خيري حسن يكتب: حكاية «القصر».. وحكاية «مصر»!
هذه ليست حكاية حريق، ولا حكاية رفيق. وليست حكاية مسرحية، ولا حكاية قضية. وليست حكاية شمعة كانت (والعة) شبت نارها فجأة، فقطعت الطريق – طريق الحياة والنجاة – لما يقرب من 70 مسرحيا ومثقفا كانوا داخل قاعة الفنون التشكيلية الملحقة بقصر ثقافة مدينة بني سويف – شمال الصعيد – والتي تبعد عن القاهرة 120كم.
في ذلك المساء الكئيب، المريب، جلسوا يشاهدون عرضاً مسرحياً لفرقة إقليمية، مغمورة، شابة من مدينة طامية بمحافظة الفيوم. النار اندلعت أثناء العرض فمات من مات وفر من فر وأصيب من أصيب. ونجا من نجا! نحن الآن أمام الموت حرقاَ، أو فزعاً، أو خوفاَ، لما يقرب من 32 وإصابة 37 إنساناً، بريئاً، شريفاً، ساقهم قدرهم التعس- وإهمالنا المؤلم البائس – إلى الموت في 5 سبتمبر من عام 2005.
**
إنها حكاية من حكايات الحزن المقيم، سجلها التاريخ في صفحاته – وما أكثرها في وطننا العربي الكبير – وسجلاته، ومروياته، للناس المحزونة، والمقهورة، والمظلومة، والمهمومة، والمسجونة وراء حيطان الموت الذي مازال – وسيظل – يسكن بيننا في كل مكان وفي كل زمان. إنها ليست حكاية مسرحية، أو لوحة فنية، أو قصة عادية، نسترجعها بصورة روتينية، كلما حلت الذكري السنوية… لكنها حكاية كما – كتب أحمد فؤاد نجم/ وغني الشيخ إمام – من حكاياتنا المصرية والعربية البائسة والحزينة:
“حكاية كل الناس
من قلب الناس للناس
تصحى على لسان الناس
وتبات في ضمير الناس
يا أشرف جرح
وأطهر جرح
وأوجع جرح
بقلب الناس”.
(بني سويف – بعد 30 يوم)
كان قد مر على هذا الحادث المروع ما يقرب من ثلاثة أسابيع عندما هاتفني الصديق مجدي عاصي وهو سياسي ومثقف – كان وقتها رئيس حزب الوفد في المدينة – وطلب مني على لسان القوي السياسية – عندما كان عندنا (قُوي).. وعندما كان عندنا (أحزاب) و(سياسة) – تنظيم حفل كبير لتأبين ضحايا الحريق في ذكري الأربعين، لتلك المأساة المروعة. وبالفعل أجريت عدة اتصالات متعددة، ومتنوعة لعدد كبير من الفنانين (خاصة نجوم المسرح).
يومها – للأسف – البعض اعتذر، والبعض تتردد! والبعض لم يرد أصلاً، الأمر الذي كاد أن يصيبني باليأس والإحباط، لولا الرد الذي جاءني عاجلاً، وسريعاً، ومستجيباً، من الفنان الكبير عبدالعزيز مخيون قائلاَ:” يا سلام.. ده الواحد يروح مشي”.
وبعد ساعة تقريباً عاد وهاتفني قائلا: “ممكن تستأذن لي من الزملاء المنظمين للتأبين أن اصطحب معي أطفالي الصغار؛ لأنه سيكون من الصعب تركهم في البيت بمفردهم في نهار رمضان”؟! رديت بحسم دون الرجوع لأحد: “يا فنان…من غير ما اسأل أي إنسان.. لو مشلتهمش الأرض نشيلهم فوق دماغنا”. وفي نفس اليوم استجاب للدعوة بكل إيجابية، وترحيب، وسرعة الدكتور أسامة أبوطالب، رئيس البيت الفني للمسرح الأسبق وقال: ” طبعاً جاي معاكم، ده واجب علينا كلنا “! ثم جاءني رد الفنان الراحل خالد صالح قائلاً:” أنا جاي يا صديقي…. وظل يتحدث عن بعض الأسماء (كانوا أصدقاء له) من المسرحيين الذين رحلوا في الحريق (لا أذكر الآن أسماءهم – حتى بكي وهو يغلق معي الخط)!
