في «المختبر الحضري الثالث»: كيف تصبح الإسكندرية عاصمة للفن؟
ناقش المختبر الحضري الثالث، الذي عقدته مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية مؤخرًا بمساحة شلتر بالإسكندرية، قضايا متعددة تخص المجتمع الحضري من جانب نخبة من الأكاديميين المتخصصين. في محاولة للتشبيك بين البيئة والعمران في ظل التطور الحضري المتسارع للمدن.. «باب مصر» يعرض بعضا مما نوقش من قضايا خلال المختبر.
التنقل الحضري بالإسكندرية
الدكتورة مي يحيى، الأستاذ بالأكاديمية البحرية، تحدثت في محاضرة بعنوان “قراءة في النسيج العمراني للإسكندرية”. إذ ترى أن الطبيعة الخصبة للأرض الزراعية في الإسكندرية، كان سببها أنها ربطت بفروع لنهر النيل، وكذلك بالبحر الأحمر، وهو الأمر الذي ساعد على التجارة الدولية والتي وصلت إلى الهند من خلالها، بجانب وجود طبيعة حمائية للمدينة بسبب وقوع البحر الأبيض في شمالها، وكذلك البحيرة في جنوبها وهضاب جزيرة راقودة (الإسكندرية قديمًا)، وجميع تلك العوامل ساعدتها على أن تصبح مدينة ذات اكتفاء ذاتي؛ سواء بسبب خصوبة أرضها أو بسبب أنها محمية طبيعيًا.
تأسيس الإسكندرية
وأوضحت يحيي أن الإسكندر الأكبر حين جاء إلى مصر، وجد أن جزيرة راقودة تقع على طرق التجارة المهمة، بالنسبة لإمبراطوريته، ولذلك اختار الإسكندرية كي تصبح مركزًا تجاريًا، يستطيع من خلاله نقل ثروات مصر من خلالها. بجانب أنه أراد أن يضفي إليها الطابع الهيليني “عندما أرادوا تأسيس مدينة الإسكندرية عملوا تخطيط مصبعي لها. ومن خلاله قاموا بتنفيذ طريقين رئيسيين إحداهم أسموه بطريق “كنوب”. والذي يمر من الشرق وصولا إلى الغرب، والآخر أسموه طريق “سوما”. والذي كان يمر من الشمال إلى الجنوب. وقد بلغ عرض الطريق الواحد 30 مترا. أما الطرق الأخرى في المدينة بلغ عرضها 15 مترا. وقد كانت هناك نقطة التقاء من خلال طريق سوما مع الطريق الكانوبي، وهذه المنطقة أصبحت مركزًا للمدينة. إذ تمت فيه جميع المعاملات التجارية في ذلك الوقت. وقد تأثر مهندس المدنية “دينوقراطيس” بالتخطيط العمراني المصري القديم، عند وضع رؤيته للمدينة.
العصر الروماني والإسلامي
أصبحت الإسكندرية بعد ذلك عاصمة لمصر في عصر الإمبراطورية الرومانية سنة 30 ق.م، ورغم هذا ظلت المدينة شعلة للتجارة وللعلوم، إلا إنها رغم هذا التطور العمراني الذي حدث هناك إلا إنها استطاعت الحفاظ على طابعها. وهذا ما كشفت عنه الآثار القديمة كالتي وجدت في كوم الشقافة.
وفي العصر الإسلامي وتحديدًا بعد أن انتهت الدولة الرومانية وأصبحت الإسكندرية مدينة عربية، فقدت المدينة أهميتها بشكل كبير. إذ لم تعد مركزًا مهمًا كما كانت، وقد انخفض عدد سكانها بشكل كبير جدًا، إلى أن وصل الأتراك إلى مصر، وصارت المدينة “تركية”. وقد استغل الترك وطوروا فيها ودشنوا الأسواق والسويقات، والحارات الضيقة، بجانب أنهم استغلوا المناطق الواقعة بين الميناء الغربي والشرقي للمدينة، وقد أعادوا تشكيل المنطقة مرة أخرى بعد فترة العصور الوسطى.
مدينة عالمية
وتابعت: تحولت الإسكندرية في الفترة ما بين 1869 و1956 إلى مدينة عالمية، وقد دخلت فيها التكنولوجيا خلال تلك الفترة، بجانب العلوم. إذ نشأت فيها طبقة عليا من التجار، بجانب ازدهار العلم وتدفق الأجانب. وقد وفد إليها الكثيرين بسبب حدوث أزمة في البحر المتوسط في القرن الـ19 أدت إلى حدوث هجرة كبيرة من مختلف الدول المطلة على المتوسط مثل: اليونانيين والأرمن والسوريين، واللبنانيين. وقد لجأوا جميعهم للإسكندرية التي كانت بالنسبة إليهم ملجأ، استقروا فيه فيما بعد، وظل الوضع هكذا بالنسبة للأجانب هناك إلى أن أممت قناة السويس.
