القاهرتان(9): لغز علي باشا مبارك
من الانصاف أن نشير إلى أن لجنة الحفاظ على الفن والتراث العربي قد اشتبكت في جدال مع وزارة الأشغال العمومية حول قضية “حمى الهدم” التي استهدفت القاهرة القديمة بحجة “خط التنظيم”. اشتعل الخلاف بين الأثريين والمصممين العمرانيين حتى ذاع ذكر ذلك في الأفاق فتناقلت الصحافة الدولية وجهتي نظر متناقضتين فيما يتعلق بوضع المدينة القديمة.
الأولى أن لجنة الحفاظ ترى ضرورة وقف عمليات الهدم خوفًا على اندثار ما تبقى من مآثر المدينة القديمة وعناصرها التقليدية، بينما الثانية هي رؤية علي باشا مبارك، وزير الأشغال ومهندس عمليات التنظيم، الذي يفضل أن يخضع أي مبنى، مهما كان تاريخه أو قيمته، لخط التنظيم، الأمر الذي يتطلب “عمليات هدم مهمة” في سبيل تحقيق هذا الغرض. في النهاية، فرضت السلطة كعادتها رأيها وانتصر الوزير وخط التنظيم على لجنة الحفاظ وبالتالي اسُتكملت عمليات الهدم دون أي مراعاة لقيمة الجوامع الكبيرة التي تصدعت فتركت على حالها وأحيانًا تم إعادة بنائها في أماكن أخرى دون التفكير في “قدرتها على الخضوع لمثل هذه التدخلات” كما يؤكد جان لوك أرنو.
**
وردا على الضغوط والاعتراضات التي أثيرت ضد هذه التدخلات، لاسيما ما نشرته الصحافة الدولية عن المباني التي طالتها معاول الهدم، أدلى علي مبارك بتصريحات أقل ما يمكن أن توصف بها أنها مضحكة! قال إن ماتم هدمه كان محملًا “بذكريات سيئة” كتنكيل المماليك بخصومهم لاسيما تطبيق عقوبات الإعدام على رؤوس الأشهاد (ولعله أراد الإشارة إلى وقائع دامية ومشينة كإجبار المحتسب المعزول على بن أبي الجود على الرقص حتى الموت في شوارع القاهرة على يد المحتسب الجديد بركات بن موسى في زمن السلطان الغوري).
أنهى الوزير كلامه بمقارنة غير مفهومة: “إننا لا نريد هذه الذكريات السيئة بعد الآن. نريد تدميرها كما دمر الفرنسيون الباستيل! ” لم يدرك على مبارك أن هذه ذريعة تحرجه أكثر مما تبرر موقفه لأن بعض هذه الذكريات السيئة التي يجب إزالتها مرتبطة بقلعة الجبل، المستثناة من أية عمليات هدم أو تنظيم. قلعة الجبل، كونها مقر السلطة في ذلك الوقت، كانت مسرحًا لمذبحة دموية ضد قادة المماليك، نظمها في عام 1811 محمد علي باشا، أستاذ علي مبارك! بعد هذه المذبحة، كما يقول الجبرتي، تعرضت القاهرة القديمة لهجوم من قبل جنود الوالي لمدة ثلاثة أيام، بهدف القضاء على من تبقى من المماليك. وتمثلت الحصيلة الإجمالية في مقتل ألف مملوك، من بينهم 470 قتلوا في القلعة تحت أعين الباشا، ونهب خمسمائة منزل، يقع معظمها في القاهرة القديمة.
ومع أن عصر إسماعيل قد اشتهر بإنجازاته العمرانية، فإن ذلك لم يمنع الدبلوماسي الإنجليزي إدوين دي ليون عن تشبيه القاهرة القديمة بأنها تماثل مدينة قد «تعرضت للقصف مؤخرًا» وبصورة أكثر تفصيلاً يصف جاك بيرك الضرر الواقع على القاهرة القديمة من جراء “التنظيم”:
“وهكذا تختفي الكنوز التي لا تقدر بثمن إلى الأبد. تم خلع الكوابيل ثم إلقاءها. تم تقطيع المآذن، بحجة تصدعها، حتى تداخلت قطعها (الاسطوانية) في بعضها فصارت تشبه المنظار (التلسكوب). لابد أن سوء حظ هذه المدينة الساحرة جعلها تسقط دون مقاومة في أيدي لجان إزالة المباني غير الصالحة وتحت استبدادهم بالأمر”.
