انفراد| عالم مصريات أوكراني يفض غموض عملية “باب الجسس” التاريخية بالأقصر
عمله كرسام وباحث أثري ميداني لبعثة كييف القديمة، كان سببا في توصله إلى وثيقة مهملة ضمن الأرشيف الأوكراني لمنطقة أوديسا، وبداية طريقه في تتبع تاريخ وظروف توزيع الآثار المصرية المستخرجة من “باب الجسس” التي قدمتها الحكومة المصرية إلى دول أجنبية مختلفة في عام 1893، ليكشف عالم المصريات الأوكراني “ميكولا تاراسينكو” أسرار واحدة من أكثر الموضوعات البحثية غموضا وتعقيدا. بل تحول إلى تحقيق في حد ذاته، خاصة بالتدقيق في مصير الستة صناديق المُهداة من الخديوي عباس حلمي الثاني إلى روسيا ومن ثم توزيعها على المتاحف والجامعات في العديد من مدن الإمبراطورية الروسية.
ينفرد «باب مصر» بمحاورة عالم المصريات الأوكراني “ميكولا تاراسينكو”، الحاصل على الدكتوراه في العلوم التاريخية، والمتخصص في علم المصريات وتاريخ الفن والتاريخ القديم وعلم الآثار الكلاسيكي، والذي كشف مجموعة من الحقائق غير المعروفة المستمدة من وثائق أرشيفية لمنطقة أوديسا الأوكرانية، التي توضح تاريخ وطريقة توزيع الآثار للمجموعة (6) في الفترة من عامي 1893 -1895، لا تسمح هذه الوثائق بالحصول على نظرة كافية عن مصير القطع الأثرية. كما وصفها جورج دارسي في عام 1907، ولكن أيضا لإثارة أسئلة متعلقة بالأماكن الحالية لحفظ الآثار المصرية. وكانت هذه النتائج بالتزامن مع الذكرى الـ125 لاكتشاف خبيئة باب الجسس التي قرر الخديوي عباس حلمي الثاني (1874 -1944) في عام 1893 لعرض جزء من الآثار الموجودة في باب الجسس على دول أجنبية صديقة.
تبحث دائما عن كل ما هو غير مألوف في الحضارة المصرية القديمة.. حدثنا عن دراساتك العلمية؟
أنا مؤلف لأربع دراسات بثلاث لغات ومؤلف أكثر من 160 مطبوعة وبحث علمي، وأقدم المعلومات في شكل سيرة ذاتية. اهتماماتي الرئيسية هي الدين والأساطير والطقوس الجنائزية في مصر القديمة، والنصوص والرسوم التوضيحية لكتاب الموتى، وكذلك تاريخ القطع الأثرية المصرية القديمة في متاحف أوكرانيا.
ما الذي جذبك للتخصص في علم المصريات؟
نشأ الاهتمام بعلم المصريات في سنوات دراستي، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى وجود مجموعات من الآثار المصرية في أوكرانيا، ولم يكن هناك متخصصون في دراستهم. وخلال الفترة السوفيتية تم إعاقة تطوير علم المصريات في أوكرانيا بكل طريقة ممكنة ولم يُسمح بها إلا في مراكز مثل موسكو ولينينجراد. ولكن تعمل أوكرانيا حاليًا على تشكيل كليتها الوطنية الخاصة بعلماء المصريات. فضلا عن زيارتي مصر عدة مرات كعالم آثار ومشارك في مؤتمرات وباحث.
كيف بدأت رحلتك لتوثيق الآثار المصرية القديمة في متاحف أوكرانيا؟
بدأ بحثي عن القطع الأثرية المصرية القديمة في المتاحف الأوكرانية بسبب لغز كنز «باب الجُسس» كان ذلك في عام 2003، عندما انضممت إلى فريق العمل الميداني كرسام في بعثة “بيلجورود – تيراس” الأثرية عبر تنظيم رحلات منتظمة إلى أوديسا الأوكرانية للعمل على ترميم وثائق من أرشيف المخطوطات التابع للصندوق العلمي لمتحف أوديسا الأثري.
في ذلك الوقت، ظهر اهتمامي بآثار «باب الجُسس» ضمن مجموعة هذا المتحف، والذي تم عرضه لأول مرة في تقرير مؤتمري عام 2007. وكانت نقطة التحول في دراسة هذه الآثار اكتشاف وثائق مهمة في الدولة. تحديدا أرشيف منطقة أوديسا في عام 2015، استُكملت لاحقًا بوثائق من أرشيفات أخرى.
