الإسكندرية تغرق شيئا فشيئا
إذا أردت زيارة أشهر متاحف مدينة الإسكندرية، فتجهز لرحلة غوص؛ حيث يرقد جزء كبير من المدينة في قاع البحر الأبيض المتوسط، منذ أن ابتلعتها الأمواج وأغرقت أجزاء منها بين القرنين الثاني والثالث الميلاديين.
في متحف «أبو قير للمدن الغارقة» وعلى بعد 2.5 كيلومترًا قبالة الشاطئ، تستقر أطلال مدينتي «هرقليون» و«كانوب»، وأجزاء من فنارة الإسكندرية، إحدى عجائب الدنيا السبع، وعدد من المراسي البحرية والعملات الذهبية. وأيضا أطلال القصر الذي استضاف الملكة كليوباترا ومارك أنطونيو في أيامهما الأخيرة. بخلاف عدد من القطع الأخرى التي تشهد على عظمة المدينة وتحكي عن ضعف قدرة البشر أمام قوى الطبيعة. ومنذ اكتشاف وجود المدينتين المفقودتين، والعثور على أطلالهما الغارقة، تركزت جهود الباحثين حول تحري ملابسات هذا الانهيار وما تلاه من ابتلاع البحر للمدينتين منذ 1500 عامًا، وبحث إمكانية أن يعيد التاريخ نفسه من جديد.
التاريخ الحاضر
في عام 2000، اكتشف فرانك جوديو العالم الفرنسي المتخصص في الآثار الغارقة مدينة “ثونيس-هرقليون”. وبعد بحث عن أسباب غرق أجزاء عدة من ساحل المدينة العتيق، رجح أن الأمر يعود لـ”مزيج من الظواهر الطبيعية التي تضمنت: “التعرض لزلازل متتالية، وأمواج متلاحقة وعنيفة من المد والجزر”.
يتفق مع هذا الرأي أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة دمنهور، مجدي تراب، والذي أمضى جزءًا كبيرًا من مسيرته المهنية الطويلة في دراسة الإسكندرية القديمة. يوضح ما حدث: “تقع مدينة الإسكندرية بالقرب من بعض الصفائح التكتونية النشطة أي طبقات صخرية صلبة تتحرك بصورة قوية. وهو الأمر الذي يعرض المدينة لزلازل نابعة من مصادر قريبة وبعيدة، وما تسبب في الإضرار بالمدينة قديما هو ذاته ما يهدد بإضرارها حديثا”.
وكان مجدي تراب قد رصد في دراسته المنشورة عام 2018 في دورية “أوستريان أكاديمي أوف ساينسز برس” (Austrian academy of sciences press) التغيرات الحادثة في مستوى سطح البحر عند الإسكندرية على مدار آلاف السنين. يوضح: “حدث ارتفاع نسبي في سطح البحر في الإسكندرية بصورة مفاجئة بين منتصف القرن الثامن، ونهاية القرن التاسع الميلاديين، وهو ما يفسر أسباب غرق أجزاء من أرض المدينة خلال تلك الفترة”.
ولاستكشاف الأسباب المختلفة التي أدت إلى انغمار هذه المدينة الساحلية أهمية خاصة، حيث يستخدم العلماء بحوثهم على الإسكندرية للتنبؤ بمخاطر الزلازل في المناطق الساحلية اليوم.
***
يصف تراب أستاذ الجغرافيا الطبيعية في دراسته الأنشطة الزلزالية التي أثرت في مدينة الإسكندرية القديمة خلال تلك الفترة. يقول: “أغلب الظن أن هبوطا أرضيا نجم عن التعرض لزلزال تابع لزلزال آخر بدأ في عمق البحر وهو ما يعرف بتسونامي”.
ويعرف الهبوط الأرضي بأنه انخفاض تدريجي للقشرة الأرضية، وهي ظاهرة تنتج عن أسباب عدة، يتعلق بعضها بالأنشطة البشرية، ويرتبط البعض الآخر بحدوث الظواهر الطبيعية، مثل الزلازل.
وقد شهدت منطقة البحر المتوسط عدة هزات أرضية مدمرة، كان أشهرهم زلزال جزيرة كريت 365، الذي وقع بين القرنين الرابع والسادس ميلاديا. وتبعه موجات تسونامي اجتاحت الإسكندرية ودلتا النيل، متسببا في مقتل آلاف المصريين.
