«طب وثقافة وناس»: ماذا نفعل بكل هذه الاستعارات الحزينة
في كتابها الذي صدرت طبعته الأولي سنة 1977، “المرض كاستعارة”، لم تعرّف سوزان سونتاج الاستعارة، لكنها حين أضافت لكتابها هذا جزء ثان عن “مرض المناعة المكتسب واستعاراته” بعد عشر سنوات (1988). قالت في الصفحة الأولى من هذه الإضافة: لقد قصدت بالاستعارة أقدم وأبلغ تعريف أعرفه، وهو تعريف أرسطو في كتابه “الشعر”: الاستعارة هي إعطاء الشيء اسما يخص شيئا آخر.
وبلغة أكثر حداثة من لغة أرسطو: الاستعارة هي نقل الشيء من مجال محدد إلى مجال آخر. ويبدو لي أن سونتاج، وهي تكتب عن نقل المرض من مجال الطب إلى مجالات أخرى (الأدب والصحافة والسياسة). أي من مجال خاص إلى مجالات أكثر عمومية، وربما بتأثير مباشر من تجربتها الشخصية مع المرض. لم تنتبه إلى أن الطب نفسه، قديما وحديثا، هو إمبراطور الاستعارات.
وهذا الوصف نفسه مستعار من كتاب سيدهارتا موكرجي عن السرطان، والمعنون بـ“إمبراطور المآسي”. وأرجح أيضا أن غضبها كمريضة مزمنة بسرطان الدم أنساها، ككاتبة محترفة وذائعة الصيت. أن البشر جميعا لا يستطيعون فهم العالم دون نقل الأشياء من مجالها الخاص إلى مجال آخر، أو بإعطاء الشيء اسم شيء آخر كما نقلت هي نفسها عن أرسطو. نسيت أن مرضها الشخصي، إذا كان اسمه سرطان الدم.
**
فالسرطان استعارة من البحر (الكابوريا)، وإذا كان اسمه ابيضاض الدم فهو استعارة من عالم الألوان {لوكيميا: لوكوس تعني باليونانية القديمة أبيض}. أبعد من ذلك أن أيبوقراط -الذي طالب بفصل الطب عن الفلسفة- وشركاه عندما أرادوا أن يفهموا جسم الإنسان استعاروا العناصر الأربعة من فلسفة انبادقوليس عن الطبيعة. وكان هذا لائقا تماما عندما كان الإنسان جزءا من هذه الطبيعة.
لكن كيف يوجد التراب والماء والهواء والنار في الجسم البشري. قالوا إن وجودها معا يؤدي إلى تكون أخلاط أربعة: الدم والبلغم والصفراء والسوداء. وقسموا الأمزجة إلى أربعة: الساخن والبارد والرطب والحار. صار الإنسان مجموعة من الاستعارات المنقولة من الخارج (الطبيعة) إلى الداخل (الجسد). شبكة من المجازات نفهم من خلالها كيف يعمل هذا الكون الصغير.
ولكي تكتمل النظرية، وعندما أراد أيبوقراط أن يعرف المرض قال إنه خلل في توازن الأخلاط. وظل هذا الفهم يتسع أفقيا من اليونان إلى الرومان ثم ما بين النهرين، ويصعد رأسيا في الزمن حتى القرن الثامن عشر. حيث استقر الإنسان على الآلة كاستعارة كاملة من ميكانيكا ديكارت. تتألف من استعارات صغيرة: القلب مضخة، الذراع رافعة، القصبة الهوائية فلوت، والمعدة رحاّية تطحن الغذاء، والمخ آلة تفرز التفكير كما تفرز المعدة العصارة…. إلخ.
هذا الفهم الجديد تقريبا هو ما جعل فرانكشتين ماري تشيلي ممكنا (1818)، لكنه لم يقض تماما على نظرية الأخلاط والعناصر.
**
تطور علم التشريح، فرأى الإنسان تفاصيله من الداخل: أعضاء ترتبط بشبكة من الشرايين والأعصاب، تشبه الأنهار التي وصفها أيبوقراط من قبل في حديثه عن القلب الذي يسبح في غشاء كأنه زجاجة. عندها توقف المرض عن كونه خلل في التوازن الكلي للأخلاط، بل خلل يصيب واحد أو أكثر من هذه الأعضاء.
