ملاحظات «فنية»..حول الحرب في أوكرانيا
لسنوات طويلة، حذر صناع أفلام في أوكرانيا وروسيا وبلاد أخرى من الحرب القادمة. لسنوات طويلة، حذر صناع أفلام ومفكرون وصحفيون من ديكتاتورية وطغيان الرئيس الروسي وعنفه المتزايد ضد مخالفيه في الرأي، ومن احتقاره لجيرانه ومواطنيه والعالم ما وراء حدود “الامبراطورية الروسية” التي يحلم بها.
معظم هؤلاء الذين أطلقوا صيحات تحذير أو اعتراض تعرضوا للسجن والقمع وأحيانا الموت، أو اضطروا للفرار بحياتهم إلى الخارج.
مقاطعة أم مناطحة؟
المفارقة المثيرة للسخرية أن السياسيين الذين كانوا حتى أيام مضت يراهنون على حكمة وديبلوماسية الرئيس الروسي أصيبوا بالدهشة والصدمة من عدوانه ضد أوكرانيا، وقرروا أن يردوا على هذا العدوان بمقاطعة الفنانين والمثقفين والمفكرين الروس، ومنهم هؤلاء الذين حذروا لسنوات طويلة من بطشه ونواياه العدوانية. هذه المقاطعة التي لا يمكنها إدراك الفارق بين الهدف والوسيلة، أو الفارق بين “المقاطعة” و”المناطحة” بدون تمييز، أدت إلى اتخاذ كثير من القرارات المتعجلة، الطائشة، التي تسببت، وسوف تتسبب في ظلم وأذى كثير من الأبرياء والحلفاء، ولكنها أيضا تصب في صالح الخصم الروسي الذي بدأ في استخدامها كنوع من الدعاية المضادة ضد الديموقراطية وقيم “حقوق الانسان” و”حرية التعبير”..
في خطاب مفتوح يقول صانع الأفلام الأوكراني المتميز سيرجي لوزينتسا، صاحب فيلم “دونباس” الحاصل على جوائز عالمية، والذي عرض في مهرجان القاهرة منذ ثلاث سنوات، والذي طالب مع زملاءه الأوكرانيين بفرض مقاطعة ثقافية على مؤسسات صناعة السينما في روسيا، أنه ضد مقاطعة الأفلام الروسية نفسها وضد الحكم على الأفراد بجوازات سفرهم: “عندما أسمع نداء مقاطعة صناع الأفلام الروس، أفكر في أصدقائي الروس- هؤلاء الشرفاء المحترمين. إنهم ضحايا لهذه الحرب مثلنا”.
فوارق مهمة
لوزينتسا، صاحب الفيلم الوثائقي “ميدان” الذي تناول بدايات ما يحدث الآن، مع اندلاع الثورة ضد الرئيس الأوكراني السابق في 2013، يقوم حاليا بالانتهاء من وثائقي جديد عن جرائم الاتحاد السوفيتي السابق في ليتوانيا بعنوان “التاريخ الطبيعي للدمار”. لوزينتسا كان قد أعلن استقالته من أكاديمية الفيلم الأوروبية مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا اعتراضا على صمت الأكاديمية، مما دفع المسئولين فيها إلى الاعتذار واصدار بيان إدانة للغزو واعلان المقاطعة الرسمية.
مع ذلك، كما رأينا، يطالب لوزينتسا بالتمييز بين مقاطعة الحكومة المعتدية وعقاب الفنانين الذين قد يكونوا معارضين أو حتى ضحايا لسياسات حكومتهم.
هذه الفوارق المهمة يمكن تتبعها في مواقف بعض المهرجانات السينمائية الدولية في أوروبا وأمريكا:
بينما أعلن المسئولون في مهرجانات “لوكارنو” و”كان” و”فينيسيا” أنهم يرفضون مشاركة أي وفد حكومي أو رسمي يمثل صناعة السينما في روسيا، إلا أنهم لن يقاطعوا الأفلام الروسية، أعلن مهرجان جلاسجو في أيرلندا، باندفاع وحماقة غير محمودة، عن مقاطعة الأفلام الروسية، ومنها فيلم لصانع الأفلام الشاب كيريل سوكولوف، وهو معارض بقوة لسياسات بوتين، والأكثر من ذلك أنه متزوج من أوكرانية ونصف عائلته يعيشون في أوكرانيا!
الفن تحت القصف
استطرادا لحديثنا عن معنى الفن وعلاقته بالواقع ربما يمكن ضرب مثل بما يحدث في أوكرانيا لذكر بعض الملاحظات حول المسألة.
ربما لدى السيد بوتين أسبابه “السياسية” وراء غزو أوكرانيا، ولكن هتلر أيضا كان لديه أسبابه “المنطقية”، فقد كان محاطا بجيران عدوانيين توسعيين يفرضون على ألمانيا حصارا وتجويعا، ولم يكن “يقصد” سوى أن يدافع عن حق ألمانيا في الوجود المشرف وسط امبراطوريات الاستعمار الكبرى بريطانيا وفرنسا. ولكن هذه المناقشات مجالها المنصات الاعلامية وساحات الحرب الدعائية، وليس مجال الفن.
ينظر الفن إلى ما وراء “الأسباب” الخارجية، ليحلل الفعل ورد الفعل، ويتعمق وراء الدوافع الأصلية والغرائز الأساسية التي تحرك الجنس البشري نحو الدمار والشر. لا يهتم بالغاية بقدر ما يشرح الوسيلة التي تتحقق بها الغاية. يشفق على الضحايا والمهزومين أكثر مما يهتف للمنتصرين.
وليس هناك أفضل من كلمات الأديب الأيرلندي جيمس جويس في روايته “صورة للفنان في شبابه” التي يميز فيها بين ما يطلق عليه “الفن الخالص” ( proper أو المضبوط أو المناسب)، في مقابل “الفن غير الخالص (improper). الفن غير الخالص، كما يرى جويس، هو الذي “يحرك” الغرائز ومشاعر الرغبة أو النفور تجاه شئ ما، ومن الأمثلة على ذلك الأعمال الدعائية أو الإباحية، فكلاهما يسعى لتحريك القارئ أو المشاهد للقيام بعمل ما أو تبني موقف أو شعور ما بالقبول أو الرفض تجاه شئ ما.
أما الفن الخالص فهو الذي يتجاوز مشاعر الانجذاب أو النفور، التحريض ضد أو الترغيب في، ليصبح همه تحقيق وظيفة الفن الأساسية، وهي خلق حالة من الافتتان الجمالي الساكن، الانتشاء بالمتعة الذهنية والتأمل، فيما وراء الرغبة والنفور، في أسرار الوجود والحياة والموت.
ولكن هل من الممكن انجاز هذ النوع من الفن، أو الدفاع عنه، عندما يكون العالم في حالة حرب؟
ربما يمكن للوحة “جورنيكا” لبيكاسو، أو فيلم “كازابلانكا”، اللذين خرجا من رحم الحر ب العالمية الثانية، أن يجيبا على هذا السؤال!
اقرا أيضا:
عادل إمام… ثورة بهجت الأباصيري!