ملف| هكذا تحدث يوسف صديق عن ليلة 23 يوليو
بخلاف مذكراته التي صدرت بعد وفاته. ترك يوسف صديق (3 يناير 1910 – 31 مارس 1975) العديد من الوثائق الهامة التي تحدث فيها عما جرى في ليلة 23 يوليو. من بينها مقال نشرته مجلة «آخر ساعة» في يوليو1965 بمناسبة الذكرى الثالثة عشر للثورة وهو العدد الذي كتب فيه معظم رفاقه من الضباط الأحرار شهاداتهم عن ليلة الثورة تحت عنوان «قصة الليلة التي لا تنسى». هل اختلف ما قاله صديق في هذه الشهادة عما كتبه في مذكراته التي لا تزال تثير الجدل.
***
ربما لم تحظ مذكرات عن ثورة يوليو بجدل أكثر ما حظيت به مذكرات يوسف صديق والتي صدرت عام 1998 بعد وفاته بنحو ربع قرن بتحقيق الدكتور عبد العظيم رمضان. وترجع أهمية هذه المذكرات إلى الدور الذي قام به يوسف صديق ليلة الثورة وقد أطلق هو نفسه على ذلك اليوم “ليلة عمري”. كما تعرضت للخلاف الذي نشب بينه وبين مجلس قيادة الثورة- التي انضم إليه في أغسطس 1952. وبدأ الخلاف في مطلع 1953 بعد قرارات حل الأحزاب وإلغاء الدستور فقدم صديق استقالته وأصر عليها فتم إبعاده إلى أسوان ثم إلى سويسرا ثم إلى بيروت.
ثم عاد سر إلى مصر في أغسطس 1953 وأرسل برقية إلى محمد نجيب من قريته “زاوية المصلوب” يخطره فيها بعودته فتم تحديد إقامته في القرية ثم سمح له بعد ذلك بالانتقال إلى منزله بحلمية الزيتون. وأثناء أزمة مارس 1954 كان رأيه مع معسكر عودة عودة الحياة النيابية وإنهاء الحكم العسكري، فتم اعتقاله بعد أزمة مارس حتى مايو 1955 وأفرج عنه مع تحديد إقامته.
***
كانت الإشكالية في مذكرات يوسف صديق الصادرة بعد وفاته في أنها صدرت من تحقيق مؤرخ معروف بعدائه الشديد للحقبة الناصرية كما لم ينشر المحقق مع المذكرات صورة من الأوراق المفترض أنها بخط يد يوسف صديق وكان اللغط مرتكزا على نقطتين وهما قيمة الدور الذي قام به يوسف صديق وهل تحرك فعليا قبل ساعة الصفر أم لا؟ والنقطة الثانية هل قبض رجال يوسف صديق على جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وهما يرتديان الملابس المدنية؟ وهذه النقط الثانية كانت محل جدل واسع وتساءل الكثير هل عبد الناصر وعامر كانا يريدان الهرب في حال فشلت الحركة؟
في المذكرات المنشورة بعد وفاته وفي صفحة 109 يؤكد يوسف صديق أنه رأى عبد الناصر وعامر يرتديان ثيابا مدنية وهي قمصان بيضاء وبنطلونات وهذه الرواية تصدى لها اللواء جمال حماد بمقال له في جريدة الأهرام. ولكن هل تحدث يوسف صديق عن تلك الواقعة وغيرها مما حدث ليلة الثورة في حياة جمال عبد الناصر؟ معظم من يذكر مواقف يوسف صديق يستشهد بمذكراته المنشورة بعد وفاته بأكثر من عشرين عاما وتخلو من وثيقة واحدة ولكن يوسف صديق قد خرج عن صمته في حياة عبد الناصر مرتين الأولى عام 1954 أثناء أزمة مارس والثانية عام 1965 في العيد الثالث عشر للثورة وهذه المرة الثانية هي أهمهما لأنه تحدث فيها بالتفصيل عن ليلة الثورة وهي بمثابة وثيقة منسية.
