«لتكن مشيئتك»: رسائل العاشقين ومكسوري القلب لقديسات «الإسكندرية»
إرسال الرسائل للموتى والشكوى لهم وطلب قضاء الحاجات منهم، كانت أمورا يمارسها المصريون القدماء انعكاسا لإيمانهم. استمرت هذه الظاهرة مع التطورات الاجتماعية والدينية، وامتدت لإرسال الرسائل للأولياء والقديسين للتبرك أو لطلب الشفاعة في أمر ما.. «باب مصر» يستعرض بعض من هذه الرسائل.
انتظار الآخرين:
في كتابه “رسائل إلى الإمام الشافعي“، يشرح لنا الدكتور سيد عويس أنه إذا كان للموتى من المقربين وغير المقربين دورا كبيرا في حياة المصريين على وجه العموم. فإن الأولياء والقديسين يؤدون دورا كبيرا كذلك في حياة وسلوك كل منهم. ودور الآخرين كدور الأولين له سلطانه وصولجانه منذ الماضي السحيق، منذ عهود مصر القديمة حتى يومنا هذا.
عبر عويس في أكثر من فقرة في كتابه أن هذه الظاهرة تنبئ عن وجود بعض العناصر الثقافية السلبية التي تتحكم في سلوك مرسلي الرسائل للموتى. فبدلا من مواجهة أمورهم ومشاكلهم في إيجابية، فهم يفضلون لعوامل عديدة تضطرهم إلى ذلك، مواجهة الانتظار.. انتظار الآخرين مثل الإمام الشافعي وغيره.
رسائل إلى القديسة سابينا:
كما نشر الدكتور سيد عويس أيضا دراسته سنة 1965. وكان هدفها دراسة ظاهرة الرسائل التي يتركها المصريين في ضريح الإمام الشافعي وتحليل مضمونها، ومعالجتها بأسلوب علمي. وكتب في الفصل الذي يخص منهجية الدراسة: “أن ظاهرة إرسال رسائل للموتى هي ظاهرة مصيرها حتما إلى الزوال وأن هذه الدراسة هي محاولة لتسجيلها قبل أن تزول”.
عند زيارتنا لكاتدرائية سانت كاترين، التي تقع في منطقة المنشية بالإسكندرية، وجدنا على يمين الداخل للكنيسة غرفة بها صندوق زجاجي بداخله سيدة مغطاة بالشمع مسجاة فوق قاعدة الصندوق، بشعر أشقر وفستان مزركش ووشاح أحمر زاهي، مرمي حولها بعشوائية قصاصات وصور فوتوغرافية.
هذه السيدة هي القديسة “سابينا” التي ولدت في روما في القرن الأول الميلادي. وحينما اعتنقت المسيحية حكم عليها بالموت بحد السيف سنة 126. وفي عام 1847 أثناء بناء الكنيسة جاءت رفاتها وقارورة بها بضع قطرات من دمها ولوحة بها اسم زوجها وابنتها مكتوب فيها إهدائهم للرفات إلى كنيسة سانت كاترين بالإسكندرية.
طلبات مختلفة
كان من الصعب الوصول إلى القصاصات الملقاة حول جسد سابينا بسبب الحائل الزجاجي لكن كان هناك عدد لا بأس به من القصاصات خارج الصندوق، مطوية بغير عناية تمكننا من رؤية ما بداخلها من طلبات.
ومن أمثلة ما وجدناه ملقى على الأرض: ( أذكر يارب عبيدك وأحفظ أولادي “تذكر اسمهم” بشفاعة سابينا- أرزقي أخواتي وأهلي وفرحينا وخلي بابا يسوع يسامحني- يا سابينا أنت تذكرنا أمام عرش النعمة – يا سبينا أحفظي ابني (تكتب اسمه) على ظهر صورة فوتوغرافية له).
ووجدنا عدة قصاصات تحتوي على قائمة أسماء من أجل الصلاة، ويشير من كتبها أمام كل اسم عن موقعه في العائلة من أم أو أب أو زوجة ابن.
نوعية الورق الملقى حول سابينا كان متفاوت في الحجم واللون والنوع بعض الطلبات كانت مكتوبة على ظهر فواتير تليفون أرضي وإنترنت وكهرباء، وبعضه مكتوب على ظهر روشتة للعلاج. وضع سابينا في الصندوق الزجاجي وضع نائم. كأنها في قيلولة، حينما تتأملها يتسرب إليك شعور أنها ستستيقظ في أية لحظة وتنظر في هذه الطلبات والصور.
رسائل للقديسة ريتا:
في كنيسة سانت ريتا التي تقع في آخر شارع الباب الأخضر في حي الجمرك، سنجد على يسار الداخل للكنيسة تمثالا لريتا تمد فيه يدها وفي رأسها شوكة وعدد من القصاصات المحشورة بين أصابع يديها وقدميها.
وإذا تقدمنا إلى الأمام تاركين المذبح على يسارنا سنجد في الأعلى تمثال كبير للقديسة ريتا أسفله مقصورة فوقها سلتين من البلاستيك مكتوب على كل سلة “طلبات” ومملوءة بالقصاصات. وأمام هذه المقصورة يوجد شبه مكتب صغير عليه ورق من نتيجة “تقويم” وعدد من الأقلام الجاف والرصاص لكتابة الطلبات.
سٌمح لنا بالاطلاع على صندوق الطلبات الموضوع أسفل تمثال القديسة ريتا، وتم فحص حوالي 44 طلبا.
سنلاحظ في الطلبات أن للقديسة ريتا عدة اختصاصات متسقة مع قصة حياتها، وعليه تم تقسيم هذه القصاصات على حسب نوع الطلب.
