الحسين سجينا: ترميم أم تشويه؟
تخوفات مستمرة من جانب الأثريين والمهتمين بالتراث خلال الفترة الحالية. إذ أطلقوا العديد من النداءات حذروا خلالها من خروج القاهرة من قائمة التراث العالمي، نتيجة التدخلات التي باتت – حسب رؤيتهم- تمثل خطرا على النسيج العمراني للمدينة التاريخية. ما جرى مؤخرا من تطوير في مسجد الحسين يرأه البعض «تشويها» يطرح العديد من الأسئلة. لذلك تحدثنا مع خبراء الآثار والترميم، الذين قدموا لنا رؤيتهم حول ما يحدث. وقد شرحوا لنا أسباب رفض تلك الممارسات الأخيرة، خاصة تلك التي حدثت بنطاق مسجد الحسين.
تهميش المتخصصين
الدكتور حسام إسماعيل، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس، يرى أن الأعمال التي جرت مؤخرا بساحة مسجد الحسين لم تراعي الناس بأي شكل من الأشكال نظرا لفقر الطريقة الذي نفذت بها الأعمال. يقول إسماعيل: “الموضوع أكبر من التشويه الذي حدث بساحة مسجد الحسين وبالمسجد نفسه، فأنا أخشى من مشروع القاهرة التاريخية كله، لأنهم لم يراعوا الأماكن غير المسجلة في عداد الآثار، وهيئة الآثار بدورها لا تلتفت لأي مبنى غير مسجل، حتى وإن كان يرقى للتسجيل مثل وكالة العنبريين التي جرى هدمها منذ سنوات لأنها غير مسجلة في عداد الآثار. وأنا لم أجد مؤيدين لما حدث بالمسجد مؤخرا باستثناء وزير الأوقاف. إذ حاولوا تقليد الحرم من خلال استخدام الرخام”.
وتابع: لكن بشكل علمي فقد تم الأمر بطريقة عشوائية، لأنهم لم يستعينوا بالمتخصصين في التعامل مع المناطق التراثية. وأنا على المستوى الشخصي أخشى أن تخرج القاهرة من قائمة التراث العالمي مثلما خرج ميناء ليفربول التاريخي في إنجلترا من قائمة التراث العالمي. وهذه هي المشكلة الحقيقية التي يجب أن ننتبه إليها. فقد حاربت كثيرا أنا وجيلي من الأثريين كي نسجل القاهرة على قائمة التراث العالمي.
وما يحزنني أننا نمتلك متخصصين عالميين، لكن لا يتم الاستفادة منهم بل يجري تهميشهم ولا يستعان بهم في هذه التدخلات الدقيقة داخل المناطق التاريخية. أضف إلى ذلك مشكلة الجبانات التي نخشى أن يتم هدم أجزاء منها، وهذه كارثة ستؤدي إلى تدمير النسيج العمراني لمدينة القاهرة ككل.
مواثيق دولية
تشير الدكتورة سهير حواس، أستاذة العمارة والتصميم العمراني بجامعة القاهرة، إلى خصوصية مسجد الحسين بالنسبة للمصريين. وتقول: “المسجد دائما ما كان مقصدا للجميع. وقد سميّ الحي بالكامل على اسمه، نظرا لخصوصيته، فالعملية التي تم تسميتها بالـ”ترميم” تمت في وقت خاطيء للغاية، خاصة مع قدوم شهر رمضان”.
تضيف: قبة المسجد مسجلة ضمن عداد الآثار، وبالتالي وضع مكيفات بهذه الطريقة هو أمر لا يجوز بطبيعة الحال، لأن التعامل مع المباني ذات القيمة التاريخية يتم بشكل مختلف عن التعامل مع المباني العادية التي لا تحمل أي قيم فنية. لكن الأعمال التي جرت في الحسين وخاصة القبة، هي أعمال سيئة للغاية وتمت بشكل فج.
وتابعت: هذه المشكلة تذكرني بما حدث في قبة جامعة القاهرة، والتي تم تداركها بعد ذلك من خلال اقتراح أساليب تمنع التشويه الذي حدث للقبة. لكن عندما يتكرر الأمر نفسه في مسجد الحسين فهذا معناه أن القائمين على الأعمال لا يدركون أهمية وقيمة المكان سواء التاريخية أو الأثرية، لأنهم لجأوا لأسلوب تقليدي عند تنفيذ العملية. لذلك أرفض الأمر، لأنه من المفترض أن هناك أساليب كان ينبغي إتباعها؛ لذلك كان لابد من مشاركة خبراء الآثار والترميم خلال العملية، وهي تدخلات تحكمها المواثيق الدولية.
