المستريح وليلة القدر: السرقة وحبل المدد
المستريح ظاهرة مصرية حدثت في أكثر من مكان. وفي أسوان يوجد عدد كبير من الأشخاص الذين حصلوا على ذلك اللقب. وكان أكبرهم بلا منازع هو “مصطفى البنك” ولم يكن أكثرهم ذكاء بالطبع. وكان يعيش في نفس المناخ ونفس الظروف السياسية الاجتماعية والثقافية، لكنه تفوق عليهم جميعا، لأنه الوحيد الذي لعب على المشاعر الدينية. الأمر الذي ساهم في تأكيد مصداقيته، ودعم حركته فوق الأرض. أي أن اللعب على المشاعر الدينية كان من أهم الأسباب التي حققت تميزه وساعدته على تحقيق انتشار لم يحققه الآخرون، إن لم يكن ذلك اللعب هو السبب الوحيد.
الظاهرة كما ذكرت سابقا بنت عوامل متعددة. وقد ساهمت فيها تصورات مختلفة تتعلق بنظرة الناس للدولة والقانون. وهنا كمظاهر دينية ارتبطت بالظاهرة، وهي تكشف ملامح التدين في الجنوب، وبخاصة في إدفو العظيمة والتي تعد من أبرز البقاع المصرية المرتبطة بميلاد الدولة المصرية.
وأبرز الملامح الدينية التي ظهرت في لعبة “المستريح” هي علاقة الناس بآل البيت، وتقديرهم الخاص للسيدة زينب. ورصد تلك المظاهر الدينية وتحليلها واجب، ولا يعني ذلك التقليل من شأن العوامل الأخرى، أومن شأن السيدة زينب.
**
لقد لجأ مصطفى البنك إلى توظيف أموال الناس من خلال توظيف أفكارهم عن التصوف وآل البيت. وعلينا أن نميز هنا بين التصوف بشكل عام، والتصوف الشعبي الذي يختلط في أذهان العامة بأفكار لا تقوم على أساس شرعي، وقد تخالفه، وتخالف أقوال الصوفية أنفسهم.
قام “البنك” باستخدام عدد من الوسائل التي نجحت في ربط السرقة بالمقدس. والتكريس للسارق بوصفه أحد المسنودين على السيدة زينب. والموصولين بحبل المدد. وأحد أصحابِ الحمول المكلفين بخدمة الفقراء. وغيرها من الأفكار الموجودة بقوة في ثقافة الناس.
من تلك الوسائل ما كان فرديا، يتمثل في تقديم مساعدات مالية للمحتاجين، أو منْحِ أحد الفقراء مبلغا كبيرا يؤكد فكرة المعجزة أو الكرامة التي يمكن أن تتحقق فعلا.
**
الملاحظة التي تستحق التأمل هي قيامه بتلك الأفعال بشكل لا يعبر عن خبث بقدر ما يعبر عن رجل يُصدِّق نفسه، أو يعتبر نفسه من الموصولين بحبل المدد فعلا. ولعل هذا ما يفسر سبب تقديمه لمساعدات كثيرة تتجاوز حد الدعاية ولا تتناسب مع مجرم جشع. ولاشك أننا بحاجة إلى دراسة موسعة لحالة مصطفى البنك. بحيث تشمل الجانب النفسي. ولعلها تحدث بعد استيفاء التحقيقات، وتوفير المعلومات الضرورية للدراسة الجادة.
بجانب التصرفات الفردية التي تكرِّس للرجل بوصفه أحد أبناء الست. كانت هناك تصرفات جماعية يتم من خلالها ربط السرقة بالمقدس. مثل أحاديثه المرفوعة على الإنترنت. واستثماره للمناسبات الدينية كليلة القدر، وليلة العيد، وإقامة حفلات دينية مع استضافة أكبر المنشدين. بخلاف الإكسسوارات الدينية الصغيرة التي تعطي انطباعا بتدينه واتصاله بحبل المدد، وسوف نقف سريعا أمام تلك الوسائل:ـ
1ـ أحاديث المستريح وطقس الفاتحة
تم ربط المستريح ربطا مباشرا بالسيدة زينب من خلال الأحاديث التي كان يلقيها أمام عدد من أصحاب الحقوق. وقد تم تصوير بعضها، ورفعها على الإنترنت.