***
في العيد الأول للثورة عام 1953 كان يوسف صديق مبعدا عن مصر ووقتها كانت الاحتفالات صاخبة عن الثورة وانهالت الأقلام تكتب عن أسرار تنشر للمرة الأولى وأصدرت المجلات والصحف أعدادا خاصة بتلك المناسبة وخاصة مجلة التحرير التي كانت تنطق رسميا باسم القوات المسلحة وتحدث في هذا العدد كل رفاق صديق ولم يذكره أحد بحرف واحد.
وفي مارس 1954 كانت الأجواء في مصر ملتهبة ويوسف صديق كان قد عاد إلى منزله محدد الإقامة تحت الحراسة وفي يوم 22 مارس 1953 تخرج مجلة روزاليوسف وبها مقال “الجمعية السرية التي تحكم مصر” بقلم إحسان عبد القدوس ليصف مجلس الثورة بأنه جمعية سرية ما زالت تعمل تحت الأرض ولا يعلم أحد عنهم شيئا، وهذا المقال قد أثار ضجة هائلة وأدى فيما بعد إلى سجن كاتبه ،
وفي العدد التالي لمجلة روزاليوسف والصادر يوم 29 مارس 1954 يستمر إحسان في كتابة ما هو أخطر من الجمعية السرية فقد كتب مقالا بعنوان “مصير الثورة ومصير رجال الثورة” كتب إحسان أن جمال عبد الناصر أو أي ضابط من مجلس قيادة الثورة لو ترشح الآن في انتخابات نيابية أمام حزب الوفد سيخسر ويقول إحسان أنه أخبر عبد الناصر بذلك وأن على عبد الناصر أن يخرج من الحكم ومن الجيش إلى صفوف المعارضة والأقلية ثم يكون شعبية ليفوز من خلالها بالأغلبية، وفي نفس صفحة مقال إحسان يجد القارئ تنويها مكتوبا به “ذكريات يوسف صديق صفحة 8” لتذهب لترى آراء يوسف صديق من وراء الحجر السياسي والإقامة المحددة. وكان هذا تحديا من إحسان للنظام وقتها وقد كتب إحسان في مقدمة الحوار “لقد اختفى اسم يوسف صديق من الصحف منذ فبراير 1953”.
***
في الحوار، يفتح يوسف صديق النار على سياسات مجلس الثورة ويتحدث أيضا عن ذكرياته ليلة الثورة وكانت بعنوان “أنا الذي قبضت على رئيس أركان حرب الجيش” ، قال يوسف صديق عن رأيه في مجلس قيادة الثورة: “كان مجلس الثورة قد خدعه مستشاريه المضللين فما حل شهر فبراير 1953 الذي كان محددا لعودة الحياة النيابية إلا وكان المجلس قد اعتقل الضباط الثائرين وحاكمهم وسجنهم وقام بإلغاء الدستور بحجة عمل دستور جديد وحلوا الأحزاب بحجة أن بعضها فاسد وصادروا أموالها وأصبح واضحا أن الثورة قد انحرفت وبدأت تنتكس”.
ثم يتحدث عن ذكرياته ليلة الثورة قائلا: ” تحركت على رأس قوة صغيرة في منتصف ليل 23 يوليو فقابلت في طريقي من معسكر هايكستب إلى إدارة الحرس قائد فرقة المشاة العسكرية هناك فاعتقلته وأخذته أسيرا ثم قابلت القائد التالي المساعد في الطريق فاعتقلته كذلك، وقد صادفت البكباشي جمال عبد الناصر والصاغ عبد الحكيم عامر في مصر الجديدة حيث علمت منهما أن أمر الضباط الأحرار قد كشف وأن رئيس أركان حرب الجيش يعقد اجتماعا في رئاسة الجيش لإصدار أوامر لمقاومة الحركة فأسرعت إلى مقر الاجتماع على الفور وهاجمت القيادة وقبضت على رئيس أركان حرب الجيش في مكتبه قبل الاجتماع وعلي معظم القواد الذين كانوا في طريقهم إليه وكذلك قبضت على القوات التي أرسلت لتعزيز الحراسة فقبضت بذلك على المقاومة وأصبح للضباط الأحرار الأمر في البلاد”.