وأنا أعتقد أن متخذ قرار التعامل مع قبة مسجد الحسين، كان بعيدا كل البعد عن الرغبة في الحفاظ على القيمة الأثرية والتراثية للمبنى. ونحن نأمل أن يتم إعادة التوجيه بالنسبة لأسلوب التركيبات الفنية الخاصة بالمشروع، لأن هذه المشروعات هي مشرعات قومية. لذلك أكرر سؤالي: “لماذا لا يؤخذ رأي الخبراء المتخصصين في مجال الترميم الأثري؟”. فمشورة أهل الخبرة لن تقلل من المشروع، بل ذلك سيحميه من أية تجاوزات قد تحدث أثناء المشروع، لكن للأسف لا يتم الاستعانة بأحد، ونحن للأسف نتفاجئ دائما بالكارثة بعد أن تحدث.
أما بخصوص تحرك نقابة المهندسين فأنا أؤيده لأنه نوع من الإعلان عن استنكار للخطر الذي لحق بالموقع، فتحرك النقابة كان في محله، لأن كل مثقف وكل متخصص، وكل غيور على تراثه في أي مكان من حقه أن يعترض على تخريب لمبنى بهذه الأهمية.
معارك أثرية
ويتطرق الدكتور محمد الكحلاوي، أستاذ الآثار بجامعة القاهرة ورئيس اتحاد الآثاريين العرب لمعركة قديمة خاضها مع الأديب الراحل جمال الغيطاني، حين طرحت الفكرة منذ سنوات بعيدة.
يقول الكحلاوي: “المشروعات هذه ليست جديدة، وهذا المشروع تحديدا وضعه فاروق حسني منذ أكثر من 20 سنة. إذ أرادوا تنفيذ ساحات على غرار “الفاتيكان”، وكانت من ضمن المخططات الموضوعة للمشروع، إزالة مشيخة الأزهر. وقد اعترضت أنا والراحل جمال الغيطاني على الأمر ووقفنا ضد المشروع. وقد كتب الغيطاني وقتها عدة مقالات على صفحات جريدة “أخبار الأدب”، وذهبت وقتها للنائب العام ورفعنا قضية لوقف مخطط إزالة مشيخة الأزهر. إذ كان من المفترض أن يتم تنفيذ ساحة واسعة، ليكون الحسين مقابلا للأزهر بشكل مباشر. وقد أوقفنا المشروع في نهاية الأمر؛ لذلك فهذه المشروعات قديمة للغاية، وتم تنفيذها مؤخرا بشكل “فج”.
ونحن لا يجب أصلا أن نستخدم اسم “تطوير” موقع تراثي، وإنما يجب أن نقول “تأهيل”. فكلمة تطوير معناها هو أن نستجد أشياء جديدة على الموقع، ونخرج النسق القديم في مقابل استحداث نسق جديد، لإلغاء تيبوغرافية المدينة وإخراجها من أصولها القديمة، فشوارع القاهرة القديمة لا يمكن على سبيل المثال توسعتها أو تطويرها، وذلك لأن تيبوغرافيتها الأصلية كانت “ضيقة”، وعندما يتم توسعتها فهذا معناه أننا قد أسأنا لشبكة الطرق القديمة، وهذا الأمر يؤدي إلى إخراج المدينة من أصولها القديمة، لتخرج في النهاية من قائمة التراث العالمي.
وتابع: المقابر مثلا هي جزء لا يتجزأ من النطاق العمراني للقاهرة، وللتكوين الطبيعي لجسم المدينة التاريخية. فهل يعقل أن يتم فصل المدينة عن بعضها البعض وتدمير التواصل الموجود بين أنحاءها؟ فنحن سجلنا المدينة كتراث عالمي، نظرا لوجود تخطيط عمراني متواصل بين أنحائها. وعندما يتم قطع المدينة بهذه الطريقة، فهذا معناه أننا أخرجنا المدينة عن أصولها؛ لذلك يجب الاستفادة من تجربة تونس والمغرب وكيف أنهم استطاعوا الحفاظ على طابع المدينة في فاس، ومكناس، ومراكش؛ فهذه النماذج كان يجب أن نفعل مثلها لأنهم استطاعوا الحفاظ على تراثهم.
أما بالنسبة لقبة المسجد وتشويهها لوضع مكيفات، فهذا تشويه بصري، وتشويه للأثر نفسه. لذلك هل يعقل أن يتم تشويه القبة بهذا الشكل لتركيب مكيفات بالمسجد؟ وتصور لو حدثت مشكلة ما وحدث “نشع” للمياه، فحينها ستحدث “كارثة” على الأثر لا يمكن التنبؤ عواقبها.