إذًا فالميناء العظيم الذي أحتضن مكتبة الإسكندرية غمره جدار مائي عملاق قادم من شواطئ المدينة، لتغوص أجزاء كبيرة من اليابسة تحت الماء. فهل يشير ذلك إلى إمكانية أن يتكرر غرق أجزاء من الإسكندرية في المستقبل؟
بحسب منظمة “يونسكو” (UNESCO) فالإسكندرية واحدة من ضمن خمس مدن أوسطية مهددة بالغمر بموجات تسونامي قادمة من البحر الأبيض المتوسط قبل سنة 2030، لذا يجب تجهيزها بنظم إنذار مبكر. فبحسب تقرير المنظمة “احتمالية حدوث موجات تسونامي يتخطى ارتفاعها مترًا واحدًا في منطقة البحر المتوسط تصل إلى 100% خلال الثلاثين عامًا القادمة”.
بين السماء والبحر
يحفظ زياد مرسي تفاصيل الإسكندرية عن ظهر قلب، وهذا أمر متوقع. فلعقودٍ متلاحقة عاش هو وأجداده على أرضها، أما غير المتوقع، هو مدى معرفته بتفاصيل الجزء الغارق من المدينة في أعماق البحر.
لأكثر من 12 عام، اقتضت وظيفة مرسي أن يعمل تحت الماء، فهو باحث في مركز الإسكندرية للآثار البحرية والتراث الثقافي أسفل الماء، ومحاضر زائر متخصص في الآثار البحرية. وكان عليه الغوص في الأعماق وجمع البيانات. فكما يقول: “الاستعداد للمستقبل يتطلب فهم الماضي”.
ويضيف مرسي: “بالطبع سيؤثر الاحترار العالمي على ساحل الإسكندرية، لكن هل سيكون المتسبب في إغراقها؟”. سؤال يجيب عليه الباحث باستنكار: “لا أظن ذلك! فمن وجهة نظري توجد قائمة طويلة من المسببات للغرق المحتمل للمدينة، وأرى أن الاحترار العالمي يتذيل هذه القائمة”.
لخص مرسي العوامل التي تحدد “احتمالية بقاء الإسكندرية فوق الماء أو نزولها أسفله” في ثلاث نقاط رئيسة: “مستوى أرض المدينة، ومستوى البحر الأبيض المتوسط، مستوى بحيرة مريوط”.
جغرافيا فريدة
إذا نظرت إلى موقع مدينة الإسكندرية على الخريطة، ستلاحظ أن لهذه المدينة الساحلية موقعا فريدا. حيث تجاور المصب الغربي لنهر النيل، ويحاصرها كتلتين مائيتين: البحر الأبيض المتوسط شمالًا، وبحيرة مريوط جنوبًا.
تمتلئ بحيرة مريوط –التي كانت أكبر حجمًا في الماضي- بالماء قليل الملوحة، لما تستقبله من كميات كبيرة من مياه الصرف الصحي، والزراعي غير المعالجة القادمة من غرب الدلتا. ولكونها بحيرة غير متصلة بالبحر المتوسط أو نهر النيل، يتم ضخ مياهها وإلقائه في البحر، حتى لا تفيض وتغرق المناطق المحيطة بها، وذلك باستخدام ماكينات ضخ.
“تخيل لو لم تعمل المضخات لأي سبب، سيرتفع منسوب الماء داخل البحيرة ويفيض. وهو ما يعني أن أجزاء كبيرة من جنوب الإسكندرية ستغمرها المياه”.. هكذا يقول مرسي محذرا المخاطر المرتبطة بالبنية التحتية في المدينة.
ويرى مرسي أن الباحثين يوجهون أنظارهم صوب دراسة أثر مشكلة ارتفاع سطح البحر على ميناء الإسكندرية. في حين أن الأولى النظر إلى المشاكل المرتبطة بأرض المدينة.
ويتابع: “لن تمحي موجات تسونامي الإسكندرية من خريطة العالم. إنما ستلحق ضربات الأمواج أضرارا بالتأكيد. إلا أن ما يتوقع أن يبتلع المدينة بالفعل هما: الزلازل وانحسار الأرض، كلاهما سيجعل المدينة تهوي للأسف، إلى قاع البحر من جديد كما حدث سابقًا”.
عروس البحر المتوسط
لموقع مدينة الإسكندرية دور محوري في سيناريوهات غرقها. وبالعودة إلى سنة 331 قبل الميلاد. اختار الإسكندر الأكبر تأسيس مدينة محاطة بكتلتين مائيتين: البحر الأبيض المتوسط شمالًا لتكون مركزا تجاريا، وبحيرة مريوط جنوبًا. وبذلك شيد في هذا المكان “ميناء الإسكندر”، ونفذه له المهندس اليوناني دينوقراط.
