حمدي منصور: الشبح الودود وعطاء الصمت العجيب
هل يمكن أن يكون المشي نوعا من العطاء الشعري. هل يمكن أن تكون الكتابة نوعا من الشُّح والخيانة؟
هكذا كنت أفكر عندما أشاهد الشاعر حمدي منصور يمشي في دروب قنا الجانبية، وهو يتطلع إلى البيوت القديمة. أو عندما أجده مُلتفا بشروده العميق على أحد المقاهي. أو عندما أحدِّثه عن قصيدته الجديدة التي ننتظرها منذ فترة ويعدني بظهورها قريبا.
ترك حمدي منصور مجموعتين شعريتين هما (الولد) و(ما على العاشق ملام) وقصائد أخرى، لم يتم جمعها في كتابٍ وضاعت. وهي أعمال قليلة لكنها تكشف بجلاء عن موهبة شعرية كبيرة، كانت تستحق مكانة أكبر في سياق تجربة جيله. وقد حُرِمَ من تلك المكانة لأنه أعطى ظهره للعاصمة، وابتعد عن تكتلات الوسط الثقافي بكل ما فيها من أنانية وقسوة وجحود.
لقد فضَّل البقاء في مدينة قنا، وربما كان ذلك موقفا من وحْشية العاصمة، وربما لأنه يفتقد بحكم طبيعته الوديعة ما جعله ينكمش أمام فكرة الرحيل إلى مدينة الضوء المبهر. ولاشك أنه دفع ثمن ذلك، لكن المشكلة الأساسية في تقديري، هي توقفه الغريب والعجيب عن الكتابة.
**
ينتمي حمدي منصور فنيَّا إلى تجربة شعر العامية في الستينيات. لكنه كان يحمل وعدا واضحا بتطورها، يظهر ذلك في سمات كثيرة، منها اعتماده المبكر على مبدأ التفكير الشعري من خلال الصور. يقول في إحدى قصائد مجموعته، “ما على العاشق ملام”:
جسدي شوال فاضي
ودراعى زعزوعة قصب يابس
وانا ماشى وف راسى خبطة فاس
جُوَّايا صوت عجلات القطر ع القضبان
جوفي قدرة بتغلى فـ جمرة نار
والسكة ـ لا قمري ولا قمرايا
ولا ندهة جار.
نحن هنا أمام مجموعة من الصور التي تكشف عن مخيلة قوية. وانتقال رشيق من صورة إلى أخرى مختلفة لكنها تعمق شعورنا بحالة واحدة. ورغم قدرة التركيبات المجازية على لفت انتباهنا. إلا أن الكلمات العادية تلفت انتباهنا كما هو الحال في حلو السكة من ندهة الجار، وطائر القمري، والقمر الذي يأتي دائما في هيئة الأنثى.
**
يعتمد الشاعر هنا على توالي الصور وكثافة التشبيهات مع غياب أدوات التشبيه. ولم يكن ذلك شائعا في تلك الفترة، فالصور الشعرية كانت موجودة في شعر العامية لكنها نادرة. وكانت مساحة الخيال موجودة، لكنها كانت محدودة، وما يعنينا هنا، هو تمتع الشاعر في وقت مبكر بموهبة كبيرة، وقدرة على النمو والتطور، وكيانٍ قادر على اقتحام ساحة التجريب والبحث عن الجديد.
الوعد الكبير الذي قدمته تجربة حمدي منصور أصيب بنكسة غريبة. وذلك مع إصابة الشاعر باكتئاب حاد بعد عودته من حرب أكتوبر، والتي شارك فيها كجندي، وبسببها على الأرجح، وانصرافه بعدها عن كتابة الشعر، رغم أنه كتب أكثر من قصيدة بطلها الجندي المقاتل. لكنه لم يكن يعبر عن الحرب والقتال، بقدر ما كان يعبر عن مسافر أو غريب يفتقد إلى محبوبته في بلدته البعيدة.
ننصرفُ عن الشاعر عندما ينصرف عن الشعر. هذا طبيعي ومفهوم. وقد انصرف حمدي عن الكتابة الشعر، لكنَّ مكانته ظلَّت تكبر بسبب صمته، وحفاوته الكبيرة بالشعر.
كان يُدعى لكل أمسية لكنه كان يتغيب بلا سبب معقول. ثم يظهر فجأة بلا سبب معقول. يلقي قصيدة معروفة لنا، لكنه يدهشنا بأدائه، لم يكن يلقي شعرا. كان عاشقا يبوح أمام معشوقه، وكانت قصيدته المعروفة لنا تشبه السمكة المطبوخة وهي تستعيد زعانفها وقشورها وتقفز ـ حية ـ وتعود إلى البحر مرة أخرى.