إدارة التراث
الدكتورة مونيكا حنا، خبيرة التراث والعميد المؤسسة لكلية الآثار والتراث الحضاري بالأكاديمية العربية للعلوم البحرية، ترى أن الأعمال التي جرت بالموقع، تضر بالتراث المصري ولا تفيده بأي حال من الأحوال نحتاج “كود” لعمليات الترميم ولعملية إدارة التراث في مصر.
تقول حنا: “الحقيقة أن ما يحدث هي أشياء غير مرضية بالمرة، وستؤدي بنا إلى فقد “الأصالة” للمواقع التراثية الفريدة؛ لذلك أتمنى مراجعة ما تم في المشروع بشكل كامل، وكذلك استعادة الزخارف الموجودة بالمسجد. لأن تراث القاهرة هو تراث مهم للغاية ومسجل على قائمة اليونسكو، وليس من المفترض أن نحافظ عليه لإرضاء اليونسكو، بل لأنه تراث مصري، يجب المحافظة عليه. فإدارة التراث في مصر تتم حاليا وفقا لمفاهيم القرن الـ19. إذ يتم اعتبار الأثر وكأنه “عهدة” وما دون ذلك فهو ليس تراثا، وهذا عكس الواقع لأننا عندما وقعنا على اتفاقية اليونسكو لسنة 1970 لم نسمها باسم اتفاقية “الآثار”، بل اسمها هو اتفاقية التراث، فتفاعل الناس مع مسجد الحسين هو تفاعل تراثي مهم، بنفس أهمية المبنى. فالحد من عملية التفاعل التراثي للناس مع المكان من خلال خلق أسوار حول المبنى، سيقلل القيمة التراثية للمكان وهو أمر يجب أن نلتفت إليه، ونعيد تقييمه مرة أخرى.
مشاكل الترميم
وعن ترميم المواقع التراثية والأثرية مؤخرا يوضح الدكتور صالح لمعي، أستاذ العمارة الإسلامية والترميم وعضو هيئة الإيكوموس باليونسكو، أن المشكلة الموجودة حاليا تحتاج لإعادة نظر لأنه كان من المفترض الرجوع للمتخصصين، وأنا لا يمكن أن أجزم –حتى الآن- إذا ما كانوا قد قاموا بعمليات تحليل للألوان الأصلية المستخدمة أم لا.
وتابع: بخصوص قبة المسجد، واستخدام مواسير التكييف للمرور من خلال القبة، فهذه أشياء لا يمكن أبدا تتم، وهناك حلول كثيرة كان يمكن تقديمها وتنفيذها لتفادي الأمر، فالقبة مسجلة في عداد الآثار، وبعدها حدثت مشكلة وتم بناء القبة مرة أخرى باستخدام الحديد، لكن بشكل عام كثير من عمليات الترميم الحالية لا تتم بشكل علمي.
واستطرد: فمثلا نجد أن مشهد آل طباطبا ذكرت وزارة الآثار أنها “نقلته”، لكن في الحقيقة أنه قد تم إعادة بناء مبنى مستحدث مرة أخرى بطرق غير علمية. فالمبنى مشيد من الطوب منذ مئات السنين، والطوب نفسه لا يمكن فكه، وإذا تم فكه فاستحالة أن تخرج “الطوبة سليمة”. لكن ما تم أنه جرى “لم الطوب” وبناء المبنى المستحدث وتلوينه من الخارج. فالطوب لا ينقل أبدا، وما تم هو إعادة بناء وليس نقل، فالمشهد كان من المفترض أن تتم عملية ترميمه من خلال عزل المبنى من ووضع “ستارة” لعزل المياه عنه.
لكن الأمر كان سيكلفهم الكثير، فهم في نهاية الأمر لم يريدوا أن يدفعوا فيه أموال ليرمموه بطريقة صحيحة. وهذه هي مشكلتنا الحقيقة خلال الوقت الراهن لأن مشكلة قبة مسجد الحسين لا يمكن فصلها أبدا عن مشكلة مشهد آل طباطبا فالقائمين على الترميم في كلا الحالتين لم يستمعوا لأي أحد ونحن لنا تجربة في السعودية. إذ عندما قمنا بتركيب مكيفات داخل المسجد هناك، قمنا بتركيب الجهاز الرئيسي للتكيف خارج المسجد والذي كان عبارة عن محطة صغيرة وبعد ذلك وضعوا مواسير تحت الأرض، وأسفل جدران المسجد.
لذلك كان يجب تنفيذ الأمر نفسه في مسجد الحسين مع عمل “خرم” في الأساسات، كي ندخل منه للمسجد مع مراعاة سلامة المبنى، كي نتمكن من وضع المكيفات في نهاية الأمر بطريقة صحيحة. وهناك الكثير من الطرق التي كان من الممكن إتباعها لكن هذا لم يتم في نهاية الأمر ولم يتم الاستعانة بأهل الخبرة، وكانت تلك هي النتيجة.