلات غادة عبدالرازق وروجينا وحنان مطاوع، لتعرف الفرق.
ما قلته عن أداء منى زكي في «تحت الوصاية» ينطبق على بقية ممثلي المسلسل. معظمهم شارك من قبل في أعمال أخرى بعضها ناجحة: رشدي الشامي في “واحة الغروب”. مثلا، علي صبحي في فيلم «علي معزة وإبراهيم»، محمد عبدالعظيم وأحمد خالد صالح وخالد كمال ودياب وأحمد عبدالحميد شاركوا في العديد من الأدوار الجيدة في مسلسلات جيدة.
مع ذلك تظل أدوارهم في «تحت الوصاية» مختلفة ومميزة. إذ يؤدون أداءا طبيعيا أقرب إلى المعايشة منه إلى التمثيل. وما يؤكد أن المسألة ليست متعلقة فقط بمدى احترافية الممثلين. هو أداء الصبي عمر شريف الذي يلعب دور الابن ياسين. أداء لا ينتج إلا من خلال مخرج وفريق عمل وموقع تصوير مختلف، تسوده الجدية والحب والاندماج.
إخراج عالمي
كان الأديب الراحل يحيى الطاهر عبدالله يقول إن معظم الأدباء يستمدون مادتهم من الأعمال الأدبية الأخرى. بينما يسعى هو إلى الأخذ من الواقع. وإلى حد كبير ينطبق هذا على «تحت الوصاية» الذي يبدو فيه واضحا أن صناعه (بداية من السيناريو إلى تصميم الملابس) قاموا بمعايشة الأماكن والناس الحقيقيين، والأخذ منهم.
على أية حال، كما ذكرت، هناك أعمال أخرى تحتوي على عناصر تمثيلية وفنية عظيمة. فما الذي يجعل “تحت الوصاية” مختلفا؟ هل هو المخرج؟
الغريب أن أعمال مخرج المسلسل محمد شاكر خضير متوسطة وفي أفضل الأحوال جيدة. من البرنامج الديني الدرامي «طريق الشيطان»، إلى مسلسل «طريقي». ثم «جراند أوتيل» و«لا تطفئ الشمس»، و«في كل أسبوع يوم جمعة»، نهاية بفيلم «واحد تاني». ولعل أفضل أعماله كمخرج حلقة بعنوان «أول امبارح» في مسلسل «نمرة اتنين». لكن محمد شاكر خضير يبدو مختلفا تماما في «تحت الوصاية». كأنما نام ذات ليلة واستيقظ مخرجا عالمي المستوى! من مشاهد الحوار، إلى مشاهد الحركة والمطاردات والمعارك، إلى مشاهد البحر والطبيعة وسوق السمك. لا يكاد يوجد غلطة، أو لقطة في غير محلها، أو تعبير وجه، أو لفظ ينطق بشكل غير مناسب. شاهد معركة المركب التي تنتهي بها الحلقة الثالثة عشر، مثلا، حاجة في منتهى الابتكار والإتقان.
تحدي حنان.. ومنى!
مرة أخرى، ما هو المختلف في «تحت الوصاية» وحفز مخرجه وصناعه وممثليه إلى بذل جهد وتجويد قلما نراه في الأعمال المصرية؟ ربما يحتاج الأمر إلى تحقيق صحفي معهم لمحاولة معرفة السر.
ربما يكون التحدي الذي وضعه صناع العمل لأنفسهم، وعلى رأسهم منى زكي التي تعرضت لظلم بين وحملات تشهير وقحة بسبب دورها في فيلم «أصحاب ولا أعز». وهو موقف يشبه إلى حد كبير ما عانته بطلة العمل من استهانة ومهانة، فاستنفر داخلها كل قواها الكامنة.
ربما زاد من هذا التحدي الموقع المميز للأحداث على سواحل دمياط. وانتقال فريق العمل إلى هناك للمعاينة والإقامة والتصوير، واستغراقهم في هذا العالم ومفرداته وهواءه وأسماكه وجمبرييه.
يتصور البعض أن المكان في السينما والدراما التليفزيونية مجرد ورق حائط يوضع في خلفية الممثلين. وكثير من الأعمال تستخدم المكان كورق حائط، وفي وقت ما كانت مسلسلات الفيديو وبعض الأفلام تستخدم بالفعل ورق الحائط لوضعه في الخلفية!
لكن المكان هو أحد العناصر الأساسية للفن السينمائي يميزه عن المسرح ومسلسلات الـ”سيت كوم” والفيديو القديمة. حين يحسن اختياره وتوظيفه ينقل العمل إلى مستوى ومرتبة أخرى. والمكان في «تحت الوصاية» ليس مكملا للحكاية أو الدراما، بل يكاد يكون هو الحكاية والدراما. الصراع على الرزق وركوب المخاطر وهيمنة القوي على الضعيف والعنف البدني والمعنوي. وأيضا الأفق المفتوح والفرص الممكنة الكامنة تحت المياه في انتظار الشجاعة والصبر.
رغم أهوال البحر، والأهوال التي تعرضت لها حنان، إلا أن العمل أشبه بإنشودة بحارة في مديح المقاومة والنضال، سواء كان ضد قريب طامع، أو تاجر جشع، أو قوانين مجحفة.
اقرا أيضا:
الدراما والكتابة والواقع المراوغ
«رسالة الإمام» و«الهرشة السابعة».. رائعتان إلا قليلا!