قدمت هذه الوثائق بيانات جديدة فيما يتعلق بتوزيع آثار 6 صناديق ممتلئة بالقطع الأثرية من «باب الجُسس» بين مختلف مؤسسات المتاحف في الإمبراطورية الروسية السابقة في 1894-1895 عندما كانوا في أوديسا.
نتيجة لدراسة هذه المعلومات في الفترة من عام 2015 حتى عام 2018، توصلت إلى معرفة التركيب الكمي الدقيق للعناصر من هدية الخديوي للإمبراطورية الروسية، وتحديد جميع الأماكن التي تم فيها إرسال العناصر من المجموعة رقم 6. بالإضافة إلى ذلك، أتاحت الوثائق الأرشيفية المُكتشفة تحديد الأصل الدقيق لعدد من قطع المتحف خارج أوكرانيا، في بولندا وروسيا.
كيف توصلت إلى لغز هدايا الخديوي عباس حلمي الثاني؟
يمكن العثور على أول ذكر لهذه الآثار في وثائق أولها كان رسالة من لجنة الآثار الإمبراطورية (سانت بطرسبرج) المرسلة إلى جامعة نوفوروسيسك أوديسا بتاريخ 21 إبريل عام 1893. العرض المقدم للحكمة الروسية لقبول هدية عبارة عن 23 تابوتا مع مومياوات وكان من المقرر ترك واحد أو 2 منها في متحف الجامعة. ومع ذلك فإن هذه الخطط لم تؤت ثمارها، وبعد ذلك تم تقسيم هدية الخديوي إلى 17 جزءا تم تقديمها إلى 17 ولاية مختلفة.
في 17 فبراير 1894، سلمت سفينة “الإمبراطور ألكسندر الثاني” التابعة لشركة “الشحن والتجارة الروسية” ستة صناديق تحتوي على القطع الأثرية المصرية إلى ميناء أوديسا البحري. كانت هدية الخديوي مصحوبة بقائمة جرد القطع التي جمعها ودونها “إميل بروجش”ممثل مصلحة الآثار المصرية.
ووفقا لهذا التوثيق والجرد، احتوت الصناديق على أربعة توابيت وثلاثة صناديق جنائزية و46 تمثال جنائزي “الأوشبتي”. وتم تسليم نسخة من قائمة الجرد مع رسالة من ألكسندر آي كوياندر، القنصل العام لروسيا في مصر، موجهة إلى عمدة أوديسا وهو “خريسانف ب. سولسكي”، أمين منطقة أوديسا التعليمية.
وفي الثمانينيات تمت رصد هذا المخزون والتعليق عليه، وإعداده للطباعة بواسطة عالم المصريات أوليج بيرليف. موضع هذه المخطوطة في الصناديق، ولكن كان لابد من تخزين صناديق الآثار في البداية في متحف أوديسا للتاريخ والآثار. وتولت جامعة “نوفوروسيسكي” مهمة جميع القضايا المتعلقة بالتنسيب والمصير المستقبلي لهدية الخديوي. وأصبحت في عهدة المؤرخ الأثري، أستاذ فقه اللغة الروسية أوليكسي ميكولايفيتش ديريفيتسكي، من جامعة “خاركيف” في عام 1893 ومساعده الأستاذ “بافلوفسكي”، وهكذا، بدأ البروفيسور ديريفيتسكي توزيع الآثار الواردة إلى متاحف جامعية مختلفة في جميع أنحاء الإمبراطورية الروسية بإتباع التعليمات الصادرة عن البلاط الإمبراطوري ووزارة التعليم. وبحلول ربيع عام 1895 اكتملت هذه العملية.
وكم قطعة حصلت عليها الإمبراطورية الروسية وأوكرانيا لاحقا؟
بخصوص وجهة القطع الأثرية، تم العثور على تقريرين تفصيليين تم كتابتهما بواسطة “ديريفيتسكي” ومن بينها المسودة والتوزيع النهائي بالإضافة إلى الفواتير المختلفة لتكلفة النقل وخطابات الرد التي تؤكد استلام القطع الأثرية. ووفقا لهذه التقارير كانت الهدية للإمبراطورية الروسية تتكون من 6 توابيت، و4 أغطية توابيت، و92 تمثال جنائزي أوشبتي، و3 قطع من ضمادات المومياوات، و3 صناديق جنائزية.