وعندما اكتملت وسائل التشخيص كامتداد تكنولوجي للحواس رأى أن الأعضاء تتكون من خلايا، وأن المرض لا يصيب العضو العامل كله. بل يصيب عددا من خلايا هذا العضو. وعندما اتسعت عيناه ورأى الجراثيم بالفعل، في نفس الوقت الذي اتسعت فيه خطواته فغزا بلاد الآخرين، وأسس المستعمرات البعيدة، رأى الأطباء، وكان بعضهم للأسف في طليعة الاستعمار. أن المرض هو رد فعل الجسد على “غزو” تقوم به الجراثيم. وأن خلايا الدم البيضاء هي “خط الدفاع “الأول ضد هذا الغزو. وأن القيح أو الصديد هو تجمع القتلى، شهداء المعركة. فإذا انهار خط الدفاع هذا، أسس الجرثوم لنفسه “مستعمرات” دائمة في الجسد المريض.
لا الاستعمار ولا الحرب هي آخر الاستعارات الحزينة، هي طريقة لفهم العالم، فكان طبيعيا، بعد أن استعار الطب تكتيكات الحرب ونقلها من ميادين القتال إلى داخل جسم الإنسان، أن يستعيدها الساسة –ونسبة كبيرة منهم كانوا جنرالات في الحروب- ويعيدون طرحها إلى الخارج. ويعلنون في منتصف القرن العشرين: الحرب على السرطان، ثم الحرب على الإيدز.
وكان طبيعيا أيضا في الألفية الجديدة أن نعلن “الحرب” على كوڤيد 19. وأن نعلن أن الأطباء هم جيشنا الأبيض في مواجهة الوباء، وأن يقف الناس في الشرفات يؤدون التحية العسكرية إلى شهدائنا من أصحاب المعاطف البيضاء.
**
الجذر اللغوي لكلمة “الثقافة” في اللغة العربية: ث ق ف، وثقف هذه تعني صقل الشيء وهذبه وسواه، والشيء هنا هو السيف غالبا، والمثقف اسم من أسماء السيف، والمثاقفة هي اللعب بالسيوف. ولم تأخذ الكلمة معناها المعاصر سوى في عشرينيات القرن العشرين عندما استخدمها سلامة موسى للمرة الأولى كترجمة أو كمقابل لكلمة culture في اللغات الأوروبية الأكثر شيوعا.
وبالمثل لم تستخدم كلمة culture في هذه اللغات بمعناها المعروف الآن سوى في القرن الخامس عشر. حيث كانت تعني العناية بالزرع أو الزراعة، ومنها agriculture والتي تعني البستنة أو العناية بالبساتين.
لن نتحدث عن الفارق بين الأصل الزراعي والأصل الرعوي/الحربي للكلمات. بل نسأل: أين تذهب المعاني القديمة للكلمات حين نضفي على هذه الكلمات نفسها معان جديدة: هل تموت ويطويها النسيان؟ أم أنها تظل محمولة في الكلمات كمرادف خفي قليل الحظ؟ أو كجين متنحي يعيش في ظل الجين السائد والمسيطر. ينتظر طفرة وراثية يستعيد بها مكانته القديمة في عالم جديد؟ هل انتبهت معي للاستعارة المفاجئة، للانتقال من اللغة إلى الجينات، ومن القاموس إلى الوراثة؟
**
نعود إلى كتاب سونتاچ، لنرى أنها مرت في الجزء الأول من كتابها مرورا عابرا على السفلس، المرض الأسوأ سمعة في التاريخ، والذي اكتسب أسماء عديدة لها علاقة بالحرب والغزو: في فرنسا عرف بالمرض الإسباني. وفي إيطاليا عرف بالمرض الفرنسي، وفي روسيا عرف بالمرض البولندي، وفي شرق آسيا عرف بالمرض الهولندي، كشكل من أشكال الحط من شأن المعتدي، أو كصورة هزلية سوداء من صور المقاومة.
وفي الوقت نفسه اكتسب المرض اسمه المعروف من قصيدة شعر باللاتينية وضعها الطبيب جيرلامو فراكستورو سنة 1530، تحت عنوان: سفلس أو المرض الفرنسي. وهو أيضا المرض الذي أصاب العديد من الكتاب والشعراء، كعلامة على البوهيمية واستهلاك الحياة مثله في ذلك مثل السل الرئوي.
فلماذا مرت هنا مرورا سريعا، واستقرت طويلا في السل والسرطان؟ السؤال الثاني الذي خطر ببالي هو: لماذا لم تمسك سونتاچ الشمعة من طرفيها؟ أو لماذا ركزت في بحثها على اتجاه واحد: نقل المرض من كتاب الطب إلى الأدب والسياسة. ولم تفكر للحظة واحدة أن المرض في كتاب الطب من الجائز أن يكون استعارة أيضا.
ليس اسم بعض الأمراض فقط، بل ووصفها أيضا. الغريب أن كل ما نقلته سونتاچ عن السل الرئوي من أوصاف: الموت النبيل أو الجميل، الموت الأبيض، هي أوصاف موجودة في العالمين: كتاب الطب، والروايات والمسرحيات.
