الدريتان… شفيق وعلي
روت لي أمي أن جدتي سمتها “درية” على اسم درية شفيق. لم أسأل نفسي يوما إن كانت تلك الرواية صحيحة أم أنها من خيالات أمي. لكنها كانت مؤمنة تماما بتلك الرواية. جدتي الصعيدية التي لم تذهب يوما إلى المدرسة، وتعلمت القراءة والكتابة والحساب على يد شيخ في بيت العائلة بالمنيا، كانت معجبة بنموذج صعود نجم درية شفيق بفضل تعلمها.
ولدت أمي عام 1940 بعد بضعة شهور فقط من عودة درية شفيق إلى القاهرة بعد حصولها على الدكتوراه من فرنسا. وربما نشرت صحف الاجتماعيات خبرا عن درية شفيق بوصفها شابة نابهة ممن تتبناهن أميرات العائلة المالكة وسيدات الأرستقراطية المصرية. وربما قرأت جدتي الاسم وهي التي كانت تقرأ الجرنال من السطر الأول حامل اسم رئيس التحرير إلى السطر الأخير في صفحة الوفيات. ثم الصفحة الأخيرة المتضمنة أخبار المجتمع الراقي.
**
عملت درية شفيق مفتشة للغة الفرنسية في الصعيد. ولابد أن هذا الموضوع كان حديث المدن الصغيرة والكبيرة في الصعيد حيث ولدت أسرتي من ناحية أمي. درية شفيق: تلك المرأة المتألقة، التي تجذب الكاميرا وتجمع بين جوانب مثيرة تبدو متنافرة: الجاذبية الفوتوغرافية واعتياد الظهور على صفحات المجتمع الراقي في الصحف، والنضال من أجل تحسين أوضاع المرأة الاجتماعية والتعليمية، والكتابة الصحفية النضالية، بل والعمل السياسي النسوي التحريضي. لابد كانت تجذب اهتمام نساء الصعيد المهتمات بالتعليم أثناء فترة الحرب العالمية الثانية.
عادت درية شفيق من فرنسا إلى مصر، بعد أن ناقشت الدكتوراه عام 1939. فإن كانت رواية أمي صحيحة. فلابد أن جدتي قد قرأت في إحدى صحف الاجتماعيات عن تلك الفتاة درية التي تمثل وجها مشرقا لمستقبل فتيات المرحلة المتأخرة من عصر النهضة العربية. تسافر وحدها وتدرس في الغرب مثل نوابغ الرجال والشبان آنذاك، وتحصل على أعلى شهادة تعليمية من أوروبا، وهو ما كان أمرا يكاد يقتصر على الرجال آنذاك. ثم إن جدتي ربما قد لاحظت – بشكل واع أو لا واعٍ – أن أختها، خالة أمي، تحمل ملامحها شبها كبيرا من ملامح درية شفيق، أو هكذا أتصور. الأنف، شكل قوس الحاجب، قوة الشخصية…
المهم أن أمي قد روت لي أكثر من مرة أن أمها – جدتي- قد سمتها على اسم درية شفيق. أيا كانت صحة هذه الرواية. فقد عشت حياتي أتصور تلك الصلة الوثيقة -المتخيلة- بين الدريتين -أو الدرتين- وأرصد بعض التشابهات المربكة بين تجاربهما الحياتية. كلتاهما كانتا من رائدات الاستقلال في الحياة، بواسطة الطلاق. وكلتاهما كانتا توصمان بالعناد، بل والجنون. وبسبب هذه التراسلات بين اسم أمي درية علي الكرار واسم درية شفيق، فعندي دائما نزوع حنون نحوها.
**
كانت جدتي -مثل كثير من السيدات من الشرائح الوسطى في الطبقات الوسطى- تؤمن بأهمية التعليم كوسيلة للتقدم وللاستقلال -بالذات بالنسبة للبنات- وأثبت التاريخ الاجتماعي المصري أن التعليم منذ محمد علي إلى اليوم هو أضمن وسيلة لترقي السلم الاجتماعي. مسار درية شفيق كان تجسيدا أيقونيا لتلك الفكرة.