الموقع المختار كان أرضًا جرداء، فقرر دينوقراط تأسيس نظام ذكي ومعقد يهدف إلى إمداد الأرض بالماء عبر قنوات قادمة من نهر النيل. ومن ثَم توزيع ذلك الماء عبر شبكة خطوط أنابيب متفرعة، وتخزينه داخل خزانات تحت الأرض.
هذه الشبكات لا تزال بعض أجزاءها موجودة حتى يومنا هذا، لكنها لا تؤدي أي وظيفة. فالمدينة التي نراها اليوم، تأسست فوق أنقاض عدة مدن عتيقة سبقتها، كما يوضح تراب أستاذ الجغرافيا الطبيعية بقوله: “وهذا في حد ذاته سبب آخر لهبوط الأرض”.
على ذات النهج يقول زياد مرسي، المحاضر المتخصص في الآثار البحرية: “إن كنت تعيش في الإسكندرية، فمن الطبيعي أن تلاحظ وجود حفرة كبيرة فجأة بمنتصف الطريق الذي اعتدت على السير فيه يوميًا. أو أن ترى مشهد أبنية تشققت جدرانها، وهي مشاهدات تدل على حدوث هبوط في الأرض”.
ألهمت تلك المشكلة فرع معهد جوته التابع للحكومة الألمانية بالإسكندرية بالمشاركة في مشروع “أطلس سيولة البحر المتوسط” (Atlas of Mediterranean liquidity). بهدف استعراض تأثيرات التغيرات المناخية على البحر المتوسط، من خلال تصميم وإتاحة خرائط تفاعلية وأعمال فنية.
شارك مرسي في هذا المشروع الذي يعتبر وسيلة جيدة لزيادة التوعية بكيفية إدارة القطاع المائي للمدينة قديما. ويستعرض المشروع جزءا من التحديات التي واجهتها الإسكندرية، من خلال استخدام خريطة تفاعلية معتمدة على مخططات المدينة الحالية وخرائطها التاريخية.
شيدت مدينة الإسكندرية القديمة فوق تلال ساحلية من الأحجار الجيرية المغطاة بطبقة من الطين. تليها طبقة من طمي نهر النيل المترسب خلال سنوات طوال. هذه المواصفات تساهم أيضا في زيادة هشاشة الأرض ومن ثَم هبوطها كما يوضح مرسي.
أرض تهوي للأسفل
قبل وصوله إلى البحر المتوسط، يتفرع نهر النيل إلى فرعين رئيسين: دمياط ورشيد، وتاريخيا كان للنيل عدد أكبر من الفروع إلا أننا لا نستطيع تحديد عددها، تصب جميعها ماءها في البحر المتوسط، إحدى الفروع القديمة المندثرة كان يمر عبر الإسكندرية خلال عصر الملكة كليوباترا. تسبب انسداد الفرع المعروف بـ”الكانوبي” نتيجة إهمال صيانته الدورية في ضعف إمدادات الرواسب (الطمي) التي تصل إلى الدلتا وشاطئ البحر الأبيض المتوسط، والتي تنبع أهميتها في تعويض ما تحدثه الأمواج من تجريف للتربة، وبالتالي تآكل الشواطئ.
يشرح أحمد رضوان، الأستاذ بالمعهد القومي لعلوم البحار والمصايد (NIOF) علاقة النيل بتآكل الشاطئ: “منذ بناء السد العالي على نهر النيل جنوبا بمدينة أسوان سنة 1964. تراجع وصول المياه العذبة والطمي إلى ساحل الإسكندرية عاما تلو عام، وكنتيجة لغياب هذه الرواسب، ارتفعت معدلات تآكل التربة، وهبوط الأرض، وزادت ملوحة المياه الجوفية. وهي أمور تسببت في فقدان مساحات من الأراضي لصالح البحر، ومن المنتظر فقدان المزيد منها مستقبلا”.
في ورقة بحثية منشورة لكل من جين ستانلي وأنردو جي وارن بعنوان “منسوب البحر وبدء ثقافة عصر ما قبل الأسر في دلتا النيل” (The Sea level and Initiation of Predynastic Culture in the Nile Delta). ذكر الباحثان أنه منذ سنة 1964 لم تُنقَل المواد الرسوبية عبر نهر النيل إلى ساحل البحر، وتوصلت الدراسة لاستنتاج مفاده أن “دلتا النيل لم تعد دلتا نشطة، إنما سهل ساحلي تتحكم فيه أمواج البحر المتوسط بشكل تام”.
