العمارة البيئية: مهندسة مصرية تثور على الخرسانة بـ«قش القمح»
مهندسة مصرية بدأت بالخطوة الأولى لتغير المناخ قبل سنوات. على طريقتها الخاصة اختزلت مراحل من التلوث البيئي الذي التهم العالم منذ الثورة الصناعية في القرن الماضي. عبر دراسة نفذتها عن “العمارة البيئية”، لتحول المخلفات الزراعية وقش القمح والرمال والصخور والطين إلى خامات بناء.
مساحة لا تتجاوز 40 مترا، شيدت عليها المهندسة المصرية د. مروة دبايح، أستاذ العمارة البيئية والتصميم المُستدام في السويد، منزلا يختلف عن كل منازل العالم. أساس وجدران المنازل كلها خامات صديقة للبيئة، من المخلفات التي تشكل عبئا حتى التخلص منها حرقا.
أول منزل من قش القمح
“قش القمح” كان وسيلتها لتحقيق حلمها التي حملته مع أوراقها وأبحاثها من مصر إلى “مالمو” بالسويد، متنقلة بين البلدين على مدار ثلاثة عشر عاما.
تروي د. مروة دبايح، تجربتها الفريدة لـ“باب مصر” في حوار خاص خلال إقامتها في السويد. خاصة مع عودة مشروعها للضوء بالتزامن مع الحرب الأوكرانية والحاجة إلى تنفيذ منازل ذات تكلفة أقل.
وتقول: “نفذت أول منزل في العالم من قش القمح على مساحة 40 مترا، كنموذج لأسرة مكونة من 3 أشخاص زوج وزوجة وطفل، وفقا لاشتراطات كود البناء في السويد حسب أقل مساحة لسكن اللجوء. وتم الانتهاء منه خلال 11 يوما بأيدي اللاجئين في السويد بهدف تدريبهم على بناء منازلهم، ومن الممكن بناءه أسرع والانتهاء منه خلال 4 أيام فقط مع عمال بناء محترفين”.
هذه الفكرة رغم بساطتها بطريقة “السهل الممتنع” إلا أنها استغرقت منها أعواما في البحث والدراسة وتجارب اختبارات الخامة التي تستخدمها، والتي تشترك جميعها أنها من الطبيعة.
حلم العمارة البيئية
يرجع اهتمامها بالعمارة في مصر خلال دراسة الماجستير عن التصميم البيئي والمستدام، على يد الدكتور الراحل بهاء بكري صاحب الفضل في تدشين القسم. وتعلمت منه أسس العمارة الشعبية في مصر، أما دراسة الدكتوراه كانت عن العمارة في الصحراء الغربية. لاحظت خلال دراسة الدكتوراه أن العمارة في الصحراء الغربية تتسم فيها المباني بكفاءة أعلى من المباني الحديثة، متسائلة: “كيف نصل لهذه الجودة من خامات بسيطة؟”. لتبدأ رحلتها في تعلم أسس التصميم البيئي والمُستدام.
من مصر إلى السويد كانت رحلتها لدراسة “العمارة البيئية” وبدأت د.مروة دبايح مسيرتها في السويد، عام 2009 بعدما انتهت من دراسة الدكتوراه ثم عادت للعمل في القاهرة. حتى خطرت لها فكرة بناء بيت يكون صديقا للبيئة، أملا في حل أزمة الإسكان واللجوء.
اقرأ أيضا| سكان الزمالك يرفضون إنشاء «الجراج».. وبحوث الأشجار: لم يحصلوا على تصريح
التصميم البيئي في مصر
حاولت دبايح تنفيذ فكرتها في مصر لكن كل الطرق باءت بالفشل، نظرا لعدة أسباب تكشفها لـ“باب مصر” أولها أن التصميم البيئي في مصر ما زال حديث العهد. بالإضافة إلى عدم الاهتمام في مصر بالبناء بطرق مختلفة عن الطرق التقليدية.
ويرجع غياب التطبيق العملي للمباني الصديقة للبيئة في مصر لعدة أسباب، على رأسها عدم وضع كود المباني قواعد ملزمة لعزل حراري على سبيل المثال، ولا يوجد في أكواد البناء استخدام خامة طبيعية وحال الحصول على تصريح بالبناء بخامة طبيعية يتم تصنيف المنزل أنه مؤقتا وليس دائما.