التمرد “المجنون”:
المربك في حالة درية شفيق هو ما يُروى عن عبدالناصر من أنه شبهها ببروميثيوس البطل الإغريقي الذي سرق النار من الآلهة ودخل في صراع معها بسبب عمله البطولي المجنون هذا.
وصف ناصر لدرية شفيق بالبروميثية بالغ الدقة. فقد ذهبت درية الليبرالية في معارضتها لسلطوية ناصر إلى مدى لم يجرؤ على بلوغه إلا القليلون. اقتحمت البرلمان مع زميلاتها المناضلات النسويات قبل ثورة 1952 للمطالبة بالمساواة بين حق المرأة والرجل في الانتخاب. واعتصمت مرتين في نقابة الصحفيين لانتزاع حق الانتخاب للنساء بمساواتهن مع الرجال، مرة في 1954 في الأسابيع الأخيرة لوجود محمد نجيب في الحكم، ومرة في ظل ناصر.
ثم لجأت إلى سفارة الهند واعتصمت بها مطالبة برحيل ناصر عن الحكم. بعد أن اتضحت ملامح ممارساته الديكتاتورية بعد 1956، مما تسبب في وضعها قيد الإقامة الجبرية في شقتها. حيث ظلت حبيسة تلك الشقة حتى بعد رحيل ناصر، إلى أن انتحرت.
**
ينسى الجميع أن درية شفيق لم تكن فقط تلك المرأة “الهيستيرية” التي ترتدي ملابس تلفت الانتباه بأناقتها وغرابتها وبالمبالغة في رسم قوس حواجبها، والتي تنظم المظاهرات والاقتحامات بأساليب التهييج السياسي المعتادة في الغرب. بل كانت أيضا من أكثر الناس صفاء في الرؤية ورأت بعد شهور من تتويج ناصر زعيماً للبلاد ما ستؤول إليه الأمور تحت سياسة حكم الفرد.
لكنها قاومت هذا المسار المحدق مقاومة دون كيشوتية أو بروميثية أو تراجيدية إغريقية: وحدها وقفت ضد ناصر الذي يحظى بتأييد الملايين، كأبطال سوفوكل صاحب مأساة أوديب: وحدها تصارع الآلهة.
ربما كانت درية شفيق أقرب إلى أنتيجون في تمردها على أبيها أوديب. فصراعاتها كانت دائما ضد الأبوية: أبوية أهلها، أبوية زوجها، أبوية مؤسسة الزواج، أبوية ناصر. لاسيما أنها كانت تكبر ناصر بحوالي عشر سنوات، فصغر سن ناصر في يوليو 1952 كان يصعب على الكثيرين أن يرتضوه في موقع الأخ الأكبر، ثم الأب الرمزي للأمة.
أما درية أمي، فبالنسبة لها كان أمر ناصر محسوما: كان هو الأب الرمزي الحقيقي لها، طوال حياتها. كان العوض عن أبيها “الأرضي” الذي كانت تحبه لكن لا تتفق مع الكثير من تصرفاته ورؤاه، والسند عوضا عن أبي الذي تركته بعد أقل من سنتين من الزواج. لم تكن درية أمي لتعتصم احتجاجا على سياسات ناصر. بل كانت -بعبارتي أنا- تتحرر طبقيا وإنسانيا واجتماعيا في ظل ناصر. تمردت درية شفيق على كافة دوائر الأبوية. واكتفت درية علي الكرار بالوقوف عند التمرد ضد أبوية الزوج.
**
هذا فارق الأجيال. حوالي ثلاثين عاما في العمر، بين امرأة متعلمة قوية وليدة عهد الليبرالية المصرية: درية شفيق؛ وامرأة قوية أكملت تعليمها الجامعي بسهولة بفضل سياسات دولة التحرر الوطني، في ظل “أبي الأمة”: درية علي الكرار.