يرى رضوان أنه لولا تشييد السد العالي لعانى المصريون مخاطر فيضان النيل، الذي أدى إلى فقدان مئات الأرواح. بخلاف المعاناة من الجفاف الذي ضرب بلدان شرق إفريقيا خلال نهايات الثمانينيات وأوائل التسعينيات. ويوضح: “لقد كان السد العالي محركًا رئيسًا للتطورات التي حدثت في مصر خلال تلك الفترة”.
ردم الأراضي
يعيش رضوان في الإسكندرية ويشهد يوميًا تطورات مشروع حماية الساحل الذي تنفذه الحكومة المصرية، ويجري دراسات على المناطق المهددة بالغمر. ويرى أن جهود الحكومية لردم أجزاء من البحر، هي إجراءات وقائية تحمي المناطق الساحلية من المخاطر التي تشهدها خلال الفترة الحالية.
وعن ذلك يقول: “سأضرب مثالًا، لسان خليج أبي قير هو منطقة مكتسبة من البحر، مثله مثل مناطق عدة. لولا الجهود الحكومية لردمها وسد الفجوة بعد توقف وصول الطمي، لفُقدت أجزاء من اليابس لصالح البحر. لذلك تمثل مشاريع تغذية الشاطئ بالرمال أهمية كبيرة، تعويضا لما فقدناه كأحد التأثيرات السلبية للطبيعة، والتي نحاول عن طريقها استعادة بعض التوازن البيئي، واسترداد المناطق التي ألتهمها البحر، بتزويدها بالتربة والأسمنت والصخور”.
ما بين عامي 1987 و1994 نفذت الحكومة مشروعات لتغذية الشواطئ الاصطناعية في مناطق أبي قير وستانلي والعصافرة والمندرة والشاطبي؟ من خلال تركيب الحواجز الأسمنتية وبدونها. وطبقًا لتقرير منظمة “اليونسكو“، يُلقى سنويًا عشرين طنا من تلك الحواجز في المياه لحماية كورنيش الإسكندرية (الطريق المُنشأ على طول الساحل) من تأثير الأمواج والفيضانات الشتوية الموسمية.
“تغذية الشواطئ بالرمال ليست حلًا دائمًا”، بحسب هشام الصفتي المساهم في تصميم وتقييم عدة مشروعات في الهندسة المدنية البحرية وباحث سابق في جامعة الإسكندرية.
يعمل الصفتي حاليا في قسم الميكانيكا المائية والهندسة الساحلية في معهد “لاشتفايس” للهندسة الهيدروليكية والموارد المائية في جامعة براونشفايغ التقنية في ألمانيا. ويوضح أن الحلول “الناعمة” مثل تغذية الشواطئ قد تكون مفضلة بشكل أكبر، لأن الاتجاه العالمي في الوقت الحاضر يميل إلى تنفيذ نمط الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية (ICZM). وهو نهج متعدد التخصصات يهدف للاستخدام المستدام للمنطقة الساحلية، من خلال إدماج الحلول القائمة على الطبيعة، والتي يشار إليها أحيانًا باسم الهندسة الموائمة للطبيعة. ويضرب الصفتي مثالًا لتلك الحلول المعتمدة على الطبيعة التي تدعم النظم البيئية الساحلية المحلية من أجل الحفاظ عليها قائلا: “تستخدم إندونيسيا غابات المانجروف لتثبيط أمواج توسنامي التي تُسبب الضرر لساحلها”.
حلول صلبة وأخرى ناعمة
في سنة 1984 طورت شركة تترا تك (Tetra Tech, Inc) خطة رئيسة لحماية الشواطئ لصالح الهيئة المصرية لحماية الشواطئ (SPA)، بغرض حماية الخط الساحلي لكل من دلتا النيل والإسكندرية. تضمنت تلك الخطة برامج محددة لحماية 13 شاطئًا. وقد قُسِمت إلى مشروعات ذات أولوية أولى، وذات أولوية ثانية.
الحلول التي تطبقها الحكومة المصرية غالبا ما تندرج ضمن “الحلول الهندسية الصلبة”، التي تُعَد من التقنيات المعروفة لحماية الخط الساحلي. وتعتمد على تركيب وحدات خرسانية أو أسمنتية على الساحل لمسافات طويلة، بحيث تغير من نمط تآكل الشاطئ ونمط ترسيب الرمال، على حد قول الصفتي.