لم تكشف تلك الأحاديث عن ثقافة خاصة، أو مهارة في الخطابة بل كانت تكشف عن شخص محدود الثقافة وبعيد عن الفصاحة تماما. وكانت وظيفتها هي تأكيد صلته بالسيدة زينب بشكل مباشر وصريح. لكن التأكيد يأتي بين قوسين لهما قيمتهما الدينية والنفسية.
يبدأ البنك حديثه بطلب قراءة الفاتحة “لسيدنا النبي وآل البيت وأولياء الله الصالحين”. وكانت قراءة الفاتحة تتم بطريقة معينة. وهي الطريقة المعتادة في بعض جلسات الذكر. فبعد طلب القراءة يأخذ دور إمام الجماعة أو قائدها أو مؤذنها. ويقول: “الفااااتتحاا”. حيث يقوم بمد الحروف وتنغيمها، وقبل قراءة الفاتحة يقوم بالصلاة على النبي بصوت مرتفع، ولحنٍ معين، ومعه الجماعة الحاضرة، وهم يستخدمون صيغة ثابتة هي “اللهم صلي على سيدنا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم”. ثم يقول القائد “مدد يا ست”. والمقصود بالست هو السيدة زينب، فمن جميع نساء آل البيت في مصر هي الوحيدة التي تُنَادى بكلمة الست. وبعد طلب المدد يبدأ الجميع في قراءة الفاتحة بطريقة سرية. وقد يقرأ بعضهم بطريقة جهرية وبشكل فردي. وقد يكون الجهر في بعض الآيات والسر في بعضها بدون تنظيم محدد.
بعد قراءة الفاتحة على هذا النحو الطقسي، يقوم مصطفى البنك بالحديث عن عمله، والتذكير بالتزامه وانضباطه المعروف على مدار عام، وتجديد تعهداته. وبيان حركة سير المندوبين بكشوف الصرف إلى القرى والنجوع البعيدة. والتحذير من الاستماع إلى المشككين في أعماله النظيفة. ثم يختم كلمته القصيرة بقراءة الفاتحة بنفس الأسلوب.
يضع البنك كلامه في إطار روحي وجمالي، لا يوجه رسالته مباشرة. بل يبدأ بمقدمة دينية وينتهي بخاتمة دينية، وتختفي لعبته الدنيوية في المنتصف. هذا الطقس موجود بشكل عميق في الثقافة الشعبية، ويتكرر بانتظام، ويتمحور حول قيمة “الفاتحة” وقيمة “السيدة زينب”. وتستخدمه الجماعة في مناسباتها الدينية منذ وقت بعيد. وتتسم تلك المناسبات في الغالب بالبهجة والاتصال بالرموز الدينية التي تبعث الطمأنينة والأمان. وقد نشأ الحضور على هذا الطقس منذ طفولتهم وله وقعه وسحره الجمالي في أعماقهم. وهو يستدعي بالضرورة تلك الأجواء الدينية في وجدان الناس، فتختلط مشاعرهم تجاه البنك بذكريات تلك المناسبات السابقة المبهجة والآمنة.
هكذا يتحول لقائه بأصحاب الحقوق من عمل فردي إلى عمل جماعي، ومن عمل دنيوي إلى طقس ديني شعبي.
2ـالمستريح وعروض ليلة القدر
قام مصطفى البنك باستخدام المناسبات الدينية الشعبية كالاحتفال بذكرى أحد الأولياء، أو الدينية العامة مثل الاحتفال بليلة القدر، أو عيد رمضان. وفي تلك المناسبات يقوم بالترويج لأعماله بشكل فني يتناسب مع الطبيعة الرمزية للمناسبة.
في مناسبة ليلة القدر راح يعلن عن عروض جديدة، ترتفع فيها قيمة “الوِعْدة” أو الربح الناتج عن التعامل معه. فكما أن “ليلة القدر” المباركة تتضاعف فيها الحسنات، كذلك أعمال مصطفى البنك ترتفع فوائدها. ويبدو هذا منطقيا جدا في تقدير العقل الخرافي الذي يربط بين بركة ليلة القدر، وبركة عروض الاحتيال أو السرقة المقنَّعة.
