د.محمد أبوالفضل بدران يكتب: «منقريوس» الوزير القبطي في دولة شيخ العرب همام
هل يطوي التاريخ صفحاتٍ عمدًا ويُظهِر أخرى؟ لماذا يغفلُ التأريخ صانعي الأحداث الفعليين وأداورهم المؤثرة، ويمضي في تمجيد المنتصر وينسى المهزومين؟ أسئلة تتري حينما نرى ما كتبه المؤرخون عن فتراتٍ معينةٍ في كتاب التاريخ المفتوح. هل نؤرّخ لما نود وننسى تأريخ ما لا نوده؟ هل توجد موضوعية وحيَدة في كتابات المؤرخين؟ أو ينظر كلٌّ منهم وفق رؤيتِه وهواه؟ ربما يبدو مصطلح «الحياد التاريخي» مصطلحا أقرب إلى الغول والعنقاء والمستحيلات الأخرى!
يأتي تاريخ الصعيد الممتد إلى حدود السودان باهتا، ربما لأننا لم نجدْ مؤرخين كبارا بالصعيد في حقبٍ تاريخيةٍ كان الصعيد يموجُ بالأحداث موجا. وربما لأنَّ وعورةَ جغرافيةِ الصعيد وديموغرافيتِه جعلتِ الرحّالة والمؤرخين يمرُّون بأرضِه مرورًا سريعًا بين ليلة وضحاها. وربما مركزيةُ العاصمة أخذتهم وأسَرَت كتاباتِهم فلم يهتموا بالأطراف فدوّنوا من القليل الأقل.
**
انتابتني هذه الهواجسُ وأنا أقرأ هذا الكتاب لأخي الأستاذ أمير الصراف الصديق الإعلاميِّ المتميز، الذي فاق عددًا من أقرانِه ومجايليهِ في الصحافة والكتابة. فقد بحث وحلل وأثبت آراءه، وجاء إلى حقبة جمهورية الأمير همام– على حد وصف رفاعة الطهطاوي– الذي أقام إمارة تمتد من المنيا إلى أسوان ولم يرض بالظلم العثماني والمملوكي. فآثرَ أن يدفعَ الظلمَ فدفع ملكه ثمنا لهذا. جاء أمير الصراف لكي يلقي الضوء على ذلك الموظف منقريوس بن إبراهيم وزير الإمام همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام زعيم قبيلة هوارة آنذاك.
هنا يجلو أمير الصراف غبارَ التاريخ عن وزير مالية الأمير همام، ومدبرِ أمورها الإدارية والمالية في دقةٍ وأمانة. ينفض الغبارَ ويبحثُ عن المصادر ويمحصُ الرواياتِ القليلة التي نسي مؤرخوها الهوامشَ الفاعلة واهتموا بالعناوين البارزة.
في صبر كدَّ الباحثُ وتعبَ في تتبع أثر هذا الوزير، ربما لم يظفر في كتب التاريخ بضالته. وهذا يثير تساؤلا: لماذا لم يدونوا دورَه المحوري كما يراه أمير، لماذا تناسوْا دورَه الركين في إمارة همام؟! ظني أنهم فتنوا بشخصية همّام التي طغت على من حوله، فهو متْنٌ وحيدٌ والهوامشُ تحته ترعى. قد يفسر هذا لماذا أغفله المؤرخون المسيحيون أيضا؟
هنا ينبغي أن أؤكد أن هذا الكتاب يودُّ إبرازَ الدور المنسي لواحدٍ من الأقباط في الإدارة المالية لجمهورية همام. لكن مؤلفه لم يقع في دور من يصنع من الحبة قبَّة بل كان يصف حالا عامًّا. إذ عهد للأقباط بالحسابات المالية؛ لذا كان المباشرون والصرافون في معظمهم إن لم يكن كلهم من الأقباط. ربما يعودُ هذا إلى تعليمِهم المبكِّر ودقة حساباتِهم وأمانتِهم كالمصريين كافة. مما جعل الكاتب يزيح حجب تساؤلات عن الوزير منقريوس، سكت المؤرخون عن الإجابة عنها، وأهملها الرحالة والمؤلفون.
**
لم يجدْ أمير الصراف كثيرًا من المصادر التي تحدثتْ عن منقريوس، لذا ركنَ إلى عائلته وإلى وثائق عثرَ عليها، وإلى سليل عائلة تكلا وابن بهجورة الأديب الكبير نعيم تكلا، ومقدمته الشارحة في روايته «بقطر». يقول أمير: «تأخذُنا مدوناتُ العائلات القبطيّة إلى وثائق آل تكّلا سيداروس، التي تحدث عنها نعيم تكّلا في روايته بقطر [الصادرة في 1986]. وهو ليس الوحيد الذي يعدُّ مصدرَ معلوماتِنا عن وجودها؛ فإنَّه من المتواتر لدى الدوائر القبطية في محيطِ إقامة هذه العائلة. وجودُ هذه المدوّنات أو الوثائق؛ كذلك لدى باحثين غيرِ مصريين مهتمينَ بتاريخ الأقباط في جنوبِ مصر ذاتُ المعلومة».