قبل ظهور الاحتياج لأي من تلك الحلول الهندسية الصلبة والناعمة، استمدت الإسكندرية قديما مصدر الحماية الساحلية الخاصة بها من جهتين طبيعيين: الساحل الطويل المقابل لشاطئ الإسكندرية والمسمى “جزيرة فاروس”، والتي تتكون من سلسلة من التلال التي تعمل كحاجز طبيعي ضد الأمواج لتحافظ على شاطئ المدينة، ونهري النيل والليطاني –خاصة النيل- المنوط بهما إمداد الساحل بالطمى، لتعويض تآكل الشاطئ.
***
حاول البشر تقليد هذه الجزر الطبيعية عبر إنشاء جزر صناعية من خلال ردم الأراضي، تكمن بعض الفوائد المفترضة لهذا الإجراء في حماية الخط الساحلي. قامت الحكومة بردم أجزاء كبيرة من شاطئ الإسكندرية. وفي الساحل الشمالي المصري، وتحديدا مدينة العلمين الواقعة غرب الإسكندرية، تنفذ الحكومة مشروعا ضخما على أرض جرى ردمها من البحر. ويتمثل في تشييد أكثر من 25 ناطحة سحاب، تضم كل منها أكثر من 41 طابقًا.
يقول الصفتي: “تُقَدِم هذه المشروعات فوائد اقتصادية عدة، إلا أن علاقتها بحماية الساحل محدودة”. ويشدد على ضرورة دراسة التدخلات البشرية في الطبيعة جيدًا قبل القيام بها. من أجل تجنب أن يكون حل مشكلة في موقع ما سببا لإحداث مشكلات في موقع آخر.
ويعطي الصفتي مثالا بأنه إذا جرى تغذية الشواطئ بأنواع من الرمال لا تتناسب مع الرمال الموجودة في المكان بشكل طبيعي، فستتحرك الرمال من المكان الذي جرى إلقائها فيه وتترسب بشكل غير منتظم في موقع آخر: “وهذا يوضح أسباب ضرورة أخذ عملية تغذية الرمال السنوية في الاعتبار قبيل تنفيذ تلك المشروعات”.
أمن البشر
أصدرت الهيئة المصرية لحماية الشواطئ من جانبها تقريرًا عنوانه “التكيف مع التغيرات المناخية في دلتا النيل عبر تطبيق الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية”. والذي أوضح: “أنه حتى وإن جرى تطبيق تدابير حماية الساحل. فقد يؤدي بعضها في نهاية المطاف إلى حدوث تأثيرات سلبية طالما لم يؤخذ في الاعتبار دراسة التغيرات المستمرة طويلة المدى التي تحدث للسواحل، والمرتبطة بالتغيرات المناخية. وبالتالي نحتاج إلى تطبيق أساليب متنوعة من أجل زيادة متانة الساحل، وضمان التكيف المستدام طويل المدى”.
وعلى عكس مدينة الإسكندرية القديمة، جرى مراعاة آليات الحماية الساحلية الخاص بمدينة العلمين الجديدة أثناء مراحل الإنشاء. وخلال زيارتي لتلك المدينة شهدت تنفيذ أعمال هندسية واسعة النطاق لحماية الساحل، حتى قبل الانتهاء من أعمال البناء.
وذكر التقرير الأخير للجنة الدولية للتغيرات المناخية (Intergovernmental Panel on Climate Change – IPCC) والصادر بعنوان “المحيط والغلاف الجليدي في مناخ متغير“ تخصيص الحكومة المصرية مبلغ 200 مليون دولار لمشروعات لحماية الساحل بالإسكندرية، ولنظم للإدارة المتكيفة المتكاملة للمناطق الساحلية في منطقة الساحل الشمالي. بما يتضمن إنشاء: الحوائط والجدران البحرية وحواجز الأمواج، وبناء الألسن الصناعية، للحد من تآكل الشواطئ. وأورد التقرير: “الأنشطة المقدمة مؤخرا تأخذ في الاعتبار مخاطر ارتفاع منسوب البحر كجزء من خطط التكيف المناخي. مع التركيز على المناطق الحضرية الساحلية، والأثر على الزراعة، والهجرة، وأمن البشر”.
غياب التنسيق
لسنوات طويلة علمت نادية المصري مستشارا للتغير المناخي بالمكتب التقني التابع لوزارة البيئة وهيئة الشؤون البيئية، مما وفر لها فرصة متابعة ما يحدث من الميدان ورصد جهود إنقاذ الإسكندرية من الغرق.