بتاريخ 28 أبريل 2022 قام بتسجيل كلمة ورفعها على الإنترنت قال فيها: “النهاردا يا إخوانا ليلة القدر. وفيه مفاجآت نازلة على العيد ماقولكش. أول حاجة أنا بتَاجر مع ربنا، تمام، واللي ناس كلها ماتعرفهوش، أنا ولد السيدة زينب. فيه ناس بتقول مصطفى البنك الحكومة مش عارف إيه.
فيه حد يبقى ماشي مع ربنا ويتضر. الكلام دا مايحصلش، أنا بشتغل بتصريح من السيدة زينب والأولياء كلها تعرف، وهما حطوا عليَّا لحمل دا، مش من نفسي. هما اللي جابوا الحمل دا منفوق. من ربنا. علشان أساعد كل الناس، اللي بيكتب على الفيس كلمتين كدا واحد راشيه علشان يخرب في البلد. لإني أنا مع البلد وباخاف على البلد. وبخاف على سيادة الريس اللي تعب معانا كتير، واللي خدمنا كتير. الخير جاي من باب ربنا.
أنا مش شغال مع حد. ولا تبع حد. أنا شغال مع السيدة زينب بس. واللي باعمله دا علشان أساعد الغلابة. الخير ربنا جابه. لا أنا تاجر مخدرات ولا غيره. وكل واحد عايز يخرِّب في مصر هدخله الخُن. وأنا شغال مع السيدة زينب ومتحزم منها بحزام. والله وراك ياريس. أنا اللي باعملة دا خدمة للبلد. والست مدياني التصريح سنتين لقدام، واللي ماشي مع ربنا وقاري في الكتب يشوف التصريح دا جاي من السيدة زينب ولا لا. أمي السيدة زينب هي اللي قعدتني هنا على الكرسي، والتصريح دا جه علشان أمنع شر كتير. وحسبي الله ونعم الوكيل في أي راجل يخرب في مصر.”
وبمناسبة عيد رمضان، وبتاريخ 30 أبريل 2022، قام مصطفي البنك بإلقاء كلمة قال فيها بعد قراءة الفاتحة للسيدة:
“إنشاء الله يوم وقفة عيد رمضان، خمستاشر عجل هيدِّبْحوا عند الساحة،.الدَّبح هيكون من الصبح، الناس الغلابة كلها تاجي تاخد عشا من عندينا. واحنا لسه الشغل معانا مفتوح سنتين لقدام. إحنا عايزين الغلابة هما اللي ياجوا ببهايمهم بس، ويوم وقفة عيد رمضان خمستاشر عجل من السيدة زينب، لاجنيه ولا عشرة، وادعوا لنا، وشيلوا الفاتحة للست”.
وهكذا تصبح المناسبة الدينية فرصة لربط المقدس بالمدنس. حيث يتداخل إطعام “الغلابة” مع الحصول على “بهايمهم”. ويتوالى التأكيد على ربط “المستريح” بالسيدة زينب، هذا التأكيد الذي صنع اعتقادا راسخا عند الكثيرين باستحالة أن يكون “المستريح” نصابا.
أهمية استغلال المناسبة الدينية لا تأتي فقط من نجاها في ربط المستريح بالسيدة زينب، بل من خلال ربطه هو نفسه بأجواء العيد. وهكذا يخلق مشاعر إيجابية في أذهان الناس، تهزم المشاعر السلبية التي تجعلهم يقلقون على أموالهم. وفي بعض جولات المستريح كان يلتف حوله جمع كبير. وكانت خطواته التي تحمل البشرى للناس تشبه خطوات العيد.
في التركيز على ليلة القدر تحفيز للخيال الشعبي الذي يحلم بالمكسب وفق مبدأ خاطئ وهو مبدأ “شهر خير من ألف شهر”. والمقصود هنا شهر أو زمن”الوِعْدة”. والذي يحصل بعده أحدهم ما يساوي عمله طوال شهور كثيرة. وهنا كأشخاص لا حصر لهم دفعوا “تحويشة العمر” أو محصول العمل في الخارج لسنوات، وتركوه في يد الرجل طمعا في الربح الوفير.