**
ولم يفت بيرك أن ينقل صورة مماثلة كتبها علي مبارك نفسه وهو يرى المدينة من فوق مئذنة عمرو بن العاص:
“من شرفة المسجد الجامع، لا يرى المرء سوى أكوام من الأنقاض وحفريات واسعة. يستمر العمل فيها حتى الآن! من هنا، وهو لمن دواعي ادخال السرور على القلب، لا نرى شيئًا مما تركه العرب القدماء، الذين انتشرت قوتهم وثروتهم ومجدهم في جميع أنحاء الأرض. لا شيء من قصورهم المرموقة، التي دمرتها اعتداءات الزمن وتقلبات الأيام، حتى انقلبت من أعلى إلى أسفل واندثر أثرها. ها هي فارغة، متوحشة، دون أن يؤدي ذلك إلى شيء غير مألوف “.
لكن علينا هنا أن نسأل أو نتساءل ” ما الذي قد يحمل رجل بقيمة الإصلاحي الكبير علي باشا مبارك على قول مثل هذا الكلام؟” في رأينا أن حالة الفخر التي انتابت “رجال أفندينا” فور تحقيقهم الجزئي لحلم القاهرة الهوسمانية هي السبب الوحيد في أن يقول علي مبارك ما قال. ولاشك أن الفخر بتشييد العمران الجديد امتزجت بحالة من اللامبالاة تجاه تراث المدينة القديمة فكأن هذه الأخيرة مثلت فراغيًا “العهد البائد” المراد اخفاءه وطمس معالمه. العلاقة بين الفخر واللامبالاة عبر عنها بيرك في جملة قصيرة ولكن شديدة الدلالة: “على أية حال فإن القائمون على النظام (نظام إسماعيل) يتكابرون بما حققوا ولا يضعون في حسبانهم الأضرار التي تصاحب هذا التقدم”.
**
على أنه من الظلم أن نحتكم في معرض الحديث عن سياسة علي باشا مبارك تجاه المدينة القديمة إلى ما نحتكم عليه اليوم من التفات كبير إلى قيمة التراث. لأننا لو فعلنا لوجدنا مشكلة أساسية في تفسير كتابات علي مبارك التي ورد فيها علنا وبفخر عدد ونوعية المباني التي هُدمت في عهد نظارته للأشغال «دون أدنى حنين إلى الماضي» بحسب تعبير بيرك الذي يفسر هذه الاستشهادات في كتابات مبارك كذرائع ” للتعبير عن آرائه التقدمية”.
أما عن موقف الخديو إسماعيل من المدينة القديمة، فقد تم تفسيره من وجهة نظر الناقدة الانجليزية مارا نامان، في كتابها عن الفضاء الحضري في الأدب المصري المعاصر. فوفقًا لنامان، كان حلم الخديوي هو تحسين حياة سكانها من خلال تعميم أنماط الحياة الغربية التي تمثل بالنسبة إليه حالة «حداثة اجتماعية». ومن ثم لجأ إسماعيل، في سبيل تحقيق هذا الحلم، إلى التمهيد بخلق حداثة مكانية وعمرانية. وتضيف مارا نامان :
“بعبارة أخرى، وعلى الرغم من تجاهل إسماعيل لتعقيدات التحديث في أي من مناطق المدينة القديمة، إلا أن الرؤية التي كانت لديه حال تشييده لمدينته الجديدة كانت في جوهرها إيمانًا منه بإمكانية تحقيق وعد الحداثة: في أن يبشر الفراغ العمراني الحديث (الحداثة الجمالية) بأسلوب حياة حديث للمصريين (الحداثة الاجتماعية)”
ومع وجاهة الرأي السابق، فإن مسار الأحداث في زمن إسماعيل وأزمنة خلفائه لا يؤيده إذ لا يمكن القول إن أسلوب حياة المصريين قد تغير تمامًا كما أراد له إسماعيل. لكن على العكس من ذلك، فقد خلقت حداثة إسماعيل تفاوتًا بين مدينته وبين المدينة القديمة، وبين هذه وتلك ظهر البون الهائل بين أولئك الذين يحتفظون بالسلطة والثروة وأولئك الذين لا يمتلكون شيئًا. وربما يحق لنا النظر في مسألة تشييد قاهرة إسماعيل – المدينة الحديثة – متسائلين: هل الأعمال العمرانية الكبيرة، التي تسببت في تدهور المدينة القديمة، قد أفرزت بالفعل مدينة حديثة تنافس المدن الأوروبية، خصوصًا باريس؟ سوف نجيب على التساؤل في الحلقة القادمة.