في سنة 2017 ساهمت المصري في مشروع بالتعاون مع الهيئة العامة لحماية الشواطئ. يهدف لعمل خريطة للنقاط الساخنة على طول ساحل الإسكندرية. ومن ثم الإسراع في وضع حواجز خرسانية لتكسير الأمواج والحد من تآكل هذه المناطق المهددة.
وتعلق المصري: “بعد انتهائنا من مرحلة الدراسة لاحظنا حدوث تآكل لبعض الشواطئ بمعدل يفوق التوقعات. فهل يعني هذا وجود خلل في دراستنا؟ لا، ما اكتشفناه لاحقا أنه جرى إنشاء بعض المشروعات العمرانية التي لم نضمنها في دراستنا. كما أنها جرى إنشائها دون أخذ خريطة التآكل في الاعتبار. من بين هذه المشروعات منتجعات الساحل الشمالي، ومدينة العلمين الجديدة”.
يقدم هذا الشرح تفسيرا للاختلاف الذي طرئ على الشواطئ قبل وبعد بناء المنتجعات في الساحل الشمالي. وتضيف المصري: “قبل بناء تلك المنتجعات يمكنك مشاهدة شواطئ رملية جميلة. وبعد البناء من الملاحظ تحولها إلى شواطئ صخرية بصورة مفاجئة”.
وتشير المصري إلى أن هذا التغيير متوقع، وهو ناتج عن تنفيذ المشروعات الهندسية الكبرى -مثل إنشاء مارينا اليخوت والأرصفة البحرية- دون دراسة معدل التآكل ونمط التغير الحادث للشريط الساحلي، وحركات المد والجزر. فكلها عناصر قد تتسبب في ارتفاع معدل التآكل في مكان معين، وارتفاع معدل الترسيب في مكان آخر.
***
فتحت المصري خريطة، وأشارت بإصبعها إلى الخط الساحلي للإسكندرية وساحل مصر الشمالي. تقول: “انظري إلى هذا الخط الساحل، سترين أن بعض المواقع فيه كانت تحت تهديد كبير. إلا أن أوضاعها الآن تحسنت كثيرًا، ولكن للأسف تضررت بعض المناطق الأخرى. وأعتقد أن أسباب ذلك التضرر لا ترتبط بالافتقار إلى الدراسات البيئية، إنما ترتبط بغياب التنسيق بين مختلف الهيئات”.
وتتصدى جهات عدة في الحكومة المصرية للخطر القادم، ويترأس القائمة المعهد المصري للبحوث الساحلية، والهيئة المصرية العامة لحماية الشواطئ، اللذان تتمثل أدوارهما في متابعة تطورات وضع السواحل المصرية. من أجل تحديد التغيرات الحادثة بالقرب من الشواطئ، وأيضا التنبؤ بالتغيرات المستقبلية المحتملة بالمناطق الساحلية، من خلال استخدام النماذج الحسابية لاختيار الحلول المناسبة اقتصاديا والأكثر فعالية.
وساهمت هاتان الجهتان في تحضير مشروع الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية بالإسكندرية (AICZM) لمواجهة سيناريوهات التغير المناخي. جنبًا إلى جنب مع هيئات أخرى، مثل وكالة الشؤون البيئية المصرية (EEAA)، التي توفر –على حد قولها- المشروعات الأكثر فعالية، وذات التكلفة المنخفضة لحماية المناطق المزدحمة بالسكان.
من يرى البحر؟
خلال العصر الحديث، مرت الإسكندرية بعدة مراحل تراوحت مكانتها بين الازدهار والتدهور. حيث فقدت تلك المدينة مكانتها المرموقة كمركز ثقافي وتجاري، وانخفض تعدادها السكاني بصورة واضحة. وهو الأمر الذي حدث مباشرة قبيل الزلزال الذي ضرب المدينة نحو عام 956 ميلاديًا، مُسببًا دمارًا هائلًا ببنيتها التحتية وبناياتها، أشهرها فنارة الإسكندرية.
ورغم ذلك استعادت المدينة مكانتها من جديد، لكنها الآن تواجه مشكلة مغايرة. فلقد أدى النمو السكاني المستمر إلى نقص المساحات المتاحة لبناء المنازل، الأمر الذي شجع على إنشاء بنايات مرتفعة تطل على شاطئ البحر، بجانب بناء مقاهٍ ومطاعم عدة على الشواطئ بعد رصفها بالأسمنت والمواد الخرسانية. فأضافت كل تلك المنشآت ضغطًا كبيرًا على البنية التحتية للمدينة.