كما توجد ليلة القدر، توجد “وعْدة القدر” أيضا إن صح التعبير. والربط بينهما خرافي. لكن التفكير الخرافي نشط جدا في حياتنا المصرية بشكل عام. وعلينا أن نعتبره أحد العوامل الأساسية في استيقاظ الناس على مأساة البيوت التي تسبب المستريح في خرابها.
3ـ المستريح والإكسسوارات الدينية الصغيرة
قام البنك باستخدام تفاصيل صغيرة تحيل إلى الديني بشكل غير مباشر. وقد ساعدته تلك التفاصيل الصغيرة أو “المسائل الصُغنَّنَة” على حسب تعبير “يوسف وهبي” في فيلم “إشاعة حب”. والتي أمر بإخفائها في حجرة “حسين” واعتبرها “أهم ألف مرة من الجوابات” التي تتحدث بشكل مباشر عن اتصاله بالممثلة “هند رستم”. وهكذا لا يتوقف المستريح عند التصريح بأكذوبته. بل يدعم ذلك التصريح بأمور صغيرة تحمل رسائل غير مباشرة وعميقة، ومنها:ـ
أـ كتابة عبارة “السيدة زينب” على السيارة البيضاء (رمز النقاء) بالخط العريض. وفي الواجهة. مع كتابة عبارة “أولاد البنك” في مكان آخر.
ب- تعليق مسبحة كبيرة في الرقبة. وذلك في بعض مقابلاته مع الناس، أو أثناء بعض جولاته، وأثناء وقوفه على مسرح الإنشاد الديني.
ج ـ العبارات الدينية المكتوبة على جدران و أعمدة الأحواش أو الحظائر الكبيرة المملوكة له. والتي بُنيت حديثا على أرض مملوكة للدولة. وتم هدمها بعد القبض عليه. وهي تنقسم إلى قسمين: الأول: عبارات خاصة بمشروعه مثل عبارة “الرازق هو الله” التي تتكرر على أعمدة الأحواش. وهي توجه رسالة للمتشكك في البنك، أو في عملية البيع والشراء بنظام “الوعدة”، كي يتذكر أن المسألة كلها إلهية.
والقسم الآخر عبارات عادية مثل: “صلي على النبي” لفظ الجلالة. أو اسم النبي. أو آية قرآنية صغيرة. وهي نفس العبارات التي تكتب على جدران المنازل والساحات. وهي ضرورية حتى لا تبقى دلالة “الرازق هو الله” مكشوفة، أو معزولة عن السياق العادي.
د- زيارة مقامات الأولياء مع وضع صورته أمام المقام على الإنترنت. مثل صورته أمام مقام الشيخ عبدالرزاق علام عطا الله.
وـ تقبيل أيدي المشايخ وأيدي أبناء بعض المشايخ، وتنزيل صورة القُبْلة على مواقع التواصل الاجتماعي، عن طريقه أو عن طريق معاونيه أو “مناديبه” في القرى والنجوع.
كل هذه التفاصيل الصغيرة كانت تلعب دورا في تكريس صورته كأحد أبناء السيدة زينب، وتمنح الوجدان الشعبي ذلك الرابط الذي يوحد بينه وبين مقامها العظيم في قلوب الناس. وفي ظل اعتقادهم بقدرة “حبل المدد” على منع المنتسب إلى المشايخ من الخطأ. وهي فكرة شعبية لا علاقة لها بالتصوف. وقد ظهرت بقوة في انتقاد الشيخ حسين البيومي. وانتقاد الشيخ أمين الدشناوي، والذي بلغ حد “الغلط فيه” حسب قوله. وكذا انتقاد بعض الساحات التي قبلت عجول “المستريح”. لأنهم لو كانوا من أل المدد فعلا لجذبهم الحبل الممدود من الله إلينا، وأبعدهم عن سكة الغلط، وتستحق تلك النقطة وقفة أخرى.
اقرأ أيضا
السرقة والمقدس: المستريح وإذن السيدة زينب