«لاتليه الإسكندرية»: جنود بولنديون في مصر ممسكين بفرشاة
لا أحد يعرف مصير الفنانين البولنديين الذين استقروا في مصر وقت الحرب العالمية الثانية حتى هذه اللحظة. لكن ما وصل إلينا هو أعمال فنية عرضت لأول مرة منذ أكثر من ثمانين عاما في “لاتليه” الإسكندرية. تصور مشاهد متفرقة من سيدي بشر ومصطفى كامل وبغداد. مرة أخرى تعرض هذه اللوحات بعد ترميمها هذا العام في متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، لتذكيرنا بهذا المصير المجهول للجنود الذين اختاروا الفن رغم كل شيء.
بحث وترميم
في إبريل عام 1940 تم تشكيل لواء الرماة الكاربات في سوريا بأمر من الجنرال “فودايسوف شيكورسكي”. وفي أكتوبر نفس العام تم إرسال جزءا من اللواء إلى مصر وبعدها بعامين 1942 أنقذ الجنرال “فواديسواف اندرس” الجنود البولنديين الذين تحرروا من الأسر السوفيتي، ليصبحوا جميعا كجنود الفيلق الثاني الذي تشكل من الجيش البولندي في الشرق حينها، والذين أصبحوا جزءا هاما من دراسة علمية بعنوان” فنانو أندرس: الاستمرار والابتكار”.
بقلم “يان فيكتور شينكيفيتش” عمل المؤلف منذ عام 1989 على إعادة رسم خريطة تواجد الفنانين التشكيليين- جنود الفيلق الثاني وأعمالهم الإبداعية. باحثا في والأرشيفات والمتاحف في عدة دول أوروبية خصوصا بريطانيا وإيطاليا وأيضا لبنان.
وفي 2012 أثناء عمل “شينكيفيتش” على الدراسة تواصل مع الزوجين “أجنيشكا وياروسوف دوبروفولسكي” مديري المكتب المعماري “أركينوس” في القاهرة. عثر الزوجان أثناء عملهم على أعمال لفنانين بولنديين في متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية. ومن هنا بدأ العمل على ترميم تسعة لوحات على يد “دورتا إجناتوفيتش فوجنياكوفسكا” و”دورتا نوفاك” لأربعة فنانين بولنديين من فترة الحرب العالمية الثانية، وهم:
“يوزيف ياريما”و”ييجي مودنيتسكي” و “إدفارد ماتوشتشاك” و”كورديان يوزيف زامورسكي”. ليتم عرضها بمناسبة الذكرى الثمانين للمعرض الأول لأعمال الفنانين البولنديين في معرض “لاتليه L’Atelier”.
الفنان يوزيف ياريما
عبر يوزيف ياريما في الأشهر الأولى من عام 1940 رومانيا وكريت لينضم إلى صفوف لواء الرماة الكاربات الذي تمركز في سوريا وتم إجلاؤه مع نهاية يونيو 1940 إلى فلسطين. ثم إلى مصر في سبتمبر 1940.
وفي ديسمبر من نفس العام تم إنشاء القسم الثقافي والتعليمي باللواء دون تحديد مهام القسم بالتفصيل. وعندما تم إعادة تنظيمه في أغسطس 1941 أصبح قسم الإعلام والتعليم والثقافة ومقره الإسكندرية. تألف القسم من هيئة تحرير صحيفة وإصدارات وفرقة مسرحية وإذاعية وكذلك استديو تصوير.
وصف “يوزيف تشابسكي” رئيس قسم الإعلام والتعليم في الجيش البولندي في الشرق الأوسط لقائه مع ياريما: “التقيت ياريما فجأة في القاهرة أو بغداد! اصطحبته إلى قسم الفن التشكيلي بقيادة “زيجمونت تركيقيتش”.
ويستطرد: أجد يوزيف كما عهدته دائما، مقتنعا بأن الفن والفن فقط هو الذي له معنى. بدا لي أكثر من مرة أن يوزيف رغم أنه يرتدي الزى العسكري لم ينتبه فعليا للحرب.. لقد لامني في صمت لإهداري الكثير من الوقت في أمور تتعلق بعملي في الجيش، وبالتالي لم أجد وقت لأرسم. وكمحاولة لاستفزازي وديا قدم لي هو في بغداد صندوقا جميلا للألوان”.
أقام الفنان “يوزيف ياريما” حينها علاقات وطيدة مع الأوساط المحلية المهتمة بالفنون التشكيلية. ومن خلالها تم عقد دروس رسم للجنود البولنديون وقدموها عدة مرات في الإسكندرية والقاهرة. ثم في السنوات التالية في القدس وتل أبيب وبيروت وبغداد.
الفن رغم كل شيء
وبالرغم من قلة المحتوى الذي يوثق هذه الرحلة الفنية للفنانين/الجنود البولنديين تحت إشراف “يوزيف ياريما” إلا أنه في عام 1943 يوجد مقالا مفصلا في الصحيفة البولندية “جازيتا بولسكا” بعنوان “ياريما يذهب” نقرأ فيه: الحرب تقترب سبتمبر مأساوي، لجوء أعمال رسم متقطعة في بوخاريست مع “ماتوشتشاك”، ثم اللواء، عام ونصف في مصر، في ليبيا، بفضل التفهم الخاص لقائد الكتيبة، استطاع الرسامان-الجنديان العمل. المعرض الذي تم تنظيمه في الإسكندرية والقاهرة هو عرض للأعمال الفنية الجادة لـ”ياريما” و “ماتشتشاك”. في المقابل فترة قصيرة في فلسطين وإقامة علاقات أوثق مع الرسامين المحليين هنا، ثم العراق..
وبغض النظر عن انعزال الجنود عن الحياة المدنية وعدم قدرتهم على التواصل مع الفنانين من البلدان التي كان يتواجد فيها الجيش البولندي في الشرق. حاول “يوزيف ياريما” الحفاظ على الرأي السائد في الأوساط الدولية بأن الإبداع الفني البولندي لم يوأد مع فقدان الاستقلال.
كان مقتنعا أنه على الرغم من الخسائر المعنوية والمادية التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية فسيكون من الممكن الحفاظ على الوضع الراهن من خلال الحاجة الإنسانية للانتقال من عالم الحرب لعالم السلام.
من ثمانون عاما في الإسكندرية
وبغض النظر عن انعزال الجنود عن الحياة المدنية وعدم قدرتهم على التواصل مع الفنانين من البلدان التي كان يتواجد فيها الجيش البولندي في الشرق. حاول “يوزيف ياريما” الحفاظ على الرأي السائد في الأوساط الدولية بأن الإبداع الفني البولندي لم يوأد مع فقدان الاستقلال.
كان مقتنعا أنه على الرغم من الخسائر المعنوية والمادية التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية فسيكون من الممكن الحفاظ على الوضع الراهن من خلال الحاجة الإنسانية للانتقال من عالم الحرب لعالم السلام.
“ياريما” أيضا كان ناشطا في جماعة الفنانين والكتاب بالإسكندرية/ لاتليه.
وعليه كان أول عرض موثق لإبداعات الفنانين الجنود البولنديين في استديو لاتليه في الفترة ما بين 5 لـ20 سبتمبر عام 1941. كان المعرض تحت رعاية قائد الجيش البولندي في الشرق الأوسط الجنرال “ستانيسواف كوبانسكي” و”أحمد كامل باشا” وتم تخصيص جزء من عائد بيع اللوحات لصندوق مساعدة الجنود البولنديين الجرحى.