وتم توزيع هذه الأشياء على 10 مؤسسات تعليمية مختلفة للإمبراطورية الروسية في تسع مدن. وفي ربيع عام 1895، تم إرسال تسعة أجزاء إلى المتاحف في ثماني مدن، وبقي جزء واحد في أوديسا في متحف الجامعة.
ماذا عن طريقة توزيع القطع الأثرية على جامعات ومتاحف الإمبراطورية الروسية؟
هذه هي طريقة التوزيع كما توصلت إليها:
1-جامعة موسكو: تابوت رقم “أ. 73” عن مجموعة القاهرة جي إي 29687، غطاء تابوت، 10 تماثيل أوشبتي، 1 كفن مومياء.
2- جامعة كييف سانت فولاديمير: 1 تابوت من المجموعة أ. 48، القاهرة 29634، نعش نسموت، و10 تماثيل أوشبتي، و 1 كفن مومياء.
3- جامعة قازان: 1 تابوت من المجموعة أ. 96، القاهرة 29712، و 9 تماثيل أوشبتي.
4- جامعة نوفوروسيسكي (أوديسا): 1 تابوت، مجموعة القاهرة جي إي 29712، و2 صندوق جنائزي، و8 تماثيل أوشبتي، و1 كفن مومياء.
5- جامعة خاركيف: 1 تابوت، و9 تماثيل جنائزية.
6- جامعة وارسو: 1 تابوب، 9 تمثايل أوشبتي، و1 صندوق جنائزي.
7- جامعة يوريف (تارتو حاليا): 1 غطاء مومياء، و9 تماثيل جنائزية أوشبتي.
8- جامعة هيلسينجفورس (هلسنكي حاليا): 1 غطاء مومياء، و9 تماثيل أوشبتي.
9- الجمعية الإمبراطورية لتشجيع الفنون، سان بطرسبورج: 1 غطاء مومياء و9 تماثيل جنائزية أوشبتي.
هل تواصلت مع السلطات المصرية عن اكتشافك لمصير هدية الخديوي عباس حلمي الثاني لـ17دولة أوروبية؟
تم عرض نتائج أبحاثي واكتشافاتي في عدد من المؤتمرات العلمية الدولية. لذا فهي معروفة لعلماء المصريات في جميع أنحاء العالم. وتم عرض النتائج الأولى لدراستي من الناحية الأكاديمية في مؤتمر “باب الجسُس – الثقافة الجنائزية المصرية خلال الأسرة الحادية والعشرين” في جامعة لشبونة على مدار يومي 19 و20 سبتمبر عام 2016. وكنتيجة للمؤتمر، أصبحت جزءًا من فريق مشروع البحث الدولي “خبيئة كهنة آمون – مشروع باب الجُسس”، التابع لجامعة “كويمبرا” في البرتغال، عن مشروع أكبر يشمل الطقوس الجنائزية للكهنة في مصر القديمة.
بالإضافة إلى نشر نتائج دراسة “المجموعة 6”. تم نشر دراسة خاصة عن تاريخ قطع أثرية من الأسرة الـ21 باللغة الأوكرانية في عام 2021. ويجري حاليًا إعداد كتالوج لجميع الأشياء المعروفة في “المجموعة 6” الروسية للنشر في بالتعاون مع أ. أ.نيوينسكي من جامعة وارسو البولندية.
هل من الممكن الإطلاع على الوثائق التي عثرت عليها؟
تعرض الوثائق الصادرة عن هيئة الآثار المصرية في عام 1893 عدد وترتيب القطع المُهداة للإمبراطورية الروسية، والتي تؤكد أنها كانت جزءا من هدية رسمية من الحكومة المصرية. وأنها جزءا من 17 هدية تم إرسالها إلى دولة مختلفة في أوروبا بالإضافة إلى الولايات المتحدة وتركيا.
