تجارب من دول أخرى: كيف تحافظ الحكومات على تراث المدن؟
تحت عنوان «المجتمعات المحلية والحوكمة» أقيمت الجلسة النقاشية الثانية من سلسلة نقاشات مؤسسة “بركات” التي تهدف إلى تمكين المتخصصين في مجال التراث في العالم العربي من تبادل الخبرات والاستلهام والتعلم. وتُقدم هذه السلسلة من خلال لقاء افتراضي لتبادل المعرفة والخبرات.
الحكومة والمجتمعات المحلية
شكلت العلاقة بين الحكومة والمجتمعات المحلية محل جدل، وسلطت الجلسة النقاشية الثانية الضوء على إعادة إحياء المدن التاريخية، في كل من دلهي بالهند والمحرق بالبحرين وبيروت في لبنان.
تناول كل متحدث تجربته. إذ تحدث راتيش ناندا عن مثال ناجح مقدم من صندوق الأغاخان للثقافة في دلهي الهندية على كيفية قيام المنظمات غير الحكومية بتطوير مخططات إحياء عمراني ناجحة تعمل مع كل من المجتمع المحلي والحكومة. ثم المعماري غسان شمالي عن جهة حكومية للحفاظ العمراني وهي هيئة البحرين للثقافة والآثار نموذج رائع لمشروع أطلقته الدولة ليعيد إحياء حي تاريخي دون تهجير سكانه.
والتجربة الثالثة للمعمارية اللبنانية عبير سقسوق عن جهة غير حكومية – استوديو أشغال عامة – يستكشف كيف يمكن للمهندسين المعماريين والمخططين العمرانيين العمل تشاركيَا على الحقوق البيئية والسكنية والحق في تنمية متكاملة وحيّز عام مُتاح. ويقول الباحث والمؤرخ سيف الرشيدي: “وجهات النظر الثلاثة هامة لأن الحفاظ العمراني والتراث يحتاج إلى المشاركة بين الحكومة والجهات المانحة التي تمتلك إمكانيات”.
تجديد دلهي الحضري
كان المعماري الهندي راتيش ناندا، الرئيس التنفيذي لصندوق الأغا خان للثقافة في الهند أول المتحدثين، حيث أشار إلى مشاريع تجديد تراث الهند، إذ يرأس فرق عمل صندوق الأغا خان للثقافة متعددة التخصصات التي تتولى حاليًا مشروعي الحفاظ العمراني الرئيسيين في الهند: مبادرة نظام الدين للتجديد الحضري في دلهي ومحمية قطب شاهي التراثية في حيدر أباد. كان مسؤولا سابقا عن ترميم باغي بابور (2002-2006) في كابول أفغانستان، وترميم حديقة قبر همايون (1999-2003) لمؤسسة الأغا خان للثقافة.
وقال ناندا: “بالنظر إلى الصور التي تم عرضها فإنها تظهر مدى الاختلاف، والآن نعرض مدى التغييرات التي حثت والتعاون الذي تم مع الأنظمة الهندية لإعادة كتابة تراث الهند بطريقة حديثة والمقرر الانتهاء من تنفيذها في 2040. ويتضمن تجديد الأماكن التراثية استخدام التقنيات نفسها المستخدمة قديما في الأماكن التراثية والتاريخية التي يرجع عمرها إلى القرن الخامس والسادس الميلادي”.
وتابع: “نحن نؤمن بأهمية التعليم وتوارث الخبرات للأجيال القادمة، لهذا تم تأسيس عدد من المدارس لتعليم المراهقين والشباب الحرف التراثية حفاظا على استمراريتها. وهناك العديد من الجهود الهندية العامة من قبل الحكومة والصندوق لتطوير الأماكن العامة والتراثية”.
تراث اللؤلؤ
من جانبه تحدث المهندس غسان شمالي من الهيئة البحرينية للثقافة والآثار عن تجربته في المشاركة في وضع نظام للحفاظ على النسيج العمراني والمباني التاريخية في البحرين، مسلطًا الضوء على الحوكمة والتعاون مع جهات اخرى للتفكير في القوانين وشروط البناء وعوامل ساعدت بطريقة إيجابية في تنفيذ المشروع الفائز بجائزة “أغاخان” للعمارة سنة 2019 كنموذج رائع للحفاظ العمراني من قبل جهة حكومية تعمل مع جهات أخرى.
إدارة المدن القديمة وطريق اللؤلؤ والمشروع بشكل عام كناية عن إبراز هوية تاريخ المدينة المرتبط باقتصاد اللؤلؤ. بالإضافة إلى ترميم 16 بيتا بمدية المحرق وربطهم بحركة الزوار وإدراجها على قائمة التراث العالمي. ويقول: “أصبح هناك حفاظا بشكل أوسع على مدينة المحرق وهذا يعد الهدف الأساسي للحفاظ على نسيجها الذي تم إهماله في معظم البيوت من خلال موجات هدم كبيرة في نهاية القرن الماضي بأزقة المدينة”.