فإذا كنت تخطط لزيارة هذه المدينة الساحلية الاستثنائية، فهناك احتمال كبير ألا تتمكن من رؤية البحر، أو الجلوس على شاطئ رملي. فأغلب أجزاء الخط الساحلي يستقر بها كتل خرسانية مكعبة أو رباعية الأرجل، لتوفير حماية من التآكل، وتسيطر على أجزاء أخرى من الشاطئ المطاعم والمقاهي التي تقف حائلًا بينك وبين رؤية البحر.
وأرجع الصفتي أسباب تنفيذ مشروعات الحماية الساحلية والكتل الخرسانية المنتشرة على طول شواطئ الساحل في الإسكندرية إلى الرغبة في دعم توسعة الكورنيش عن طريق إنشاء “المزالج” على الشواطئ ووضع الكتل الخرسانية. فهذه الهياكل المنحدرة تضعف قوة الأمواج خلفها، لكنها لا تعيق الآثار المترتبة على ارتفاع منسوب سطح البحر. وعن ذلك الأمر يقول الصفتي: “لابد من تصميم وسائل الحماية والكتل الأسمنتية بشكل يمنع تسلل التربة من الفجوات الواسعة الموجودة في الدرع الخرساني من بين الكتل”.
وعبر الصفتي عن الصعوبة التي كان يواجهها أهالي الإسكندرية أثناء التنقل من مكان لآخر عبر طريق الكورنيش قبل توسعته. والعمل بمشروعات تغذية التربة المنفذة قبل عدة سنوات: “كانت حركة المرور كابوسًا للجميع، وساعدت توسعة الكورنيش على تحسين الوضع”.
الخصخصة وحق رؤية البحر
تشرح ياسمين حسين، مدير البحوث بمركز “الإنسان والمدينة للأبحاث الإنسانية والاجتماعية” (HCSR) أزمة التغير الحادث فيما أسمته “شخصية الإسكندرية”. والتي توصف كمدينة شاطئية، لكنها بلا –أو تحوي القليل- من الشواطئ. فمثل العديدين تسكن هي وأسرتها في الإسكندرية منذ قديم الأزل، أخذت نفسًا عميقًا، وقالت بصوت ملئ بالحزن: “نعم، كان هناك شواطئ بها رمال، وأعتدنا أن نمشي على الكورنيش للتنزه. كانت هذه هي المتعة الرئيسية للعديد من العائلات في الإسكندرية لم تعد متاحة”.
وتابعت: “أذكر أني بنيت مئات القلاع الرملية مثلي كمثل باقي الأطفال من نفس العمر خلال تلك الفترة. لكن تبخرت كل تلك الذكريات، والآن لم يعد لدينا شطآن. كل ما نملك هي تلك الكتل الخرسانية، أو المطاعم والمقاهي المبنية على الشواطئ. إن الجيل الذي شهد الإسكندرية منذ نحو 15 أو 20 عامًا ليشعر الآن بالأسى والحنين إلى الماضي”.
شاركت حسين في العديد من الدراسات المتصلة بالمدينة. منهم دراسة بعنوان “كورنيش الإسكندرية: ما بين الخصخصة وحق رؤية البحر“، أجرت خلالها تحقيقًا عن أسباب فقدان مدينة تضم أكتر من خمسة ملايين نسمة مثل الإسكندرية لمعظم شواطئها. وأرجعت الأزمة إلى تنفيذ مشروعات عمرانية عديدة دون مراعاة للبيئة، أو قبل الانتهاء من الدراسات البيئية الخاصة بها.
وتقول حسين: “لا يأتي الخطر من ارتفاع منسوب ماء البحر وحده. إنما يعود إلى عدة عوامل، مثل هبوط الأرض ومخاطر الزلازل. هذا هو ما حدث في الماضي وأدى إلى غرق المدينة مرتين في عامي 956 و1303 ميلاديًا”.
***
أضافت حسين بصوت تعلوه نبرة حاسمة: “يخطئ من يعتقد أننا في انتظار حدوث التغيرات المناخية في مستقبل نحن نعيش بالفعل داخلها. لأضرب لك مثالاً، فنحن قد اعتدنا على هطول الأمطار موسميًا خلال فصل الشتاء، وهي ظاهرة نطلق عليها “النوة”. الآن نرى كيف أصبحت تلك النوات أكثر عنفًا؛ فالمطر يسقط بمعدل أعلى، وسرعة العواصف زادت بشكل ملحوظ. كما ارتفعت حدة المد والجزر، ويسبب هذا الوضع أضرارًا كبيرة، وبالفعل شهدنا حاليا أحداث تندرج ضمن التطرف المناخي”.
