«النميم»: مصطلح مراوغ بحاجة إلى التعريف
في عام 1998 كنت أستعد لتقديم موضوع لرسالة الماجستير في الأدب الشعبي، واخترت موضوع “جر النميم” في مركز دراو بمحافظة أسوان. وفي ذلك الوقت طلبت منى إدارة المعهد العالي للفنون الشعبية الاتصال بالدكتورة نبيلة إبراهيم، أستاذ الأدب الشعبي بكلية الآداب جامعة القاهرة، وذلك لسؤالها إن كانت توافق على إشراف مشترك على الرسالة مع المعهد. وبالفعل قابلت الدكتورة نبيلة إبراهيم وعندما عرضت عليها الموضوع أبدت دهشتها، وسألتني بشغف وحرص العالم، هل لدينا هذا النوع من الفن، فأجبت بنعم. ثم طلبت منى شريط تسجيل يؤكد وجود هذا الفن قبل الموافقة، وهو ما تم بعدها بالفعل. ثم حالت ظروف شخصية وإدارية دون إتمام مشروع الرسالة.
يكشف هذا الموقف أنه من الضروري وضع تعريف لـ”النميم” كأحد موروثات الشعر الشعبي في مصر. وإذا كان هذا الأمر بديهيا عند التأصيل لأي ظاهرة شعبية، فإنه يصبح أكثر أهمية عندما تنحصر الظاهرة في بقعة جغرافية محدودة كمحافظة أسوان، وتكون مجهولة لبقية بقاع الوطن.
بعدما تواتر المصطلح كثيرا في مصر، نرى أنه قد حان الوقت لوضع تعريف لـ”النميم” كأحد موروثات الشعر الشعبي في مصر. وإذا كان هذا الأمر بديهيا عند التأصيل لأي ظاهرة شعبية، فإنه يصبح أكثر أهمية عندما تنحصر الظاهرة في بقعة جغرافية محدودة كمحافظة أسوان، وتكون مجهولة لبقية بقاع الوطن. أيضا اكتشفنا أن هذا المصطلح “مراوغ” يحتاج لضبط حدوده وصفاته.
محاولتان بينهما 20 عاما لتعريف النميم
في إطار المحاولات السابقة لتعريف النميم، وجدنا محاولتين جادتين، الأولى للباحث جمال وهبي، في كتابه “فن النميم في محافظة أسوان” الصادر في عام 1997م، والثانية للباحث والشاعر فيصل الموصلي عبر مقابلة مع البرنامج التليفزيوني “حدوتة مصرية” عام 2017م. وعبر مقابلة مع البرنامج الإذاعي “إمساكية رمضان الثقافية” في نفس العام، وبين محاولتي جمال وهبي وفيصل الموصلي 20 عاما.
تعريف الباحث جمال وهبي:
يقدم الباحث جمال وهبي تعريفا لفن النميم، ويقول: “فن النميم شعر شعبي عربي فيه إظهار لما يجول بخاطر الشاعر من معان وأحاسيس ووجدان من خلال مفردات وأوزان، لينم عن مكنون ذاته وما يختلج بصدره في إطار من وجدان جماعته الشعبية بالفطرة وما خزنته ووعته الذاكرة من إبداع أسلافه، هادفا خلال المطارحة الشعرية التفوق على أقرانه من الشعراء المشاركين له. حيث يحاول كل منهم أن ينمنم ويزخرف إبداعه الشعري ليأتي تعبيرا صادقا مؤثرا على المتلقين لإبداعهم من جماعتهم الشعبية”.
ومن ملاحظاتنا على هذا التعريف:
أولا: في هذا التعريف يؤكد الباحث جمال وهبي على الملامح الأساسية لفن النميم كظاهرة شعبية، فهو “شعر شعبي عربي – فيه إظهار لما يجول بخاطر الشاعر – في إطار من وجدان جماعته الشعبية – هادفا خلال المطارحة الشعرية التفوق على أقرانه من الشعراء المشاركين”.
ثانيا: ركز التعريف على النميم كفن شعري في ذاته، دون التركيز على صورة أداء هذا الفن، وحتى الحديث عن “المطارحة الشعرية” يمكن أن ينصرف إلى التراث العربي القديم من مطارحات بين الشعراء كجرير والفرزدق، التي لا تشترط وجود الشاعرين في مكان واحد لحظة الأداء.
