الشيخ محمد عبدالقادر: تجربة تحويل بيوت الصعيد إلى مؤسسات ثقافية
البنية التحتية للثقافة ضعيفة جدا، ولا تتناسب أبدا مع أمَّة تفكر في مواجهة تحديات العصر، والبحث عن مكانة تحت الشمس، ناهيك عن تحديات انحدار الذوق العام وتدني المستوى الثقافي وخطورة ذلك على السلْم الاجتماعي.
البنية التحتية للثقافة تحتاج إلى وقفة كبيرة، خاصة في الأقاليم، والمناطق الشعبية، وواحد من الحلول المقترحة، يتمثل في قيام الأهالي أنفسهم ببناء مؤسسات ثقافية صغيرة، أو تحويل أجزاء من بيوتهم إلى مكتبات وقاعات للندوات، وهو اقتراح وجيه على المستوى النظري، أما عمليا فيبدو حلما بعيد المنال.
لا أحد يمتلك الوعي بأهمية التبرع من أجل إنشاء كيان ثقافي، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، خاصة في الصعيد. حيث التهميش التاريخي على مستوى التنمية، ووجود قناعات قوية بالتبرع لما هو أهم، وأولى، مثل بناء مسجد أو زاوية، أو جمعية للأيتام، أو بناء المؤسسات الاجتماعية مثل الدواوين، وتقديم المساعدات ذات البُعد القبَلي، وغيرها من وجوه الصرف التي تتوارى أمامها فكرة إنشاء مؤسسات ثقافية.
مؤسسة ثقافية
الشيخ محمد عبدالقادر، شيخ الطريقة الخلوتية في دشنا قدم نموذجا جديرا بالدعم والحفاوة. لقد تبرع بالطابق الأول من بيته، ليصبح مؤسسة ثقافية، أطلق عليها اسم “روضة عبدالرحيم”. كما أطلق لها العنان لعمل الندوات، والورش الخاصة بتعليم الرسم والموسيقى وكتابة القصة، وغيرها من الفعاليات الثقافية.
سلوك الرجل رائد ومتميز من عدة وجوه. أولها التضحية المادية، فالرجل ليس ثريا، أو من رجال الأعمال، وهو يكسر النموذج الذي نتخيله ونحن نبحث عن متبرعين لبناء مؤسسات ثقافية.
الرجل مِثل ملايين المصريين البسطاء، وإن امتلك بيت.، وقد قضى حياته موظفا في التربية والتعليم، أخصائي مكتبات، ويوجد لديه ما يبرر استثمار مكان (الروضة) الذي يقع على ناصيتين في مدينة دشنا، ولو بتحويله إلى محلات تجارية.
روضة عبدالرحيم
سلوك الرجل يقوم على أساس ديني. لكنه ينفتح على الثقافة بمفهومها الواسع، ويظهر هذا الأساس في اختيار اسم (الروضة). كما يظهر في شخصية الرجل، واعتبار المؤسسة الثقافية صدقةً جارية، على روح نجله (عبدالرحيم)، المدرس المساعد بكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان، والذي توفي إلى رحمة الله تعالى عام 2013.
ارتباط العمل الثقافي بالصدقة الجارية عزيز في حياتنا المعاصرة. فهناك تكريس كبير للفصل بين الخيري والثقافي. أو ربط الخيري بالثقافة الدينية وحدها. ونحن بحاجة إلى كسر ذلك الارتباط، والانتباه إلى تداخل العمل الثقافي مع كل العوامل المؤثرة في حياتنا.
من أهم مظاهر تجربة (الروضة) إسناد أمر إدارتها لأدباء ومثقفي دشنا مثل صابر حسين خليل، وسحر محمود، وحمدي محمد حسين، ومحمد حمادة، وخالد عبدالحفيظ، وغيرهم. ولا شك أنها استفادت من خبراتهم. كما استفادوا هم من المكان في تحقيق رغبتهم في لعب دور ثقافي يؤمنون به، ولا يجدون سبيلا لتحقيقه.
مبادرات متميزة
تحتضن (الروضة) الكثير من المبادرات الفردية المتميزة، مثل مبادرة (أزبكية دشنا) التي ترفع شعار (في القراءة حياة). وتقوم بتوفير الكتب بأسعار رمزية. أو عن طريق المبادلة. وعمل معارض للكتب المستعملة في أماكن مختلفة في الصعيد.
كما تنفتح (الروضة) على المؤسسات الأخرى، وتتعاون مع هيئة قصور الثقافة. وقسم التعليم الذكي والمواهب بمديرية التربية والتعليم. وتقوم باستضافة قوافل اكتشاف المواهب ودعمهم وتشجيعهم. وحسنا تفعل لأن استمرارها صعب مع عدم وجود موارد. وتعاون تلك المؤسسات الحكومية وغير الحكومية يحافظ على بقائها وتطورها.
وجود مؤسسة ثقافية في كل حي ومنطقة شعبية ضرورة. وينبغي أن يوضع في اعتبارات الدولة والمواطنين معا. وقد يبدو الأمر مستحيلا أو صعبا. لكن الشيخ عبدالقادر نجح في تقديم نموذج رائع بإمكانيات بسيطة جدا. ولابد من الحفاوة بذلك النموذج وتشجيعه وتسليط الضوء عليه، على أمل تعميمه، لنراه في كل حي، ومنطقةٍ شعبية. فمثل هذا الرجل يمكن أن يوجد في كل مكان، لكن المشكلة الكبيرة في غياب النموذج، وضعف الإيمان بجدوى العمل الثقافي، والاستهتار ببناء الإنسان، وترك الِسلْم الاجتماعي للأمواج تفعل به ما تشاء.
اقرأ أيضا
الثقافة والقانون: الأدب والمحاماة