هل إهداء حاكم مصر الآثار قبل صدور قانون يُجرم الأمر يُفقد الحق في المطالبة بها؟
في هذه الحالة، نعم، لأنها كانت هدية رسمية من الدولة، وينطبق هذا على الآثار المُهداة إلى 17 دولة من كنوز “باب الجُسس”، والموجودة في العديد من البلدان. وألاحظ أنه حتى عام 1979 كان للمتحف المصري في القاهرة له الحق في بيع القطع الأثرية رسميًا. ولكن جميع الآثار التي تم استلامها بعد ذلك تم تصديرها دون قيد أو شرط بطريقة غير مشروعة. هي في رأيي قابلة للإرجاع، وعن قطع الهدية ليست معروضة في المتاحف الأوكرانية.
هل هناك علاقة أو تشابه بين آثار وتاريخ مصر وأوكرانيا؟
نعم، يمكن بالتأكيد رسم بعض أوجه التشابه، على الرغم من اختلاف التراث الأثري والتاريخي لمصر وأوكرانيا اختلافًا كبيرًا. ولكن على سبيل المثال، غالبًا ما تتم مقارنة الثقافة السكيثية في العصر الحديدي المبكر في أوكرانيا بالثقافة المصرية. وتسمى تلال الدفن في هذه الثقافة في أوكرانيا “أهرامات السهوب”. مثل الأهرامات المصرية التي كانت أماكن لدفن جثامين حكام العصور القديمة.
كم عدد القطع المصرية في أوكرانيا وأماكن حفظها؟
لا يمكن حصرها بدقة، ولكن يمكننا التحدث عن أكثر من ألف قطعة أثرية. وتوجد أكبر مجموعة في متحف أوديسا الأثري التابع للأكاديمية الوطنية للعلوم في أوكرانيا. إذ يتضمن وحده أكثر من 600 قطعة أثرية. وتوجد أيضًا مجموعات من القطع الأثرية المصرية في متاحف مدن مثل «كييف» و«دنيبرو» و«بولتافا» و«لفيف» و«نيكولاييف» و«خاركوف»، وكذلك في مجموعات متاحف القرم.
هل القطع الأثرية المصرية في أوكرانيا جميعها موثقة؟
في الوقت الحالي، لم يتم إدخال جميع الآثار المصرية من متاحف أوكرانيا في نطاق التداول العلمي على المستوى المناسب.
وعلى المستوى الشخصي أقوم بدور نشط في هذا العمل. ولكن لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به. على سبيل المثال، لم تكن الآثار المصرية من متاحف «لفيف» معروفة عمومًا لمجتمع علم المصريات. ويمكن قول هذا عن قطع من مجموعات «كييف» و«دنيبرو» و«أوديسا».
ما هي تهديدات الحرب الحالية على الآثار الأوكرانية بشكل عام والمصرية تحديدا؟
لسوء الحظ، فإن متاحف عدد من المدن. حيث توجد آثار مصرية هي الآن في منطقة القتال الفعلي أو تحت تهديد الضربات الجوية. ويكمن الخطر أولًا بالآثار الموجودة في خاركيف. نظرًا لأن الغرض من القصف الجوي الروسي والضربات الصاروخية هو البنية التحتية المدنية في المقام الأول. ومن بينها المتاحف وما يرتبط بها من التراث التاريخي والثقافي. وبالتالي إنها تشكل خطرًا على المجموعات المصرية.
وباستمرار القصف سيصل الخطر إلى متاحف وآثار «أوديسا» و«كييف». وهذا يذكرنا جدًا بالوضع خلال الحرب العالمية الثانية. عندما فُقدت العديد من مجموعات المتاحف، خاصة مع معاناة العديد من المدن الأوكرانية من دمار أكبر خلال شهر الحرب مقارنة بالحرب العالمية الثانية.
وكيف تعمل المتاحف الأوكرانية على حفظ الآثار بها من تأثير الحرب؟
تبذل المتاحف ومحبي التراث والفنون في أوكرانيا كل ما في وسعهم للحفاظ على الآثار القديمة وإجلائها إلى أماكن آمنة مع ظروف تخزين مناسبة. وبطريقة أو بأخرى، يجب على المجتمع الدولي والمنظمات ذات الصلة أن تولي أقصى قدر من الاهتمام للمعتدي. حتى لا تتعرض للتهديد أشياء من الذاكرة الثقافية والتاريخية للشعب الأوكراني. ولكن أيضًا مقتنيات التراث العالمي ولاسيما الآثار المصرية.
اقرأ أيضا
«خبيئة كهنة آمون».. التاريخ الأوكراني لهدية الخديوي عباس حلمي المفقودة