ثالثا: أسرف التعريف في التأكيد على ذاتية الشاعر “فيه إظهار لما يجول بخاطر الشاعر من معان وأحاسيس ووجدان من خلال مفردات وأوزان لينم عن مكنون ذاته وما يختلج بصدره”، حتى نظن أننا أمام تعريف للشعر فقط.
تعريف فيصل الموصلي:
قدم الباحث والشاعر فيصل الموصلي تعريفه لفن النميم قائلا: “فن النميم هو فن شفاهي نشأ في قبائل العربية في أسوان، والقبائل العربية هم قبائل العرب العقيلات، العبابدة، الأنصار، الجعافرة، دول اللي نشأ وسطهم هذا الفن الشفاهي العريق”.
ثم أكد الموصلي نفس التعريف لفن النميم، قائلا: “فن النميم هو شعر قولي بالدرجة الأولى، شفاهي، نشأ في القبائل العربية التي جاءت إلى مصر مع فتوحات عمرو بن العاص، سنة 620 ميلادي، يقابلها 18 هجري، القبائل العربية اللي استوطنت النوبة هي قبائل عرب العقيلات، في أسوان عموما فيها العرب العقيلات والجعافرة والعبابدة الذين يرجع نسبهم إلى الزبير بن العوام، والأنصار وحكم، موجودين في محافظة أسوان، هذه القبائل هي التي نشأ بينها فن النميم”.
ملاحظاتنا على تعريف الموصل:
أولا: في هذا التعريف يكتفي الموصلي بتعريف النميم بأنه “شعر قولي شفاهي بالدرجة الأولى”. ثم ينتقل مباشرة إلى محاولة التأصيل للبيئة التي نشأ فيها.
ثانيا: يبدو الباحث مشغولا عن الظاهرة الشعبية موضوع الدراسة “النميم”، حتى جاء التعريف منطبقا على كل أنواع الشعر الشعبي.
ثالثا: التأصيل والتوثيق للمكان أو المجتمع أو البيئة التي نشأت فيها الظاهرة الثقافية، يأتي في مرحلة تالية لتعريف الظاهرة.
رابعا: أن الباحث لم يراجع أو لم يشر إلى جهود الباحثين السابقين في موضوع شعر النميم، وبالتالي هو لم يحاول الاستفادة منها بنقدها وتفنيدها أو البناء عليها أو حتى تقديم تعريف يتفادى القصور فيما سبق.
النميم:
في محاولتنا لتعريف النميم، نقول: النَّمِيمُ لغة هو “الصَّوْتُ الخفي من حركة شيء أَو وطء قَدَم”.
والنميم اصطلاحا هو ارتجال لنوع من المربعات الشعرية، يقوم على المراكمة الفنية المضطردة، لعناصر عددية وجمالية، يؤديه الشاعر الشعبي إنشادا مع الترنم، في مواجهة شاعر شعبي آخر أو أكثر يقوم بنفس المراكمة في موضوع محدد، وذلك في حضور جمهور يمثل الحكم في اختيار أبرع الشاعرين في أداء هذا النوع من الشعر الشعبي.
ومثال ذلك، ما رواه الشاعر الشعبي أحمد الأمين ريحان، الشهير باللولي. حيث يكشف عبر مربعين شعريين عن شكل المبارزة والتنافس بين شاعرين ويقول:
من يوم ما نويت من حلة أم درمان (نويت السفر من بلدة أم درمان)
متل اللي قطعوا دنبو وسفروه لومان (كأنني مذنب حكم عليه بالسجن فلا عوده له)
قالنلي روح في وداعة الرحمن (ودعنني بالدعاء)
وعينيه حاكت الساقية اللى بقارها سمان (ودموعهم تنهمر مثل ساقية تجرها بقرات سمان)
و يرد عليه شاعر آخر:
من يوم ما نويت من حلة البدواب (نويت السفر من بلدة البدواب)
متل اللي قطعوا دنبو وسفروه بجواب (كأنني مذنب حكم عليه بالسجن وسافر بخطاب تسليمه)
قالنلي روح في وداعة التواب (ودعنني بالدعاء)
و عينيه حاكت أبو ميه وتمانين باب (ودموعهم في غزارة خزان أسوان ذى الـ180 بوابة)
نلاحظ هنا المراكمة العددية في عدد جرار الساقية مقارنة بعدد بوابات خزان أسوان (حاكت أبو ميه وتمانين باب) وما يستتبعه ذلك من مراكمة فنية في التعبير عن شدة الحزن بقدر الدموع التي تسح.