**
لحمدي منصور مقطعٌ يبدأ به دائما، ويطالبه الحضور به دائما، المقطع بسيط جدا، لكنه كان يخاطب داخلنا شيئا عميقا، وكنا نردده معه، ولا نشبع منه، نردد ما نعرفه ونستمع إلى ما لا نعرفه وهو يظهر في جسد الشاعر، في روحه التي تمنح كل كلمة نعرفها شيئا لا نعرفه. يقول:
ناسي فُقَرا، فقرا، فقرا
يرضعوا بالليل من بز القمره
يطلعوا بنهارْ يُبْقوا شُعرا
ناسي فقرا، فقرا، فقرا.
يلتبس هنا معنى الناس، فبينما يحيل إلى هوية قوامها صلة الدم، أو صلة الجوار، أو الطبقة، نجده في النهاية يعبر عن صلة الشعر وحدها. وكأنه يقول (ناسي الشعراء).
تتكرر كلمة (فُقَرا) لتعمق إحساسنا بدرجة الفقر، بمعناه المادي، لتصل إلى أشد مظاهر الجوع والحرمان، وكأن كل كلمة تمثل مرحلة أو درجة من درجات الفقر. ثم ينتقل الشاعر سريعا إلى فعل الرضاعة، رمز الشبع العظيم، لكنه يأخذنا من الفضاء المادي إلى فضاء روحي. حيث يتحول القمر بعد تأنيثه إلى أمٍّ أسطوريةٍ كبرى تُرْضع أطفالها، ليصبحوا شعراء.
يتكرر السطر الأول في النهاية. لكنه يأخذ دلالة مختلفة تماما، انقباض الفقر في البداية يتحول إلى بسط عجيبٍ في النهاية، شعورنا بالشفقة على الفقير يتحول إلى شعور بالإعجاب. الولد الذي يشكو في البداية نراه يعتز ويفتخر بنفس الكلمات. الفقير بمعناه الظاهر المؤلم، يربح دلالة صوفية تجعله مبهجا. وتلك البهجة لا تتجلى في الكلمات وحدها، لكن في حرارة الجسد وهو يلقي قصيدته.
**
هذا هو حال الشاعر دائما، يمسك بالواقع لا ليبقى فيه، بل ليصعد به، يلعب بالمشاعر السلبية لا لينقلها لنا، بل ليبعث فينا طاقة إيجابية، مع الشعر يرتفع شعورنا بالواقع وترتفع قدرتنا على التعامل معه، لأن الشاعر يقدم الواقع والجمال معا، يقدم الواقع وشيئا من الروح.
على مدار سنوات طويلة كنت أراقبه وهو لا يكتب شعرا. لكنه يجسد حالة شعرية حقيقة، قوامها الزهد والشرود، جسده الذي كان يتجلى مع الكلمات ويقول لنا أشياء لا نجدها في الكلمات وحدها. ها هو يلقي شعره بلا كلمات، يلقي شعرا بترفعه وتساميه وعينيه الحائرتين وقدميه الناحلتين النشيطتين. ربما كانت مشكلته في تلك الحالة التي صارت أكبر من أدواته، أو أكبر من مفهومه أو مفهومنا عن الشعر.
كان شبحا هائما في المدينة الصغيرة. كثيرا ما ألتقِي به في الشارع، يمشي من أجل المشي، لا يبحث عن مصلحةٍ ولا يتريض، يتفقد المدينة ودروبها الجانبية كملكٍ متنكرٍ.
**
كثيرا ما كان يظهر فجأة وأنا في مقر عملي، يجلس صامتا ثم ينصرف، لماذا أتى ولماذا ينصرف؟ أكلمه عن شعره، وعن انتظارنا لقصيدة جديدة، فيرد بكلمات قصيرة عن استيائه من الأحوال. يعدني بكتابة قصيدة جديدة قريبا، لكن طريقة الوعد تفضح نيته في عدم الكتابة، تسخر مني بشكل مفضوح ومحبوب، تسخر مني ومنه أيضا، لا يريد أن يعترف بتوقفه عن الكتابة.
لم أصدق توقف قدرته على الكتابة. هذا الرأس المسكون بالخيال الجامح والمشغول بذاته بعيدا عن صخب الدنيا لا يمكن أن يتوقف عن ضخ الصور الشعرية. ربما كان يكتب لنفسه فقط. وكان صادقا بشكل يجعله لا يحتاج إلى أوراق، ولفْت انتباه الآخرين. ربما وجد في الصمت أفقا أوسع من أفق الكلام.
إلى أي مدى يمكن أن يكون الصمت نوعا من العطاء الشعري؟ هل يمكن أن تكون الكتابة نوعا من الشُّح الشعري أو الخيانة التي يفضل بعض الشعراء تجنبها مع عجزهم عن تقديم المبررات؟
اقرأ أيضا:
الشيخ محمد عبدالقادر: تجربة تحويل بيوت الصعيد إلى مؤسسات ثقافية