«الأبلتين لدع في دهاليز الحياة»: لغة الروشنة..بلاغة التمرد
إذا ركز أي مستمع لما يسمعه في الشارع المصري من ألقاب سيدهش دهشة كبيرة لما يحدث من تغيرات حادة في لغة المتعاملين بغض النظر عن جنسهم وأعمارهم وطبقتهم الاجتماعية. فهذه المسألة لا تخضع لعرف أو قانون، وإنما تحكمها الفوضى.
ولنتأمل بعض الألقاب التي يمنح الأفراد لبعضهم في تعاملهم اليومي: “أسطى – باشا – بيه –باشمهندس– كابتن – دكتور –أفندي– ريس –هندزه– يابو الكباتن – يا حاج”. وهكذا قد تسمع هذه العبارة وردها “صباح الخير يا باشا” ـ “أهلا ياهندزه”. لقد صنع ضجيج الشارع، وتداخل الطبقات الاجتماعية هذه الفوضى في منح الألقاب. لذا فقد نرى أن البعض قد يخلع عليك لقبا لا يناسبك كأن يقول لك: “بعد إذنك يا كابتن”، أو “متشكر ياباشمهندس”. وقد يطغى على لغة الألقاب خاصة في لغة خطاب العاملين بالوظائف الحكومية مفردات مثل “معاليك” – “سيادتك” – “حضرتك” – “جنابك”.
ألقاب الشارع
وعلى الرغم من أن الألقاب قد ألغيت رسميا لكن الشارع مازال يمنحها لكل عابر وقاعد. ومن أكثر الألقاب شيوعا الآن “الباشا”، وهو لقب تركي عثماني، وهناك خلاف بشأن أصله الاشتقاقي. فقيل إنه من الفارسية (باد – شاه)، أي قدم الملك، وقيل إنه من (باش – أغا) بمعنى الأخ الكبير، أو من (باش) بمعنى الرأس. وقد استخدم في الدولة العثمانية لأمراء الولايات الكبيرة.
وفي مصر كان يطلق على الأعيان وكبار الملاك، ووكلاء الوزارات، ومحافظي الأقاليم. أما لقب بك فهو أيضا تركي. وقد عرفته مصر منذ أيام المماليك حيث كان يطلق على كبار رجال الدولة.
أستاذ وأسطى
أما كلمة أستاذ فبينها وبين كلمة أسطى علاقة. فأستاذ تعريب للكلمة الفارسية “أستا” التي تنطق مخففة، ومنها التركية “أوسته” التي أصبحت في العامية المصرية أسطى، وأسته التركية كانت تطلق على درجة من الجواري في قصر السلطان. كما استخدمت في مصر للإشارة إلى المغنيات. كما أطلق أيضا على الراقصات من العوالم. وليس غريبا أن نربط بين مفردة العوالم، والأستاذ، فالعوالم ربما من العلم. كما أن مفردة الأستاذ/ الأسطى تطلق على من يعرف القراءة والكتابة. كما تشير في الفارسية إلى المعلم القدير في العلم والفن.
والمتأمل للألقاب المنتشرة الآن ودلالة انتشارها بكيفيات مختلفة سيجد أن الفوضى تحكمها، وتحتاج أيضا إلى جمع ودراسة ضافية لجذورها وأصولها وأسباب وجودها، والانحرافات التي تمت على جذورها. كما سنلمح تغيرات حادة في أسماء أصحاب المحلات فاسم حسن وشركاه، أصبح حسنكو. وسنلحظ مجموعة من الاستبدالات بين المفردات الأجنبية التي استبدلت بالعربية. ومنها على سبيل المثال: ماركت بدلا من سوق. سنتر بدلا من مركز. كوافير بدلا من حلاق. سكول بدلا من مدرسة. وكذلك روضة الأطفال أصبحت kg1 و kg2. ولا تعجب حينما تجد اسما لمدرسة هكذا “مدرسة مودرن سكول”. وإذا ترجمناها ستصبح مدرسة حديثة. هذه الفوضى أيضا بحاجة إلى دراسة لآلياتها، خاصة لافتات المحلات التي تعكس تغيرا في لغة الشارع المصري يتجلى مرة في الألسنة، ومرة في عناوين محلاتهم، وثالثة في بيوتهم.
