من محمد صبحي وتركي إلى سقراط: الترفيه vs الملاهي.. والواقع vs الأخلاق
في المعركة الأخيرة الدائرة بين أنصار “الترفيه” ودعاة الفن “الهادف” التي اندلعت عقب “شجار” الممثل والمخرج المسرحي محمد صبحي ورئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ، وبعيدا عن الادعاءات والمبالغات اللفظية التي تفوح من الشجار، لم يتوقف أحد ليسأل، كما يقول شوقي: “إلام الخلف بينكم إلاما، وهذه الضجة الكبرى علاما؟”.
**
لقد بدأت المعركة بتصريح لصبحي يزعم فيه أنه رفض عرضا بملايين الدولارات لتقديم مسرحية في السعودية، لأنه اعترض على كلمة “الترفيه” التي تطلق على أكبر هيئة لدعم الفن في المملكة، وأنه عرض أن يقدم المسرحية تحت أي مسمى آخر غير الترفيه!
الاعتراض مضحك، بقدر ما هو مثير للشفقة، ويبدو أن محمد صبحي لم يفكر وهو يكتب هذه الكلمات في أنه يسدد طوال حياته الفنية ما يطلق عليه “ضريبة الملاهي” التي تطلق على السينما والمسرح والموسيقى في مصر!!
السعوديون عربوا كلمة “ترفيه” عن Entertainment الإنجليزية، التي تطلق في أمريكا على الفنون الجماهيرية الثلاثة. لأن الهيئة معنية بالأساس بتقديم السينما والمسرح والموسيقى للجمهور، بعد عقود من تحريم الفن ومنع ممارسته في المملكة. وكلمة “ترفيه”، مثل أي كلمة، ليس لها معنى في حد ذاتها، ولكن المعنى يتحدد بالسياق وبما يفهمه المتلقي منها، وقد تستخدم الكلمة نفسها بمعان متناقضة أو مختلفة تماما باختلاف الزمان والمكان. ومن يختلطون باللهجات العربية أو الإنجليزية المختلفة يدركون هذه المشكلة جيدا.
**
ومثل كلمة “ترفيه” تبدو كلمات مثل “نظيف”، “هادف”، “واقعي” التي توصف بها الأعمال الفنية مضحكة وفارغة حين نناقش ما يقصد بالفعل من وراء هذه الكلمات.
محمد صبحي في مشهد من مسرحية الجوكرولست أرغب في تضييع الوقت في مناقشة كلمة “ترفيه” أو “نظيف” بحد ذاتها. ولكن أذكرهما كمثال للتأكيد على أهمية التساؤل عن المعنى المقصود من وراء كلمات نستخدمها كالببغاء دون تفكير.. مثل الواقعية، الأخلاق، الجمال والفن الهادف.
منذ ما يقرب من خمسة قرون تساءل شكسبير في مسرحية “روميو وجولييت” : “ما الذي يهم في اسم الشيء؟ هل تكف الوردة عن أن تكون وردة إذا غيرنا اسمها؟” مدركا أن الناس تتعلق أحيانا باسم الشيء دون أن تدرك جوهره.
وقبل شكسبير بألفية وخمسة قرون راح سقراط يتساءل في شوارع أثينا عن معنى كل كلمة، ويحث مريديه على إعادة التساؤل والشك في الكلمات التي يستخدمونها، حتى يمكنهم بناء العقل والعالم بشكل واضح، بدلا من التخبط في فوضى وغموض الكلمات.
معظم الناس يتفقون على أن الفن يجب أن يكون صادقا، أخلاقيا وجميلا، ولكنهم يختلفون على المقصود بهذه الكلمات.
**
ما هو الحق، والخير، والجمال؟ تساءل سقراط وكل فيلسوف جاء بعده، وكل منهم أعاد تعريف الكلمات وفقا لرؤيته وزمنه ومكانه. ربما يعتقد القارئ أن هؤلاء الفلاسفة وكتاباتهم مجرد كلمات مملة، ولكنني أرجو من هذا القارئ أن يجرب على الأقل قراءة رواية “عالم صوفي” للكاتب يوستن جاردر التي تلخص تاريخ الفلسفة بشكل درامي بسيط وممتع، ولا أجد كلمات لتزكيتها أفضل من تقديم مؤلفها الذي اقتبس فيه كلمات الشاعر الألماني جوتة: “من لم ينتفع بدروس ثلاثة آلاف عام لم يتجاوز زاده خبرة يوم بيوم”.. كلمات تبدو وكأنها موجهة مباشرة إلينا!
اختلف الناس على المقصود بالحق منذ زمن سقراط، وكان رأيه أن الإنسان لن يكون سعيدا أبدا إذا تصرف بما يخالف قناعاته. وأن عليه أن يتبع صوت الحق داخله، وليس خارجه. ليس من الأخلاق، إذن، أن يتبع المرء شيئا يعتقد داخله أنه غير حقيقي أو عادل، وسوف تتشوه نفسيته وسلوكياته بسبب ذلك، ولو كان “فنانا” فسوف تخرج هذه الأعمال قبيحة وكاذبة.
الحق والخير والجمال مفاهيم مرتبطة ببعضها تماما ولا يمكن الفصل بينها، في الحياة كما الفن.
عندما نطالب من الفنان أن يكون صادقا، حقيقيا، واقعيا، فهذا يعني أن نطالبه باتباع صوت الحق داخله، وليس ما نزعم نحن أنه حق. ربما يرى فنان ما أن كل ما حوله كذب ونفاق ودمار قادم لا محالة، ولو قال ذلك علانية فسوف نتهمه بالخيانة والتخريب والخبل.. فهل هو المحق، أم نحن؟
**
عندما يشعر فنان ما بحاجة ملحة داخله على رفض الجمال الظاهري للأشياء وحاجة ملحة لوصف القبح والتحلل والعفن الذي يختفي وراء هذه المظاهر، فهل يعني ذلك أن عمله غير جميل؟ ألا يكمن الجمال في الصدق نفسه. وأليس الصدق هو أفضل الأخلاق؟
إننا نطالب الفنان بأن يتبع رؤيتنا وهوانا وأكاذيبنا نحن عن الواقع والأخلاق والجمال. ولو أطاعنا فسوف يكون عمله الفني كاذبا، عديم الأخلاق، قبيحا. فأي حق أو خير أو جمال نطالب به؟ ما نعتقده نحن، أم ما يعتقده الفنان؟
عند هذه النقطة ينبغي نقل المناقشة إلى مستوى آخر. ما هي المعايير التي تحدد صدق وأخلاقية وجمال عمل ما؟ وما هي حدود حرية التعبير وحرية الفنان في أن يتبع رؤياه الداخلية مهما شطت وبدت مخالفة لما يراه المجتمع؟
نواصل الأسئلة في المقال القادم.
أقرأ أيضا:
3 بديهيات غير بديهية: العلاقة «المشبوهة» بين الفن والواقع!