القطار “القَدَر”:
قصة درية شفيق يمكن حكايتها من زاوية الدور الذي يلعبه القطار فيها. القطار مثله مثل التعليم الحديث دخل مصر في القرن التاسع عشر (التعليم في أول القرن والقطار في آخره). وكلاهما معلمان من معالم النهضة الأولى في القرن التاسع عشر. التعليم والسكك الحديدية لم يسهما فقط في تشكيل وممارسة الحداثة في المجتمع المصري، بل ربطا مصر بالمنظومة الاستعمارية البريطانية.
كان القطار الوسيلة المثلى والأسرع لنقل الحاميات المصرية للسودان والتي كانت تحتله مصر باسم حكم ثنائي مع بريطانيا. وكانت البيروقراطية الإمبريالية المصرية التابعة (لبريطانيا) تستخدم القطار لتصل من القطر المصري إلى السودان المحتل. بالمثل كان التعليم ينشر “أنوار العقل” لكن من خلال تعريب منظومات معرفية وتربوية غربية، بريطانية بالأساس.
**
أما درية علي الكرار فقد ركبت القطار مع أسرتها من المنيا إلى الخرطوم، حين انتقل جدي للعمل مدرسا للغة العربية بمدرسة الخرطوم الثانوية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت الخدمة في المنظومة الكولونيالية بالسودان هي السلف لحالة إعارة المعلمين المصريين إلى الدول العربية في الستينات، والتي توسعت وصارت حركة إعارة نشطة منذ السبعينات.
لم تكن أمي قد بلغت العاشرة، لكنها بمعنى ما ركبت مع أسرتها قطار الحداثة، والكولونيالية. حيث عاشت مع الأسرة في أم درمان كجزء من الجالية المصرية “الحاكمة”. هكذا كان السفر من قرية دمشير حيث بيت الجد الموروث عن أبيه، إلى البندر بالمنيا، إلى الجيزة والقاهرة. هو رحلة صعود السلم الاجتماعي عبر التعليم وعبر خدمة الدولة.
ثم انخرطت درية علي الكرار في حركة السفر بالقطار من الخرطوم إلى القاهرة (أو الجيزة بالتحديد) وبالعكس، منذ نهاية الأربعينات وحتى منتصف الخمسينات. استخدمت الأسرة فوائض المرتب الكولونيالي لتنتقل إلى العيش في حي الدقي بالجيزة، ثم في شراء فيلا من فيلات الأوقاف على بعد عشرات الأمتار من نادي الصيد، لتتوج صعود الأسرة من الشرائح المتوسطة للطبقة المتوسطة المدينية بالصعيد، إلى الشرائح الوسطى من تلك الطبقة بالعاصمة.
**
أية مفارقة أن والد درية شفيق قد توفي في محطة القطار في لحظة كانت درية عائدة فيها من رحلة بالقطار إلى الصعيد! بينما كان القطار هو محرك الحياة بالنسبة لعلي الكرار والد درية أمي: نقله من الصعيد إلى القاهرة حيث درس في الأزهر ثم دار العلوم، ونقله من القاهرة إلى السودان حيث كوَن مدخراته كمدرس للغة العربية.
القطار في حالة درية شفيق كان ساحة تحررها من كل سلطة رمزية، حتى الأب، ووسيلة تبسط بها فاعليتها بأرجاء الوطن كمناضلة نسوية تنشر فكرها ومجهوداتها لدعم تحرر المرأة وتقدمها. أما في حالة درية علي الكرار، فالقطار كان رابطها بأسرتها في رحلة صعود اجتماعي من الصعيد إلى القاهرة، ومن شرائح متوسطة إلى شرائح أعلى في الطبقة الوسطى.