وحتى لا نحاسب َأمير الصراف على الخلط بين التأريخ والتخيّل الروائي سارع بإيضاح كونه ابن المنطقة، ويعرف عائلة تكلا واستند إلى وثائقها المخطوطة. إضافة إلى أن الناس تروي تاريخا شفهيا يحكي عن هذه الشخصية، وكان أحرى به أن يدونه من أفواه رواته، وفق أسس جمع التراث الشفهي؛ وهو مصدر لا ينبغي طرحه وراء ظهورنا فهناك رواياتٌ متواترةٌ تتناقلها الأجيالُ. بل يرويها أحفاد الأمير الهمّام، وحبذا لو جمعها من أفواههم تسجيلا صوتيا مرئيا. وقد ناقشتُه في كثير من قضايا هذا الكتاب فوجدتُه مدركا هدفَه وأدواته المعرفية.
لعلي أجدُها فرصةً لأدعو إلى جَمْع التراث الشفهي بصعيد مصر، الذي يكاد يختفي مع تعاقب الأجيالِ وانصرافِها لمقتضيات الحياة وهمومها. وما أحرى أن تقومَ جامعاتُنا بالصعيد، بتشكيل فِرَقٍ بحثيةٍ تجمعُ هذا التراثَ المهدَّدَ بالتلاشي، وتقوم بتسجيله وتحقيقه ونشره.
**
رُب تساؤلٍ يدور في بعض الأذهان: لماذا وقع المؤلف في فلك الأمير همام فأطنب في ذكره، ربَّما لأنه امتلكَ «كاريزما» وصنع مجدًا لا يمحوه التاريخ رغم هذه النهاية التي شكّلت مأساة للصعيد كلِّه. أعود للتساؤل: لماذا لم يتوقف المؤرخون أمام منقريوس؟ ربما لأن النظام الهمامي كان كُلاُ متكاملا… نظامٌ دقيقٌ في المجموعِ. فلا تتوقف أمام شخوصِه بل أمام شخصٍ قائدٍ واحد هو الأمير همام. أما تفاصيل الحكاية والجموع التي تعمل على ذلك فليست هدفا للمؤرخ الذي يؤرخ للقادة والأحداث الجسام.
قد تتفقُ أو تختلف مع المؤلف الأستاذ أمير الصراف في آرائه، ولك الحق، لكنك ستشهدُ له بفصاحة الألفاظِ، وبلاغةِ الجمل، وصفاءِ الذهن، ووضوحِ الهدف، وجمالِ المقصد. إنَّ غايةَ البحث أن يبعث لديك التساؤلاتِ لا أن يعطيَكَ الإجاباتِ كأنَّها حقائق. فابْحث أنت وناقشْه فيما ذهبَ إليه واتفِقْ أو اختلِف معه. فالكتاب أزاح عن قرنين من النسيان لدور هؤلاءِ المباشرين والصرّافين بكل ما فيهم من إيجابياتٍ وسلبيات. نقلوا الخبرةَ وقدموا النصحَ والمشورةَ المالية والإدارية، فلهمْ ما لهمْ وعليهم ما عليهم.
تحيةً لأمير الصراف الذي يشي اسمُ جدِّه بمهنته الصراف أيضا… فمرحى بكم في هذا الكتابِ الذي يضعُ بصمةً في تاريخ الصعيد، ويحركُ مياهَ البحث العلميِّ عن التاريخ المنسي وصناعِه في صعيد مصر.
_____
مقدمة كتاب «منقريوسُ بنُ إبراهيم: زيرُ ومُباشرُ الشيخِ همّام الهوُّاري أميرِ الصعيد» للباحث أمـيُر الصرّاف. يسلط الكتاب الذي يصدر قريبا عن دار «المرايا» الضوءَ على أحد أهمِّ أفراد رجال الإدارةِ الأقباط وعائلتِه في صعيد مصر، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وهو منقريوس بن إبراهيم المُكنّى في بعضِ وثائقِ وحججِ المحاكم الشّرعيةِ بـ بولس منقريوس، وزيرِ الأميرِ همّام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همّام بن سبيك، وذراعِه في الإدارة. تزامنَ اشتغالُ منقريوس بإدارةِ الأميرِ همّام زعيمِ قبيلة هوّارة مع توّلُّدِ فكرة الدَّولة المستقلَّة في الصَّعيد، والموازيةِ للسُّلطةِ المركزيةِ في القاهرة. ذاتِ الجَناحينِ المُتمثلَينِ في الوالي العثمانيِّ وشيخِ البلد الّذي كان بِحوزةِ البكواتِ المماليكِ. واصطلحَ رفاعةُ الطهطاوي عليها جُمهورية همّام الالتِزامية، التي كانتْ متراميةً بعمق الوادي منَ المنيا إلى أُسوان. وهو السياقُ ذاتُه الذي تحدَّث عنهُ علماء الحملة الفرنسية في شروحاتِهم عن دولة همّام؛ كونها مشابهةً للجمهوريةِ الفرنسية، من حيثُ العدالة الاجتماعيّة والمساواة.
اقرأ أيضا
صور| قلعة همام وتاريخ شيخ العرب