تحديث الإسكندرية
أضافت يحيي، يجب أن نعترف أن محمد عليّ له الفضل في تحديث الإسكندرية وازدهارها. إذ طورها بعد سنوات من الإهمال، فعندما جاء نابليون بونابرت إلى مصر ذكر أن الإسكندرية ما هي إلا “قرية مهملة”. لكن محمد علي عندما بحث عن التمدين والتطور، جعل من الإسكندرية مدينة دولية، قريبة للأسواق العالمية. مما ساعد على تطورها السريع، خاصة وأن خلفائه أيضًا عملوا على تطوير المدينة؛ ومن ثم ازدهارها.
وكان هناك العديد من المشاريع التي غيرت من شكل المدينة؛ مثل إعادة بناء ميدان محمد علي، وكذلك الكورنيش، والحدائق الفرنسية، وأيضًا بدأت تدخل السيارات. ففي سنة 1905 كانت القاهرة تضم 110 سيارات، والإسكندرية 56. بجانب أن الإسكندرية كانت تضم نوادي للسيارات أشهرها نادي “Race”. وقد وصل أعضاء إحدى الأندية سنة 1924 إلى نحو 600 عضو، وبالتالي فالسيارات أصبحت هي “موضة العصر” في ذلك الوقت.
وخلال فترة الحرب العالمية الأولى كانت هناك سيارات كهربائية عرضت في شوارع الإسكندرية. ونتيجة لهذا التطور ظهرت وسائل نقل أخرى ومن أمثلتها “التروماي” والذي أنشئ سنة 1863 وكان يتكون من أربع عربات تجرها أربعة خيول إحداها كانت “First class” واثنان “second class” والعربة الرابعة كانت “third class”. وفي سنة 1904 تحول النظام وتم استخدام البخار في جرّ العربات بدلًا من الخيل، واستخدم الفحم، قبل أن يتم تحويله فيما بعد إلى الكهرباء وحتى وقتنا هذا.
ما بعد ثورة 1952
تحدثت مي عن أن الفترة التي أعقبت ثورة 1952 أقيمت العديد من المشاريع الهامة؛ منها إنشاء طريق النصر الذي ربط بين ميدان محمد عليّ والميناء. وكذلك إنشاء الطريق الدائري الذي ربط بين الطريق الزراعي والصحراوي، وأيضًا طريق قناة السويس الذي أنشئ على مدخل المدينة. لكن في فترة التحول بين الاشتراكية والرأسمالية، أصبحت السيارة هي رمز للملكية الخاصة، ورمز للرأسمالية الحديثة، فانتشرت في فترة سبعينيات القرن الماضي.
وخلال الفترة من 1998 إلى 2005 تم توسعة الكورنيش ليكون 5 حارات في كل اتجاه في محاولة لتخفيف الضغط على المدينة. ولكن رغم التوسعة إلا ذلك تسبب في إحداث ضوضاء في المدينة بصورة كبيرة.
فوضى المهاجرين
ترى يحيى أن الإسكندرية مرت بالعديد من التحولات نتيجة البناء العشوائي الذي ظهر مع فترة السبعينيات. وبدأ الأمر في التسارع بسبب فوضى المهاجرين، وبسبب البناء العشوائي داخل المدينة. وذلك الأمر استمر إلى عام 2011 وبعده أيضًا بدأت هذه الممارسات تتزايد بصورة أكبر، بسبب استغلال بعض الانتهازيين الفراغ الأمني.
وبدأ البناء غير المخطط على الأراضي الزراعية، مما سبب أضرارًا كبيرة. لذلك فالدولة تحاول خلال الوقت الحالي منع البناء العشوائي، بالإضافة إلى محاولتها لحل مشكلة البناء العشوائي من خلال تحسين وتطوير المنطقة العشوائية، أو إخلائها بالكامل لعمل أماكن بديلة.
ونتيجة للتغير الاجتماعي والاقتصادي، حدثت مشاكل أدت في النهاية لظهور العشوائيات. وقد تأثرت المدنية، وتأثر المنظر التاريخي للمدينة القديمة، وهو الأمر الذي أدى في النهاية إلى تدخل الدولة كي تجد سكنًا ملائمًا لهؤلاء من خلال بناء بنايات للإسكان الاجتماعي. وذلك للمحافظة على الحياة الاجتماعية للطبقات المتوسطة خاصة مع حدوث أزمات اقتصادية كبيرة، بالإضافة إلى ذلك بدأت الدولة في تشييد محور المحمودية منذ ثلاثة سنوات بطول 21 كيلو مترا.