ويصف الموقع بأنه كناية عن أماكن طبيعية ومعمارية. إذ تتسم الأماكن التي يوجد بها المحار في البحر بأنها مُسجلة على قائمة التراث العالمي. ويربط كل من مصدر تراث اللؤلؤ والبيوت التراثية في المدينة بأنهم مزارا للزوار، وكذلك بيت الطواشي – تاجر لؤلؤ – وبيوت أخرى لتجار اللؤلؤ ستصبح متحفا لمجوهرات اللؤلؤ. ولكن بتسجيل الموقع استمر العمل على المسار والشوارع للمحرك نفسه من ناحية ترميم الواجهات وتنفيذ ساحات عامة، وبناء أماكن انتظار لتسهيل الوصول إلى المدينة لتخفيف الزحام عن الشوارع.
حتى عام 2010 لم يكن مسموحا بترميم المدن في البحرين. ويفسر السبب: “البحرين مثل معظم الدول بالمنطقة كان التطوير فيها محدود ومرتكز على تطوير المباني الحديثة وترميم المدن والحفاظ العمران كان موضوع جديد ضمن ملف الترشيح واستغرق العمل فترة طويلة كان هدفها الأساسي إدخال الأذهان فكرة الحفاظ العمراني”.
ترميم دون تهجير
رحلة العمل على مدار 12 عاما توجت بملف الترشيح لضم المنطقة لتراث اليونسكو. وتضمن ملف الترشيح هيكل إدارة الموقع بشكل مفصل، والاجتماع بشكل دوري، بالإضافة إلى قائمة الشراكة. إذ تطلب التقدم ضرورة وجود شراكات بين كل الجهات الحكومية وهذا ما تحقق على مدار السنوات العشر الأخيرة. ويتابع: “هيئة الثقافة هي مُنفذ كل العمل والجهود للميزانية بدعم من الدولة البحرينية”.
بالإضافة إلى ملف قائمة اليونسكو، كشف عن تنفيذ حملات توعية للحفاظ العمراني وأهمية “المحرك” في تمثيل هوية البحرين، متمنيا أن يكون التراث هو الهدف المشترك بين الكثير من الجهات. ويقول: “من أمثال العمل على مناطق التصنيف أن البحرين كانت لا تُفرق بين المناطق غير التراثية وكل منطقة لا تفرق بين قديم وجديد وعملنا على تحديد المناطق القديمة وبالتعاون مع التخطيط العمراني استطعنا إقرار قانون يشترط الحفاظ على المدن التراثية”.
نجاح التجربة البحرينية تطلب عدد من العوامل، كان أبرزها التعاون مع وزارة الإسكان. إذ اقترح مشروعا لإعمار عدد من البيوت القديمة على أن تصبح المدن الجديدة شبيهة ببعضها البعض. ويتابع: “مازلنا نبحث عن طريقة للتنسيق حتى يصبح لكل وزارة الخطة الخاصة بها والتي تتضمن وجود التراث بالإضافة إلى برنامج الوزارات الأخرى أيضا. والمثل المهم هو نجاحنا في أول موقع على مسار اللؤلؤ وهو قلعة بالبحر كانت موجودة ضمن قاعدة عسكرية وقررنا الفصل بين القلعة التراثية والآثار الخاصة بها عن القاعدة مع وجود جسر لربط القلعة بالمسار بنوع من أساليب ربط الساحل بالمدينة”.
بين المدينة والساحل
شبه غسان الهوية التي أتضحت من المشروع كشارع عريض يفصل بين المدينة والساحل وتاريخ المحرك المرتبط بالساحل والبحر. ويقول: “ما حدث له قيمته وعن الهيكل القانوني فقد عمل على القضية وما استطعنا النجاح فيه هو تراخيص البناء إذ تنطبق على المناطق التراثية. وتطرق إلى نقطة هامة وهي الحصول على التراخيص بطرق غير رسمية في البحرين والتي بدورها قد يكون لها عواقب”. مضيفا أنه يعتقد أن المدينة مثل أي مدينة عربية قديمة يجب أن تشهد عملية قانونية مُنظمة.
أما القوانين التي وضعها المشروع يصفها المهندس البحريني بأنها ساعدت في فهم التراث والمساعدة في الحفاظ على هوية المدينة، مشيرا إلى أن الأطر القانونية التي وضعها المشروع اختيارية. ومن الناحية الإدارية فالاهتمام بالمشروع شمل أيضا قضية التغير المناخي التي من الممكن الأخذ بها بعين الاعتبار وأثرها على التنسيق مع الوزارات الأخرى. ويضيف: “يتناول المشروع قضية تأثير التطوير على المجتمع من ناحية معينة لتفادي تقدم مجتمع على مجتمع آخر أكثر ثراءً”.