وشرحت حسين أن الإسكندرية تواجه تحديين: الأول هو عودة حدوث نفس السيناريو وغرق المدينة من جديد بفعل موجات تسونامي والزلازل. والثاني هو الغرق الموسمي كل فصل شتاء بسبب الأحداث المناخية المتطرفة.
وتمثل مشروعات البناء والإسكان الضخمة التي نفذت في عدة أماكن تحديًا إضافيًا يزيد من هشاشة المدينة. وعن ذلك تقول حسين: “هذا وزن زائد على الأرض، وحمولة على قشرة الأرض يصعب تحملها… ولا تراعي البيئة أو التغيرات المناخية”.
تؤثر خصخصة الأماكن العامة بشكل متزايد سلبًا على المتاح من شواطئ المدينة. ففي عام 2019 أطلق مركز “الإنسان والمدينة للأبحاث الإنسانية والاجتماعية” البحثي حملة بعنوان “الإسكندرية لا ترى البحر” لنشر الوعي وتشجيع المجتمعات المدنية على الانخراط. والحذر من الوضع الذي تعانيه المدينة قبل أن يتأخر الوقت.
وعن الحملة تذكر حسين: “لقد استقبلنا ردود فعل جيدة من أعضاء المجتمع. وطلبنا من الجمهور إرسال صور للبحر للمقارنة بين الصور قديما وحاليا. وجمعنا صور “قبل وبعد” وأقمنا معرضًا لاستعراض ما يحدث على الأرض، وتقديم دراساتنا”.
رأس القائمة
حذر التقرير السنوي للجنة الدولية للتغيرات المناخية (IPCC) من “غياب كل أشكال التكيف مع التغيرات المناخية في مصر وموزمبيق ونيجيريا. وهي الدول التي من المتوقع أن تكون الأكثر تضررًا جراء ارتفاع منسوب البحر. خاصة فيما يتعلق بعدد الأفراد المتضررين من جراء حدوث فيضانات سنويًا. وذلك في ظل حدوث سيناريو ترتفع فيه درجة حرارة الأرض بمعدل 4 درجات”.
رصد التقرير الأضرار المحتملة لارتفاع منسوب ماء البحر، وظواهر التطرف المناخية الساحلي في 12 مدينة إفريقية رئيسة. وتصدرت مدينة الإسكندرية قائمة المدن الأكثر تضررا. ويبلغ مجموع قيمة الضرر المتوقع ما بين 36 و50 مليار دولارًا، وذلك في حال حدوث السيناريو المتوسط. وفيه تبلغ الانبعاثات حدها الأقصى عام 2040 ثم تنخفض لاحقًا.
وأفادت وزارة الري والموارد المائية المصرية بلوغ متوسط معدل ارتفاع منسوب البحر السنوي إلى 1.8 مم حتى عام 1993. وقد ارتفع هذا المتوسط خلال العقدين التاليين ليصل إلى 2.1مم سنويًا. ومنذ عام 2012 زاد المتوسط ليصل إلى 3.2 مم سنويًا. وجرى تسجيل نفس المعدلات لغرق الدلتا، وهو ما يعظم من الأثر السلبي لزيادة منسوب البحر.
يعتقد مرسي أن صور الأقمار الصناعية ربما لا تقدم بيانات دقيقة عن تأثير ارتفاع منسوب البحر في الإسكندرية. ويقول: “نحن نحتاج إلى إجراء دراسات تركز على نطاقات صغيرة، وعلى العناصر البيئية المحلية وتأثيراتها. فتأثير التغير المناخي وارتفاع منسوب البحر غير متكافئ في جميع بقاع الإسكندرية”.
اتفق مرسي أن الباحثين يميلون في بعض الأوقات للتركيز على السيناريو الأكثر تشاؤما في الدراسة. حتى يتم حث الحكومات على اتخاذ قرارات. “هناك دراسة توقعت غرق الإسكندرية في عام 2023، لكن انظري للوضع الآن، الإسكندرية لم تغرق!”.
وعن هبوط المدينة نتيجة كل العوامل المذكورة سابقًا. يقول مرسي: “تهبط المدينة كل 1000 عام بمعدل مترًا واحدًا”.
ويتركني مرسي للغوص من جديد والعوم بجوار الإسكندرية العتيقة. حالمًا بالعيش على متن سفينة بنهر النيل بمدينة أسوان، كي يأمن على حياته في فلكه إذا ما حدث الطوفان.
***
- ينشر هذا التحقيق أيضا بالإنجليزية على موقع Unbias the News بدعم من مؤسسة journalismfund وفي إطار مشروع «المدن الغرقة».