(بني سويف – قبل الإفطار)
سافر الوفد الفني والصحفي والإعلامي- وكنا في نهار رمضان – إلى المدينة، وتحملوا جميعاً مشقة الصيام والسفر معاً، ونجح مجدي عاصي (هو اليوم يجري عملية جراحية دقيقة) في استقبال الوفد بصورة رائعة، ومشرفة، رغم المضايقات الأمنية والحكومية التي تعرض لها وقتها.
(القصر – بعد الإفطار)
بعد وجبة الإفطار توجه الجميع إلى مبني القصر الذي كان محاطاَ بقوات مدججة بالسلاح بدون مبرر، وكان بينهم فرد أمن بلدياتي (أنا من قرية تابعة للمحافظة) وظل طيلة الساعات يراقبني بتوتر، وحذر، ودهشة. وأمام باب القصر – قاعة الفنون التشكيلية التي شب فيها الحريق أثناء العرض – وقف البعض يقرأ الفاتحة على أرواحهم الطاهرة، والبعض الآخر يبتهل إلى الله لهم بالدعاء، فيما شاهدت وسط الإضاءة الخافتة القريبة الفنان خالد صالح يضع رأسه على الباب المحترق أمامه، ويبكي بكاء مريراً.
بعد لحظات اقترب منه فرد أمن واصطحبه حتى منتصف الشارع ليواصل بكاءه وحيداً بعيداً عنا. بعد عشر دقائق تقريباً توجهنا إلى قاعة كبيرة بالقرب من كورنيش النيل. داخل القاعة احتشد أبناء المدينة من السياسيين والمثقفين والمسرحيين وفيها ألقى الدكتور أسامة أبوطالب والفنان عبدالعزيز مخيون – بالتبادل – كلمات صادقة وحماسية، وقاسية، وعنيفة ضد نظام مبارك وقتها الذي تسببت حكومته في هذه الكارثة غير المسبوقة.
(المدينة – بعد ختام الحفل)
في نهاية حفل التأبين (الذي أتمني تكرره بالفعاليات المتنوعة واللقاءات المستمرة) صعد الوفد الصحفي والإعلامي للأتوبيس استعدادا للعودة إلى القاهرة. قبل التحرك بدقائق لاحظت فرد الأمن (بلدياتي) – الذي كان ينظر لي طيلة اليوم بحذر، وترقب، ودهشة – وهو يقترب من الشباك الذي كنت أجلس بجواره ثم بهدوء عجيب وعدم إدراك قال: “يا بن عمي.. يا بن عمي…هو أنت بقي اللي منظم الليلة دي كلها.. ومدوخنا من تلات أيام هنا في التنظيم والترتيب الأمني…وكل ده ليه يعني؟ الله يرحمهم يا سيدي…والحي أبقي من الميت.. وأهي حادثة وعدت!” ثم انطلق بنا الأتوبيس، فيما عاد هو من حيث جاء.
(القاهرة – 2022)
وحتى تستمر حكاية (حريق) القصر – وتظل تذكرها مصر ولا تنساه. وحتى تعيش داخل الناس، وفي ضمير الناس، ويعلمها، ويدركها – ولا يجهلها – كل الناس ولا يعتبروها – كما اعتبرها – فرد الأمن بلدياتي حادثة (وعدت) علينا جميعاً أن نحكيها، ونرويها، ونكتبها، ونذكرها لكل الناس.. لتعيش في ضمير الناس. و(تبات) في ضمير الناس، وتصحي في ضمير الناس…
وتكون في قلوب وعقول الناس – عبر التاريخ – حكاية من حكايات(مصر)…وليست – فقط – حكاية (قصر)!
اقرأ أيضا
خيري حسن يكتب: نهارك سعيد.. يا عم نجيب