لم توفر الدراسة الجامعية لها إجابة على هذا السؤال. وعلى حد وصفها دراسة البكالوريوس تطرقت لهذه القضية دون تعمق في آلية التنفيذ أو تعلم التصميم البيئي ومعاييره. وتقول: “توفرت فرصة للتقديم على تمويل في السويد لتنفيذ المشروع، ومن بعدها استكمل الأبحاث في السويد”.
مهندس الفقراء
بعد بناء بيت “قش القمح” في السويد، وصف الكثير د.مروة بأنها خليفة المعماري الراحل حسن فتحي. وتقول: “فكره لم يمت وأحاول أن أحقق حلمه لكن ما زال الطريق طويلا”.
في أبحاثها التي استمرت على مدار سنوات، سارت على نهج د. حسن فتحي، المعماري المصري الراحل، فالبناء بخامات صديقة للبيئة ذات أنظمة تبريد وتدفئة طبيعية. كان حلم “مهندس الفقراء” ورغم أن العديد من المعماريين عاصروه حتى وفاته في الثمانينات وحاولوا تطبيق نظرياته نفسها إلا أنه لم يتم تعميم تنفيذها في مصر حتى الآن أو تغيير قانون لتطبيقها.
وتوضح: “التهيئة البيئية الداخلية للسكن وخلق جو مريح دون استخدام أجهزة تبريد أو تدفئة هي الحل للقضاء على شكوى المصريين من ارتفاع الحرارة المستمر. لأن السبب هو سوء تصميم المنازل والبناء بالطرق التقليدية”.
منزل سيغير العالم
الطريقة التي اتبعتها الباحثة المصرية للاهتمام بالبيئة تعد خطوة في طريق يسير على نهجه العالم بالتزامن مع تغير المناخ المستمر. ويعد قطاع الإنتاج والتشييد مسؤولا عن 40% من الانبعاثات الضارة في العالم. وعلى حد وصفها يجب البدء بتغيير أساليب قطاع التشييد المعتادة، ولن تتم إلا باستخدام خامات أقل ضررا.
وتوضح: “التغيير ليس سهلا، لكن على الأقل الاهتمام بالعمارة البيئية في العالم والبناء بالخامات الطبيعية سيظهر تأثيره في المستقبل مع تغيير المناخ وتقليل البصمة الكاربونية”.
كل خامة مُستخدمة في البناء التقليدي تبني منزلا لكنها في المقابل تتسبب في أثر لا يزول من الأرض بدءا من مرحلة إعدادها. مثل تجريف التربة لصنع الطوب على سبيل المثال، مرورا بمرحلة تصنيع الخامات وتشغيل المصانع التي تستهلك وقودا حيويا ذو انبعاثات قوية، حتى تشييد المبنى بالطريقة المعتادة.
ومن هنا جاءت الفكرة باستخدام مصادر من الطبيعة لتحقيق الاستفادة المثالية منها. وعلى سبيل المثال الخامة التي اختارتها للبناء “قش الأرز أو القمح” التي تعد من مخلفات الزراعة يتم حرقها في مصر وبالتالي تلوث البيئة.
البناء بالطين وقش الأزر والبوص
لم تقتصر خطتها لاستخدام خامة واحدة طبيعية فقط. بل تُطوع كل خامة من البيئة لاستخدامها في البناء. وتستكمل: “إذا تم البناء في الصحراء سنستخدم الرمال. ولو في بيئة جبلية سنستخدم الحجر في البناء، ولو منطقة بجوار النيل سنستخدم البوص، وفي مصر الأخشاب ليست متوفرة بكثرة لكن في الواحات يتم البناء بخشب النخل”.
دراسة مناخ المكان وظروفه البيئية تكون سببا في اختيار الخامة التي سيتم البناء بها، فطرق البناء هي التي تجعل المادة ذات عمر افتراضي طويل وتستطيع تحمل الأمطار والعوامل المناخية المختلفة.