النور والظلمة
تربكني تلك المصادفة التي تجعل من اسم درية قاسما مشتركا أعظم بين شريرات السينما: فكثير منهن يحملن اسم درية في أفلام الأبيض والأسود. في طفولتي كنت أشعر بألفة ما تجاه درية شفيق، لأن اسم أمي مثلها. لكني كنت أشعر كذلك بغربة ما تجاهها، غالبا بسبب قوس الحاجب المبالغ فيه والذي ينتمي لمواضعات السينما الكلاسيكية، حيث يوحي بالشر.
المؤكد على كل حال -في ذاكرتي وتجربتي- أن عددا كبيرا من الشخصيات النسائية الشريرة في أفلام الأربعينات والخمسينات كن يحملن اسم درية. وأن الاسم قليلاً ما كان يطلق على شخصية طيبة.
في ذاكرتنا البصرية العربية، يحمل الكثير منا تروما تجاه شخصية درية التي لعبتها الفنانة زمردة في فيلم “عصافير الجنة” (إخراج سيف الدين شوكت، 1955): زوجة الأب الشريرة التي تضطهد بنات زوجها البريئات. وتطلق اسم “درنجا” على المشروب الغازي الذي تنتجه مصانعه.
لكنها الأخيرة في سلسلة دريات شريرات على الشاشة: زوزو ماضي الزوجة اللاهية عن زوجها الطيب يوسف وهبي في فيلم “ضربة القدر” (إخراج يوسف وهبي، 1947)؛ ميمي شكيب العمة المتآمرة على ابن أخيها حسين صدقي لتزوجه من ابنتها في فيلم “شاطئ الغرام” (إخراج بركات، 1950)؛ وميمي شكيب أيضا الشريرة زوجة العم الشرير فريد شوقي الذي يستولي على أموال الفتاة اليتيمة الطيبة شادية في فيلم “آمال” (إخراج يوسف معلوف، 1952). كل هؤلاء كن درية.
**
هل تشي تلك المصادفة بأن من تحمل اسم درية عليها أن تكون في خانة المذنبة في لاوعي الجماهير العربية؟ على الأقل تسلط تلك المصادفة ضوءا ما على الجانب “الآخر” من كل درية.
كانت صديقة أمي تدللها مستخدمة الاسم “درة” ولا شك أن في اسم درية إشارة إلى العبارة القرآنية التي تشبه نور الله بأنه “كوكب دري”. تضافر التلألؤ القادم من اللؤلؤ. مع فكرة النور الغامر الذي يعم الأكوان القادمة من التراث المسلم، يلتقي مع مصادفة مجاز التنوير أو النهضة.
وكأن من تحمل اسم درية تحمل عبئا رمزيا تكون بمقتضاه محط الأنظار والأضواء وناشرة للتنوير والنور. ليس فقط حولها، بل على أوسع المستويات، مثل الكوكب الدري. ثم إن اسم درية وتدليله بـ”درة” يستدعي تلك السلطانة الأسطورية شجر الدر أو شجرة الدر.
حمل رمزي لاواعٍ ثقيل حملته درية شفيق، جعلها دائما محط الأنظار وربما ساعية إلى جذب الأنوار. وربما احترقت بهذه الأنوار عندما زاد وهجها إلى حد أزعج ناصر فحكم عليها بالإقامة الجبرية في شقتها. وربما كانت هذه المصادفة الرمزية التي تبدو قدرا مكتوبا على درية شفيق: مثلها مثل شجرة الدر. ذهبت في مناطحة السلطان إلى مدى أبعد من احتماله، ودفعت ثمن تمردها غاليا: القتل المادي لشجرة الدر، والمعنوي لدرية شفيق.
اقرأ أيضا
ملف| راوية صادق تكتب: «درية شفيق»أو الطريق الشاق إلى المعرفة
كرم يوسف تكتب: طنطا التي تلفظها درية شفيق.. وأحبها أنا
كارولين كامل تكتب: درية.. أن تجرؤ على الاختلاف
سهير الحفناوي تكتب: محاولات أكثر لمعرفة درية
حسام جاد يكتب: حين خرجت من بيت جدتي.. المدينة ألم يسكننا ونسكنه