العلاقات العاطفية:
ولدت ريتا في روكابورينا في إيطاليا وتزوجت وهي في الثانية عشر من عمرها من رجل يدعى باولو مانشيني. كان حاد الطباع معها. عانت ريتا من زوجها العنيف إلا أنها حاولت التكيف على طباعة وتقبل وضعها الجديد. وعلى إثر ذلك سنجد عدة قصاصات خاصة بطلب تيسير العلاقات العاطفية والزواج في صندوق الطلبات، تتماس مع تجربة ريتا في الزواج. ومن أمثلة ذلك:
(لتكن مشيئتك يارب في موضوع مايكل، ياريتا قوليلي رأيك إيه وأرشديني – أنا عارفة إنها علاقة مستحيلة، علشان كدة جتلك يا شفيعة الأمور المستحيلة- يا سانت ريتا يا إما يحبني يإما أنساه – نفسي أفرح بمريم وماريا يا سانت ريتا- جوزي مريم لرامي يا سانت ريتا- يا سانت ريتا ابنتي مكسور قلبها، ساعديها للمشي في الطريق الحلو، وخليها تنسى كل ما هو مضى).
الحمل وطاعة الأولاد للآباء:
رزقت ريتا من زوجها باولو بولدين توأمين وعاشت على تربيتهم تربية حسنة وكانوا هادئين ومطيعين لها. حتى اغتيل زوجها أثناء عودته من المدينة للقرية التي يعيش فيها مع ريتا وأولاده ومن لحظتها قرر الأولاد أن ينتقموا لوالدهم. حاولت ريتا إثناء أبنائها عن فكرة الانتقام لكنهم أصروا وكان قلبها يعتصر وهي تصلي من أجل أن يمنع الله هذه الجريمة.
لذلك سنجد عدة قصاصات في سلة الطلبات تطلب من سانت ريتا أن تجعل أبنائهم مطيعين أو من أجل الحصول على أبناء:
(من فضلك سانت ريتا بنت أخويا تكون مطيعة وشكرا – يا سانت ريتا، خلي أولادي مطيعين وكوني معاهم في امتحاناتهم ومذاكرتهم – يارب مجدي اسعدوا (أسعده).. سالي.. طفل، بشفاعة سانت ريتا – يا سانت ريتا أرزقيني بطفل يخليني أحب الحياة – أرزقيني بطفل. أنا خايفة من العملية خليكي جمبي أنا جسمي ضعيف – يا سانت ريتا أرزقينا بطفل جميل والإشاعة تكون كويسة).
قصاصات تخص الشفاء:
في سن الستين كانت ريتا تتأمل تمثال للمسيح وتمنت أن تشعر بالألم كما شعر هو. فرشقت إحدى الشوكات في جبهتها. عاشت ريتا بالجرح الذي لا يندمل حتى ماتت. مما أثر على صحتها. وعلى إثر هذه التجربة سنجد عدة قصاصات تطلب منها الشفاء:
(يا شفيعة الأمور المستحيلة أشفي رجلي وسناني- يا سانت ريتا أشفي دميانة وأشفي فوزية جارتي – أشفي أختي زهيرة من الصدفية يا سانت ريتا).
وفاء بالنذر:
وعلى الرغم من أن رفات القديسة ريتا ليست موجودة بالكنيسة. إنما بعض التماثيل والتصاوير التي تحكي قصة حياتها إلا أن هناك ديناميكية من الأخذ والعطاء في التعامل معها. ذلك أنه توجد قطع رخامية موضوعة أسفل تمثالها بجانب سلال الطلبات من قبل من نظرت ريتا إلى طلباتهم وحققتها. يشكرونها بقولهم “ميرسي سانت ريتا” “شكرا” باللغة العربية والفرنسية والإنجليزية. ومن لم يقدر على صنع واحدة وضع صور الأطفال الذين رزق بهم بسبب شفاعتها أو سبح شكلها مميز أو صنعوا مخدات ملونة تعبيرا عن الشكر أو وفاء بالنذر.
ما الذي تخبرنا به القصاصات؟
في معظم القصاصات لم نتبين جنس الذي كتبها أو موقعه أو وضعه الاجتماعي أو خلفيته الثقافية. كان هناك عدد قليل من القصاصات مذيل باسم الذي كتبها.
في كل طلب من الذي أطلعنا عليه نستشعر أن الطالب يتحدث إلى القديسة كأنها الأم أو الأخت الكبرى، التي تعرفه تمام المعرفة وتفهم مشكلته دون أن يقصها.
كتب أحدهم للقديسة ريتا: “عايزة حقي من كيرلس يا سانت ريتا”. نلحظ من أسلوب الكتابة أن المساحة بين الطالب والقديس شبه متوارية في خلفية المشهد. يظهر ذلك في استخدام لغة التحدث أثناء الكتابة.
في إحدى القصاصات المرسلة لريتا كتب أحدهم: “السلام لك يا قديسة ريتا، وجيه برضو مسلمش عليا لا هو ولا أمه وأنا زعلت أوي، ممكن تساعديني مفكرش فيه تاني”.
وكما انتهى سيد عويس في نتائجه عن مرسلي الرسائل لضريح الإمام الشافعي، ننتهي أيضا مثله فيما فحصناه ذلك أن كل الطلبات تدل على ما انطوت نفوس طالبيها من نيات صادقة نحو عيش حياة مريحة، ولم يجدوا بدا من الكتابة للقديسة ريتا أو القديسة سابينا وغيرهم فهن عندهم الغاية والواسطة.
اقرأ أيضا
ما الذي يمكن أن تخبرنا به رقمنة التعدادات السكانية للمصريين في القرن الـ19؟