وأشارت إلى أن توسيع الطرق أصبح ضرورة ملحة بسبب التكدس والضغط المروري. لكن الأمر هذا حدث على حساب المسطحات الخضراء، وكذلك المسطحات المائية الموجودة في ترعة المحمودية. فقد كان هناك الكثير من الاقتراحات منها استمرار المسطحات المائية، لأنه توجد خطط موضوعة لحل المشكلات المرورية فقط دون تغيير الشكل البيئي للمنطقة، فهذا الحل لم يراعِ البيئة المحيطة للموقع، لذلك فالدراسة اقترحت الإبقاء على الممر المائي الموجود عند ترعة المحمودية، بجانب التشجير حوله.
دور الفن في الأماكن العامة
شيماء رمزي، مدير مساحة شلتر، تحدثت في محاضرة بعنوان “دور الفن في المدن والأماكن العامة”، عن التخطيط العمراني من الناحية الإبداعية. إذ أوضحت أن مصر بدأت في تنفيذ هذه الفكرة مؤخرًا. وخصصت الحكومة منطقة باب العزب بالقاهرة لتصبح محطة مهمة لمجال الحرف والتصميم، وهذا يعني إعطاء الفن مساحة لتصبح المدينة وجهة للفن والإبداع. وقد طبقت الأمر العديد من المدن في الخارج داخل أجزاء منها وبالفعل، نجحت في تنفيذ الأمر بصورة كبيرة.
وأضافت أنه أصبح هناك في الوقت الحالي وجهة للفن لها مريدين يأتون إليها من أماكن شتى في العالم. وقد بدأ الأمر يدخل في التخطيط العمراني للمدن. ونحن في شلتر -على سبيل المثال- نسعى لأن يصبح شلتر أيضًا وجهة للفن في الإسكندرية، لذلك يجب تعريف كلمة “distination”. وهي تعني أن شخصًا ما قرر أن يترك مدينته لبعض الوقت ليتجه لواجهة جديدة لأن هناك شيء ما يريد أن يشاهده في هذه الوجهة. وبالتالي فنحن نسعى لأن يصبح أيضًا شلتر بمثابة وجهة للفن هو الآخر. إذ أردنا تقديم فن بصري، من خلال المصممين والمطورين داخل المكان.
وأصبح شلتر واجهة للكثيرين. يأتون إليه خصيصًا سواء من القاهرة أو المحافظات الأخرى، وبالتالي نحن نجحنا بدورنا في أن نصبح وجهة للفنون. لذلك أتمنى خلق مدن يصبح المكون الفني بداخلها جزء مهم من التطوير العمراني فيها، فهو عنصر بصري مهم للغاية، ويدعم الخطط العمرانية المبينة على الهندسة. فالمهندس المعماري هو المسؤول عن هذا الأمر لكن بالطبع يجب التمازج والمشاركة بين المهندسين المعماريين وبين الفنانين البصريين. لأنه في الوقت الحالي لا يحدث أي تواصل بين هذين التخصصين خاصة في المنطقة العربية، بالتالي يحدث قصور بشكل كبير نلاحظه من وقت لآخر.
عاصمة الفن
وذكرت رمزي أن باريس هي عاصمة للفن، وقالت: “هذا ما يقال عنها دائمًا. فما حدث أن فرنسا منذ أكثر من 60 عامًا تعاملت مع فكرة تسويق الفن، وقد تعاملوا مع كبرى شركات الدعاية لتسويق هذا المصطلح “مدينة الفن”. وبالتالي أصبح الناس متأثرين باللفظ هذا بعد مرور السنوات. وأصبحت باريس وجهة مميزة للموضة والأزياء، وأصبح لها مريدين يأتون إليها من جميع أنحاء العالم لمتابعة أسبوع الموضة في باريس”.
وتابعت: هناك مدن أخرى مثل: فينيسيا بإيطاليا، صارت وجهة هي الأخرى للفن. إذ إنها خططت لأن يصبح بينالي فينيسيا، مخصصًا للفن، وذلك من خلال تطوير فكرته من خلال المهندسين والمخططين، بجانب شركات الإعلانات. حتى أصبح في النهاية وجهة للفن، واستطاعوا بالفعل استقطاب الكثيرين لزيارة المدينة. فالفن هو أكبر مكون اقتصادي لتنمية المدينة، بجانب العمارة والمواصلات. ولكي يتحقق ذلك يجب تبني “Eco system” أي إقامة نظام متكامل لفهم الأشياء. ولكي يتحقق ذلك يجب أن يحدث فهم للمنظومة بشكل كامل. من خلال التعامل مع المصورين والرسامين، ومع الفنانين البصريين، وكذلك الموسيقيين لتحقيق تطوير للمدينة بشكل يمكن من خلاله تحويلها إلى وجهة. لكن بالطبع يجب أن يكون المطور على علم بخفايا واحتياجات المدينة كي يتمكن من الارتقاء بها بصورة جيدة، ويكون ملم بالأبعاد الاجتماعية للمدينة.