“مش هنبني عشة”
واجهت المعمارية المصرية هجوم من المصريين عند طرح فكرتها بناء بيت من القش، وقالوا لها: “مش هنبني عشة”. وهي الجملة نفسها التي حاولت بكل الطرق تغيير القناعات المتعلقة بها. وتوضح: “المفترض نستخدم التكنولوجيا لصالحنا وقديما لم تكن الإمكانيات المستخدمة حاليا متاحة”.
نفذت المعمارية البيئية فكرتها بالفعل بين مصر والسويد. وتم بناء منزلين بالبوص والطين والحجر في مصر، ثم تجربتها لبناء أول بيت من قش القمح في السويد، عبر تصميم وحدات ذات إطار خشبي يتم ضغط قش القمح داخله والقش المضغوط يتسم بكثافة عالية مع إنه مضغوط في الإطار ويصبح وحدة البناء. وعادة ما يكون سمكه في حدود 40 سم وهذه الوحدة كأنها سمك حائط.
مميزات البناء بالمخلفات الطبيعية
وخضعت وحدات قش القمح للدراسة مثل تجربة مقاومة الحرائق، ومقاومة المياه، ومقاومة القوارض. وتوضح: “مضغوط بقوة لدرجة تمنع أي محاولة لثقبه. وكذلك مقاوم للحرائق لمدة 90 دقيقة حتى يحترق تماما ومع الطين تستمر المقاومة لمدة أطول، على عكس الطوب الذي يعد مادة محروقة لا تتحمل الحرارة”.
وبالمقارنة مع طرق البناء التقليدية، تعد هذه الخامة أرخص لأن القش من المخلفات وعادة ما يتم تخزينها في السويد أو تستخدم علف للحيوانات. ومن الممكن حال تعميم تنفيذها أن تساهم في حل أزمة القطاع السكني.
استخدام هذه الخامة في بناء المستشفيات والمدارس والمباني ستساهم في التأثير على الصحة أيضا. وبحسب ما توصلت إليه فإن المبنى بالخامات الطبيعية صحي لأن الإنسان يتنفس عبر مادة تتنفس وتنقي الهواء. وبالتالي ستساهم في تقليل أمراض الحساسية والمناعة والعظام.
على غرار بيوت اليمن المكونة من 10 و14 دورا باستخدام الطين فقط، تستطيع خاماتها استغلال الوحدات من الخامات الطبيعية لناء مبنى ذو عدة أدوار، “لم أجد شخص جريء أو شركة مقاولات تتبنى القضية”.
مصر والعمارة البيئية
تقول د.مروة: “تهتم مصر بتنفيذ محطات شمسية ومشاريع بالطاقة المتجددة. لكن في الوقت نفسه مازالت تفتقر تنفيذ العمارة البيئية، والتي حال تنفيذها ستقلل الكثير من الأعباء الملوثة بيئيا”.
“ماذا ينقص مصر للبناء بالخامات الطبيعية؟”. أجابت: “ينقصنا الوعي والرغبة السياسية والقوانين للبناء وينقصنا مستثمر ذو وعي وضمير. فبناء الوحدة السكنية له هدف أسمى لمراعاة المناخ والبيئة بغض النظر عن جانب الربح”.
وأشارت إلى بناء العاصمة الجديدة في مصر، والتي كان من المفترض تخصيص مساحات بها بخامات طبيعية لأنها مدينة المستقبل. فضلا عن أن البناء في الصحراء يحتاج إلى ظروف خاصة لمنع الحرارة دون جهاز تبريد. وبعد انتهاء عمر المبنى الافتراضي ستعود الخامة الطبيعية للبيئة من جديد.
مهندسة المناخ الحار
حياتها في بلد تتسم بالمناخ الحار كان سببا في استنكار البلدية في السويد. وتقول: “انتقدني الكثير لأن خبرتي في بلد ذو مناخ حار، ولكي أنفذ أفكاري في بلد ذو مناخ بارد طلبوا مني الكثير من الضمانات واختبارات الأمان للسكان والمارة خاصة مع الهواء الشديد الذي يساهم في سرعة انتقال الحرائق”.
تستكمل: “بعدما تم الانتهاء من مشروع البيت رفعوا لي القبعة وصارحتني مديرة قسم البناء في البلدية بأنها كانت متخوفة من عملي. وقالت الآن سأطلق عليكي اسم الساحرة المصرية”.