جسد المشروع أيضا مفهوم المشاركة المجتمعية الذي يتم تطبيقه بعد الخطط والتنسيق بطريقة غير رسمية، لإبداء المجتمع رأيه في التخطيط. ويقول: “أردنا إدخال مفهوم استخدام الأملاك المشتركة للمجتمع من خلال استقطاع المساحات للساحات العامة”.
أن نرسم بيروت بروايات مستأجريها
من البحرين إلى لبنان، تحدثت المعمارية عبير سقسوق، وهي عضو مؤسس ومديرة مشارِكة في استوديو أشغال عامة، عن تجربتها في المشاركة في العديد من المشاريع البحثية في لبنان. بما في ذلك تاريخ الضواحي غير الرسمية والإنتاج الاجتماعي للمساحات المشتركة في المدينة. تشمل اهتماماتها استكشاف كيفية توظيف المشاركة المجتمعية في التخطيط وتشكيل مستقبل المدن بشكل فعال. وهي أيضًا عضو مؤسس في مجموعة الدكتافون (منذ 2009).
أوضحت سقسوق تفاصيل تنفيذ 3 مشاريع من خلال المؤسسة. وتقول: “الدور الذي نلعبه في القضايا العمرانية يأتي بسبب سياسات الدولة وتأثر المجتمع بها، ومازالت السياسات القائمة في لبنان ترى الأرض سلعة، وجاءت المشاريع البحثية الثلاثة لخدمة الهدف نفسه”.
وقدمت المؤسسة مشروع بحثي بعنوان “أن نرسم بيروت بروايات مستأجريها” وشمل الإطلاع على أحياء بيروت السكنية المهددة طوال الوقت بعمليات الهدم وإعادة البناء لأبراج فاخرة. مع عقد مقارنة بين الأحياء التاريخية عن طريق روايات السكان ومعرفة أسباب تهديدات السكان، وعمليات الإخلاء لسكانها عبر منظور كان متجذر من مبدأ السكان كـ مكون أساسي للتراث الحي.
وتستكمل المعمارية اللبنانية: “لتنفيذ هذا المشروع في سياق عام احتجنا إلى دراسات ولكن لا توفرها الدولة دراسات عن سكان المدينة وبالتالي يتم إصدار تشريعات لا تراعي احتياجات المدينة في ظل غياب كل المعلومات الرسمية عن وضع السكن. ولجمع هذه المعلومات نفذنا ورش عمل تشاركية في 7 أحياء ببيروت ضمت سكان من الأحياء وطلاب مهتمين بالتراث ومن خلالها جمعوا بيانات أساسية ميدانية من كل مبنى وشارع وعدد الطوابق وهل هي فارغة أم مأهولة ودرجة تعرضهم لتهديدات بالإخلاء وعمليات الإخلاء سابقة”.
مرسم السكن
وتضيف: “ومن خلال 7 ورش عمل في عام 2015 توصلنا إلى معلومات قيمة غير متوفرة. ووضعنا المعلومات على خرائط مع تحليلها واتضح أنها مشاريع التهديد بالهدم أو لعمليات إخلاء قريبة من أماكن إقامة مشاريع طرق عامة. ولها علاقة بقانون الإيجارات الجديد وضغوطات السوق”.
ثم نفذت المؤسسة مشروع ىخر وهو “مرسم السكن” وهي منصة إلكترونية عبرة عن اداة مجتمعية من خلالها يتم توثيق علميات الإخلاء بالمدينة بشكل ممنهج. عبر الاتصال بخط ساخن والإبلاغ عن تهديدات بالإخلاء وعبر فريق من المحامين أو العاملين الاجتماعيين يحصلون على الدعم القانون الاجتماعي أو القانوني للحفاظ على سكنهم في بيروت أو أنحاء لبنان.
وبالمقارنة عن مرحلة ما بعد تفجير مرفأ بيروت. تكشف عن نتائج البلاغات أن 50% منها كانت من المناطق القريبة من مكان التفجير . وتضيف: “بالتالي هم يتعرضون إلى ضغوطات إضافية بسبب عدم استدامة الإطار القانوني لحماية السكن”. أما المشروع الثالث هو تجسيد لتصدي الدولة للمخططات العمرانية ومن خلاله استطاع الفريق جمع كل بيانات المخططات العمرانية التي حدثت منذ عام 1954 حتى الآن، والتي تعد معلومات غير متوفرة أو متاحة ويتضح منها أن 85% من الأراضي اللبنانية غير منظمة وهذا يوضح أنها لا تخضع للعديد من المعايير.