كهربة الميني باص
ألقى عبدالرحمن حجازي، مخطط عمراني، محاضرة عن “إمكانية كهربة الميني باص في المدن الإفريقية”. إذ تحدث عن ضرورة التحول لكهربة السيارات نتيجة للتغير المناخي وكذلك ظاهرة الاحتباس الحراري. “الحكومة والمجتمع الآن يعملون على الحد من مشاكل الانبعاثات هذه. وقد لجأنا لاستخدام الغاز الطبيعي نظرًا لأن له أثر أقل من غيره من المواد البترولية كالديزل”.
وتابع: هيئة النقل العام -على سبيل المثال- أسطولها المكون من أتوبيسات قديمة ينقرض وينقص خلال الوقت الحالي. وذلك نتيجة أن هذه العربات لا تتوقف، وبالتالي تحاول الهيئة تطوير العربات التي لديها مع وضع مشروع نقل مستدام، لتوفير الخدمات بصورة جيدة مع تقليل الانبعاثات من الكربون، وكذلك الاعتماد على مشروعات مترو الأنفاق.
الطاقة المتجددة
وقال: لدينا العديد من خدمات النقل. لكننا هنا نعتمد على خدمات النقل الجماعي. إذ إن النقل الخاص لا يتعدى الـ10%في القاهرة و12% في المحافظات. وبالنسبة للميكروباصات، فهي تسيطر على حوالي ثلثي الرحلات في مصر، وهذا يرجع لعدة أسباب منها أن الميكروباصات تستخدم مسافات أقصر من أية وسيلة نقل أخرى. بجانب أنها لها نقاط محددة معروفة للجميع، وليس لها جدول محدد للتحرك، لكنها مستجيبة بشكل كبير للطلب. فيكاد يخرج كل 4دقائق ميكروباص للخط الواحد في بعض الأوقات. وهي بالطبع ميزة غير موجودة في وسائل النقل الأخرى، وهذا الأمر مكن تلك الوسيلة من “السيطرة”.
لكن بالرغم من ذلك، فوسائل النقل الجماعية هي وسائل نقل غير جذابة ولا تحقق أي راحة بالنسبة للكثير، لكن تفضيل السكان لوسائل النقل الجماعية سببه هو الحالة الاقتصادية. فكثير من المصريين ليس لديهم قدرة لشراء سيارة، لذلك يستقلون وسائل النقل الأخرى.
لكن السؤال هو كيفية كهربة الميكروباصات؟. فهذه العربات ليس لها جراج ثابت. وبالتالي يجب أن نفكر في طريقة لشحن هذه السيارات، في أماكن محددة، لنجاح الفكرة. فالحكومة وضعت خطة سنة 2035، وهي تهدف إلى تقليل حرق المواد البترولية قي قطاع الطاقة بنحو 23%. لكن الخطة هذه لم تضع في إستراتيجيتها أي شيء عن فكرة النقل بالكهرباء، أو جذب استثمارات لتنفيذ هذا المقترح. فنحن عندنا فائض يصل إلى 85% من الكهرباء. وهذه الزيادة يمكن أن تسهل لنا، طرق لاستكشاف الطاقة المتجددة دون التخوف من انقطاع الكهرباء أو غيره.
عوائق الكهرباء
تحدث حجازي عن أن تكلفة استخدام وسائل نقل تعمل بواسطة الكهرباء مكلفة للغاية. إذ إن ثمن الميكروباص الديزل يصل في الوقت الحالي لحوالي 900 ألف جنيه، وهذا عائق يجعل من الضرورة جمع الموارد لتدعيم مثل هذه الأفكار. بالإضافة إلى ذلك فيجب تقديم حلول محلية نتيجة أن درجة الحرارة داخل بعض البلد قد تصل لخمسين درجة مئوية خلال السنوات المقبلة. وبالتالي فهذه البطاريات المستخدمة داخل السيارات تحتاج لنظام تبريد داخلي.
وهذه حلول يجب أن تقدم من جانب المجتمع المحلي، لإنجاح مثل هذه الأمور. لأن فكرة استيراد حلول من دول خارجية قد لا تناسبنا داخل مجتمعنا بسبب اختلاف ظروف كل دولة عن أخرى. وهو أمر من الضروري الإلمام به حتى لا يحدث فشل لمثل هذه المشاريع.
2 تعليقات