تغيرات المجتمع
إن المجتمع المصري يموج بتغيرات عميقة تجلت بوضوح في مجموعة من الملامح التي نلاحظها بقوة في لغة الشباب المسماة بلغة الروشنة. واصطلاح “الروشنة” يشير إلى عدة معاني. ففي اللسان “الراشن الداخل على القوم الآتي ليأكل… وهو الذي يتعهد مواقيت طعام القوم فيغترهم اغترارا وهو الذي يقال له الطفيلي”. من هذه المعاني هل نستطيع أن نعقد صلة بين “التطفل” وبين هذه اللغة الجديدة، بمعنى تطفلها على لغة مستقرة، والراشن هنا شخص خارج على الأعراف. وكذلك هذه اللغة التي تخرج عن أعراف وقواعد اللغة الفصحى والعامية لتخترع لنفسها مجموعة من المفردات المنحوتة، ومجموعة من التعبيرات الكنائية التي تقوم مقام تعبيرات ظلت مستقرة في عرف الاعتيادية.
هذا التأويل الذي أرجو ألا يكون مفرطا، ربما منحنا دلالة الخروج. بينما تمنحنا معاني معجمية أخرى ما نستطيع ترجيحه، ففي اللسان أيضا “رجل أريش، وراش ذو مال وكسوة والرياش القشر، وكل ذلك من الريش… راش صديقه يريشه ريشا إذا أطعمه وسقاه وكساه، وراش يريش ريشا إذا جمع الريش وهو المال والأثاث والريش والرياش واحد، وهما ما ظهر من اللباس، وريش الطائر ما ستره الله به. وقال ابن السكيت قالت بنو كلاب الرياش هو الأثاث من المتاع ما كان من لباس أو حشو على فراش أو دثار والريش المتاع والأموال”. والمعاني السابقة تتسق مع المعاني التي يطلقها الشباب على كل جديد من لبس أو غيرها، يقولون “لبسه رِوش قوى”، أو “مروِّش نفسه”، وكذلك “إيه الروشنهدى كلها”.
اختزال اللغة
هذه اللغة (الروشنة) تقوم أيضا على مبدأ الاختزال مستخدمة بعض الحيل البلاغية والإيقاعية أحيانا لعل منها الاستعارات التصريحية والمكنية، وبعض المجازات، فضلا عن الاشتقاق والنحت. ولنتأمل بعض مفردات هذا القاموس: استمورننج، وهي لفظ يقال في الصباح بغرض تناول الطعام أو التدخين، أو شرب الشاي، حتى يفيق الشاب من نعاسه، ومثالها “هاروح أعمل استمورننج على القهوة وجاي”. وواضـح القياس على الكلمة العامية “اسطباحه”/”اصطباحه”، واشتقاقها من “الصبح”. فقد تم إبدالها بكلمة morning بعد إضافة “إس” لها، فأصبحت “إستمورننج”. ومن هذا المعجم نرصد عبارة: الأبلتين لدع في دهاليز الحياة، وهي تدل على الخواء أوالفوضى في الحياة وغالبا ما تدل على الفَلَسْ، مثل “مفيش فلوس والابلتين لدع في دهاليز الحياة” أي أن الحياة أصبحت خربة.
مصطلحات مختلفة
ومن معجم لغة الروشنة : أعمل دماغ، والجملة تركيب مشهور عند المدخنين. ويقصد به الحالة المزاجية عند المدخن. فهم يقولون “عامل دماغ”. وقد أخذ هذا التعبير يتسع ليشمل غير المدخنين. فحين يُرى أحد الشباب سعيدا – مثلا – بعد مقابلة حبيبته فيقولون “باين عليه عامل دماغ”، وكذلك عامل دماغ بانجو، أو دماغ شِعْر، أو دماغ كورة… إلخ، وكأنها أصبحت دالة على حالة الإشباع من شيء.
ولم تتوقف لغة الشباب الجديدة، أو لغة الروشنة، حيث اتسع المعجم ليشمل على مفردات اصطلاحية متواترة بينهم لعل منها: “لول lol- يا أسطى –ها أموت – نورم – بتروِّل – يكراشcrush – wtf- إكس – فيمنست- ياصاحبى- يازميلى- يا شِق – قشطه- فل – سيكا- الفتى والهري- “خلصانه–أقطم- فريند زون–سيمب–توكسيك”. ومصطلحات أخرى تكتسب جزءا من سريتها وتمردها على لغة الآباء وسلطة التعليم، وتهز رصانة اللغة الرسمية. وهو ما سنقف عليه لنفك بعض شفراتها من خلال التعرف عليها من الشباب أنفسهم ربما استطعنا التواصل معهم وفهم أسباب تمردهم، الذي يتجلى في اللغة ويستتبعه تحطم مجموعة من الأقنعة التي ظللنا نحتفظ بها طويلا على وجه تاريخنا الاجتماعي.
اقرأ أيضا
لغة الشوارعية ..كسر رقبة البلاغة الرسمية