بالفعل كانت واضحة ودقيقة في رصد التناقض بين: السل والسرطان، الأول هو مرض مرتبط باستهلاك الحياة، والثاني مرتبط بالكبت، والفشل في تعبير الذات عن نفسها. السل الذي يصيب الرئتين، مقر النفس الحيوي، مستقر الروح، يسمو بالمريض ويجعله روحانيا شفافا. والسرطان الذي يصيب الأعضاء غير الروحانية يسجن المريض، ويعزله وحيدا في سوداوية مذلة، وشعور مخجل بالعار.
**
ستجد أوصافا كهذه في كتاب الطب أيضا: مريض السل له وجه أبيض شفاف، وسحنة مريض السرطان ترابية. هل انتقلت الأوصاف هذه من كتب الطب إلى الأدب أم حدث العكس؟
بالعودة إلى سؤال المعاني القديمة للكلمات: سنجد أن كلمة humors والتي تعني أخلاط: الدم والبلغم والسائل المراري الأصفر والسائل المراري الأسود. الكلمة التي اختفت بعد موت جالينوس في القرن الثاني الميلادي واستقرار المسيحية في أوروبا واستقرار الطب في يد رجال الدين.
ثم عادت للظهور مرة أخرى في القرن الخامس عشر، وفي الأخير استقرت في الكتب الطبية الحديثة كعنوان كبير في فصل المناعة humoral immunity أو المناعة الخلطية.
وصف جالينوس سرطان الثدي، بأنه تجمع صلب للسائل المراري الأسود بالثدي. لكنه في الوقت نفسه آمن أنه نتيجة لزيادة السوداء في الجسم، وبالتالي يكون السرطان مرضا يصيب الجسم كله. الأغرب إنه في عالم جالينوس كانت الملانكوليا أو الاكتئاب بلغتنا الحديثة مرتبطة بزيادة السائل المراري الأسود في الجسم.
**
ربما لم يربط العالم القديم بين السرطان والملانكوليا ربطا واضحا صريحا، لكن المحدثين فعلوا ذلك. وتعتقد سوزان سونتاچ أن الطبيب النفسي فليهلم رايش (1897-1957)، من الجيل الثاني لمدرسة التحليل النفسي هو مصدر هذا الربط: كان فرويد جميلا جدا…. عندما تكلم، ثم ضربه المرض هنا بالضبط، في الفم.
من هنا بدأ اهتمام رايش بالسرطان وبدأ في عرض نسخته من الرابطة التي تكلم عنها بين المرض القاتل وشخصية من يذلهم. بين المرض الذي يصيب الجسم كله والمرض الذي يتطابق مع شخصية المريض قبل تشخيص المرض. يظهر لنا ما يعرفه الأطباء بمتلازمة السرطان الشبيه (Para-neoplastic syndrome). حيث تقوم بعض الأورام بإفراز مفرط لبعض الهرمونات والمواد كيمائية وتتسبب في مزيد من الأعراض التي لا علاقة مباشرة لها بالورم الموضعي.
تضيف هذه الإفرازات صعوبة الموقف وتعيق من قدرة المريض على الحركة والتفكير بشكل إيجابي.
**
يثبت العلم الحديث أن جالينوس القديم كان على حق وإن كان تفسيره خاطئ. سنعود لكتابة سنوتاج الملهمة عن المرض كاستعارة كثيرا، لكن قبل أن نغادر السرطان، الذي سنعود له هو الآخر كثيرا، نذكر أن من طبيعة هذا المرض أن يتوغل موضعيا في مكانه، وأن يرسل بعضا من خلاياها إلى أعضاء بعيدة لتنشئ مستعمرات إضافية، هذه المستعمرات الجديدة نعرفها كأورام ثانوية (metastasis).
هذه الكلمة المكونة من مقطعين ـميتا = ماوراء، ستايزس = سكون. أي ما وراء السكون- لا تحمل في لغتها الأصلية أي دلالة شعرية، لكنها في الترجمة العربية تحمل هذه الدلالة. تماما مثل مرض آخر يصيب قلة من النساء، اسمه في لغته ليس جميلا إطلاقا لكن اللغة العربية تجعل منه ما يشبه عنونا لقصيدة نثر حديثة بـ”بطانة الرحم المهاجرة“.
لكن هذا موضوع آخر. هل نجحت سوزان سونتاچ في نزع البلاغة عن المرض؟ أعتقد أن هذا أيضا موضوع آخر.
اقرأ أيضا
«طب وثقافة وناس»: ميتافيزيقا الألم والإيمان والعرق