***
من الواضح أن سرد يوسف صديق هنا كان مقتضبا وسريعا ولم يذكر أي نقاط من التي أثيرت فيما بعد عن الخطأ في ساعة الصفر والملابس المدنية ولكن الحوار كان مركزا أكثر عن نقد الحكم الحالي وسياسات مجلس قيادة الثورة ولم يمر حوار يوسف صديق مرور الكرام وكذلك مقالات إحسان فكانت النتيجة اعتقال الاثنين يوسف وإحسان وقد مكث إحسان في السجن ثلاثة أشهر بينما ظل يوسف صديقا في السجن الحربي حتى مايو 1955 ثم أفرج عنه مع استمرار تحديد إقامته حتى عام 1956.
وفي الاحتفال بالعيد العاشر للثورة عام 1962 ألقى جمال عبد الناصر خطابا في ميدان الجمهورية وذكر فيه دور يوسف صديق قائلا: “في السكة حصلت حادثة إن دلت على شيء فتدل على التوفيق؛ كان مفروضا أن التحرك بيكون الساعة واحدا، ولكن فيه واحد أعتقد أن التحرك الساعة ١٢- اللي هو يوسف منصور صديق- وأتحرك قبل الميعاد بساعة فقابلناه في السكة، قلنا له إيه اللي حركك بدري؟ قال الميعاد ١٢، قلنا له لا الميعاد الساعة واحدة، قال على العموم أنا تحركت الساعة ١٢، قلنا له تعالى بقي نطلع على القيادة، بنحت القيادة ونعتقل الناس اللي هناك. دا إن دل على شيء فيدل على التوفيق، وكانت هذه القوة هي القوة التي احتلت القيادة، وقبضت على جميع القادة في هذا الوقت، وبهذا مكنت للثورة من أن تسير في عملها. طبعاً قبل كده كل وحدة مشتركة في الثورة قامت بعملها وهي تعتقد أنها تؤدى رسالة، وهي طليعة ثورية لهذا الشعب” .
***
أما أهم ما كتبه يوسف صديق كان مقاله المنشور في مجلة آخر ساعة في يوليو 1965 بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة للثورة وهو العدد الذي كتب فيه معظم رفاقه شهادتهم عن ليلة الثورة تحت عنوان “قصة الليلة التي لا تنسى” وزينت الروايات بريشة الرسامين بيكار وكنعان وزهدي وكتب في هذا العدد ثروت عكاشة وعلي صبري وكمال الحناوي وأنور السادات وعزيز المصري وغيرهم. وكنب يوسف صديق شهادته في أربع صفحات، كما خصصت المجلة صفحة لزوجته للسيدة علية صديق لتروي فيها ذكرياتها عن ليلة الثورة.
***
كان عنوان شهادة صديق “خطأ في ساعة الصفر” مؤكدا على ما أثير حول تقدمه ساعة بالخطأ عن موعد ساعة الصفر المحددة وعندما علم بذلك بعد انتهاء العملية قال “إن هذا هو آخر خطأ أعلمه وأول خطأ أقوم به” ولكنه تحدث عن ملابسات القبض عن جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وهنا كانت تفاصيل الواقعة مختلفة عما ذكره الدكتور عبد العظيم رمضان في المذكرات المنشورة عام 1998 فكتب يوسف صديق عام 1965 مؤكدا أن جمال وعامر كان يرتديان زيا عسكريا حيث قال: “إن رجالي شكوا في مسلك رجلين لما رأوهما يتفرسان في العربات ويفحصان من فيها فتوجسوا منهما خيفة وكان رجالي قد أمروا بالقبض على كل الرتب الكبيرة” ومعنى ذلك أنهما كان يرتديان الزي العسكري وإلا فكيف عرف رجال يوسف صديق رتبة الرجلين؟ وهذا أيضا ما أكده اللواء جمال حماد فيما بعد ذلك بسنوات طويلة.
تبقى شهادة يوسف صديق التي كتبها في حياته ونشرت في عصر عبد الناصر هي الأهم لأنها الوحيدة المنشورة قبل وفاة عبد الناصر عكس الشهادات الأخرى التي قيل إنه سجلها مع حمدي لطفي وقد أثيرت حولها شبهات وقامت أسرة يوسف صديق بالرد عليها وكذلك ما نشره الدكتور عبد العظيم رمضان من مذكرات تخلو من صورة وثيقة واحدة وما بها من تناقض مع ما كتب يوسف صديق نفسه في حياته.