بورتريهات متخيلة(7): سمير غانم.. الضحك كلغة للحب
ربح سمير غانم العالم في رهان وقايضه بنكتة. لم يكن يحيل العالم إلى مسخرة أو إلى عدم، فهو لا يحمل أي خصومة تجاهه، لم يكن عبر النكتة يشيد أو يرمم صدعا في العالم، لأنه لا يحمل أي حكمة تجاهه. لأن مثله لا يرى القصور أو الخرائب، بغيته الوحيدة في تسكعه الطويل: إيفيه لامع.
بإيمان مبارك كهذا، لم يعد مطالبا بالبحث أو التسكع الطويل. كل ما عليه أن يفعل ليجد الإيفيه، أن يمد يدا في الهواء ليلتقطه، طازجا، مباغتا، مدهشا، كأنها نكتة لإله يحتاج إلى صوت بشري يعلن عبره عن لحظة رحمة في أرض منهكة بالقصور والخرائب، وقد وجد ضالته في جسد تمرن طويلا على تبديد كبريائه. هو الأحق أن تمطره السماء بالنكات، كزخات، إله من فرط رحمته، لا يمانع أن يرتد مطر نكاته إلى حلق السماء كلعنات وحجارة، لا يغضب، بل يضحك، لأن الضحك أولا وأخيرا لغة للحب.
سيرك الغرابة
في رحلة سمير غانم نتعلم شيئا عن كيف تعمل الموهبة، تتأخر حينا، تجرب، تغامر، تترنح، تتخمر ، قبل أن تصير عاصفة لا قبل للقنوع بما أوتي من هبة أن يناطحها، كل بإمكانه فعله أن يصمت، حتى تمر العاصفة.
تأخر طويلا قبل أن ينفجر بخفة دم استثنائية، كان عليه أن ينتهي من تدريب كل عضو في جسده محولا إياه إلى فرقة استعراضية كاملة، سيرك غرابة متنقل. الحاجبان كبرغوثين يثبان داخل علبة خشبية، حنجرة متلونة كصندوق موسيقى، مشية بساقين مقوستين، عطسة، باروكة، نظارات ضخمة.
في استعراض سمير غانم شبه الكامل، دعوة للطفل الذي ننكره جميعا، أن يعاد خلق العالم على هيئة سيرك، كلنا فيه متفرجون ولاعبون، تتوالى فصوله كفقرات مبهجة. شرط الانضمام، بسيط وصعب، ما تدرب عليه سمير غانم عمرا، أن نمزق ستارة الكبرياء الثقيلة، التي تعوقنا عن أن نحرر أجسادنا، تعمينا عن اكتشاف لغته التي اخترعها ليبادلنا الحب.
قناع
حبب إليه من دنيانا الأفلام والنساء، أخفى عنا واحدة.
خارج المسرح، أو ضرورة أن يستعرض قناعه كآلة إضحاك، أتخيله هكذا، متأمل، يميل للحزن، كما لو كان يبحث عن سر ضائع. تضحية حياته الكبرى، هي أنه لم يسمح له بكشف وجهه الجاد، ولا آلامه، بل ربما لم يتح لنفسه التفكير فيها، لو فعل لتعثر، عليه أن يكبتها دائما أو يحولها إلى نكتة، لكن نظرة ما تفلت منه، دقيقة، كاشفة، مرهقة، إذا ما استمرت طويلا، لأخبرناه: لا تكن مملا، أين سمير الذي نعرفه؟ أين حقيقتك؟
منذ التسعينيات، صار استحضار قناعه عذابا، عملية مضجرة، الصرخة الخافتة ترغب في أن تستولي على روحه وتعلن أنها وحدها حقيقته، لكنه كان أكرم من أن يقبل، الصورة لنا، الحقيقة له.
عبر القناع الذي حرر طاقاته، سجن خلفه شخصا آخر، يخصه، أعمق وأكثر رهافة، اطلاعا، حكمة، ألما. ربما عامل ذلك الشخص كخبيئته الخاصة، كنزه المضنون به، ربما تردد للحظات ليطلعنا عليه، وبدلا من ذلك فكر في إيفيه.
حب وصداقة
في صداقته لجورج سر عجيب، بفصلهما عن بعضهما البعض، افتقد شيئا، جبلا راسخا بإمكانه أن يحتوي عاصفته، مرآة للرزانة، تكشف عبر تناقضها معه، حجم جموحه. انفصالهما خطأ كبير. بينما لعب جورج دور دون كيشوت المثالي، صار سانشو أخيرا هو بطل القصة. لكن كيف يبلغ أحدهما أقصى طاقة له دون الآخر؟
كانت دلال هي طوق نجاته الذي فر منه مرات. أحب النساء، لكن امرأة واحدة خلقت لأجله، أكثر حكمة من سذاجتنا اليومية، فتعرف أي رجل بالضبط خلق لأجلها. حصن يختبر فيه انفجاره وسلامه، فيتماسك. في هديتيه لنا، دنيا وإيمي، لم يفرضهما علينا كإرث ثقيل الوطأة، بل أودعهما شيئا من خفة روحه ولطافة زوجته. لما كان يخشى الزواج؟ خوفا من خسارة الطفل اللاهي، أم الشاب الذي خسر فترة هامة قبل أن يكتشف وسامته ومكمن جاذبيته؟ أم حماية لحصن عزلته المهيب، الذي أعاد فيه اختراع نفسه؟
أعاد اختراعها؟ أم وجد جوهرها الفذ عبر تضييعها؟
في عالم سمير غانم يتساوى الجميع، الكامل والناقص، القبيح والجميل، كل شيء مطروح على طاولته كمزحة.
بتلك البراءة، تأمل، ورأى، فضحك، فأضحكنا.
اقرأ أيضا:
بورتريهات متخيلة(6): أحمد زكي.. جسد مضاء بجرح
أيام الشقاوة: ذكريات سمير غانم