هل النميم غناء أم إنشاد؟
يطرح البعض أشكالا من الغناء تقوم على المربعات الشعرية على أنها من النميم، وهذا نوع من الخلط، ربما يرجع إلى أن الجماعة الشعبية تطلق على مربع النميم “غنوة” وعلى النميم غناء، في جلسة سمر على مقهى “سحنون”. يقول أحد جمهور النميم، كامل محمد أحمد: “للشيخ محمود محمد موسى، (أحد رواد فن النميم)، غنوة واحدة أو غنوتين اللي جابهم في حياته فرايحي”.
وفي نفس الجلسة على مقهى “سحنون”، يقول مصطفى محمد دردير أحد جمهور النميم: “دى أغاني قديمة منعرفش صاحبها مين”.
لكن ثبت لدينا في ميدان البحث أن إلقاء نص النميم لا تصاحبه أي آلة موسيقية على الإطلاق. وحتى في حال طلب الجمهور للغناء، يتوقف شاعر النميم عن إلقاء النص، وينشد بعض المربعات على أنغام الموسيقى لبعض الوقت. ثم يعود إلى استكمال نص النميم، أما إلقاء نص النميم فهو “إنشاد مع الترنم”.
ويوضح الباحث السوداني عبدالمجيد عابدين في كتابه “مدخل إلى فنون القول عند العرب القدماء” المقصود بـ”الإنشاد مع الترنم”. فيقول: “وصفه محمد مندور بأنه ( إلقاء منغم ). كما وصف الغناء بأنه (إنشاد ملحن).. وقد عقد سيبويه في كتابه بابا سماه (باب في وجوه القوافي في الإنشاد).. أوضح فيه نوعين من الإنشاد في أداء القوافي وتختلف وجوه أدائها باختلافهما؛ فنوعا يسميه الإنشاد، ونوعا يسميه الإنشاد مع الترنم.
أما النوع الأول فهو ما نسميه الإنشاد المعتدل أو المرسل.. أراد بالإنشاد المرسل أن يكون غير مقيد بطريقة الغناء ولا آخذا منها. أما النوع الثاني فهو إنشاد يأخذ من الغناء بنصيب ما، فيرجع شيئا من الكلام ويردده، ويقف عند بعض حروفه وحركاته مترنما. وهذا هو الإنشاد مع الترنم كما سماه سيبويه أو الإنشاد الغنائي كما نسميه”.
نص النميم
يتم جر النميم في ليالي الأفراح كـ(ليلة الحناء) غالبا، وأحيانا في مناسبات أخرى. ويبدأ نص ليلة النميم بذكر الله، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم والثناء عليه راجين شفاعته. ثم يعرج الشعراء على ذكر أهل البلدة، أو القرية صاحبة الليلة، فيتم مدح نسبها، وذكر مناقبها خاصة حفاوة استقبال أهلها للشعراء. وينتهي المطاف بذكر أصحاب الليلة، والمناسبة، راجين من الله أن يعيد عليهم المناسبات السعيدة.
ما أن ينتهي المفتتح، حتى تبدأ الهمهمات بين الجمهور، تنشط ذاكرة الجماعة الشعبية محاولة حث الشعراء على مجال معين (موضوع محدد لليلة)، فيميل الكثير للخدار (ذكر البنات). وهنا يتجه الشعراء إلى أكبرهم سنا ومقاما طالبين منه فتح المجال، أي اختيار موضوع الليلة. وعقب الاختيار يلتزم بقية الشعراء بهذا المجال، يتحاورون فيرفع (ينشد) الشاعر غنوته أي يقول المربع واضعا عناصر التحدي فيه. إما صورة جمالية، أو صورة عددية. ثم يتلوه الشاعر الآخر بالرد ملتزما بالمجال، ومحاولا التفوق بصورة أقوى. ويأتي الدور على الشاعر الثالث أو الرابع إن وجد. ثم يعود الدور على الشاعر الأول وهكذا في حوار يستمر (جر النميم) حتى قبيل طلوع الفجر. فيذكر الشعراء بعضهم البعض بأنه قد حان وقت الصلاة، وأن الجمهور أرهق، فيختم الشعراء كل حسب دوره شاكرا أهل البلدة، وأصحاب الليلة متمنين لقاءات أخرى.
اقرأ أيضا
من صغر سني وحب البنات ميراثي: النميم وسواس همس الكلام الجنوبي